تحرير سيناء انطلاقة للتنمية بعد سلام الانتصار، احتفالية بإعلام الخارجة    الزراعة: البن المصري حلم يتحقق بعد عقود من التجارب وندرس الجدوى الاقتصادية    قرار عاجل من تعليم القاهرة بشأن تطبيق التوقيت الصيفي ومواعيد الامتحانات    عزة مصطفى تكشف موعد نهاية تخفيف أحمال الكهرباء (فيديو)    إسرائيل تعلق على استئناف ألمانيا تمويل "الأونروا"    صندوق النقد الدولي يدشن مكتبه الإقليمي في السعودية    إعلام عبري: مجلس الأمن الإسرائيلي بحث سرا سيناريوهات اعتقال نتنياهو وجالانت وهاليفي    الرئيس السيسي يشهد انطلاق البطولة العربية العسكرية للفروسية    رياضة دمياط تستقبل بطولة قطاع الدلتا المفتوحة للكيك بوكسينج برأس البر    اعتادت إثارة الجدل، التحقيقات تكشف تفاصيل اتهام البلوجر نادين طارق بنشر فيديوهات خادشة للحياء    الذكاء الاصطناعي وإحياء الموتى بشكل افتراضي!    رانيا يوسف لمنتقدي ملابسها: لن أغير ذوقي من أجل أحد    منح دولية وعروض جوائز إضافية بمهرجان بؤرة المسرحي في جامعة دمنهور    غدًا، قافلة طبية مجانية بقرى الفرافرة ضمن مبادرة "حياة كريمة" بالوادي الجديد    "مواجهته كابوس".. علي فرج يعلق على هزيمته لمحمد الشوربجي ببطولة الجونة الدولية للاسكواش (فيديو)    "تدعو لتدمير إسرائيل".. نتنياهو يهاجم المظاهرات الداعمة لفلسطين بالجامعات الأمريكية    موعد إجازة شم النسيم 2024 في مصر.. وتواريخ الإجازات الرسمية 2024    وزير الاتصالات يؤكد أهمية توافر الكفاءات الرقمية لجذب الاستثمارات فى مجال الذكاء الاصطناعى    بدءا من الجمعة، مواعيد تشغيل جديدة للخط الثالث للمترو تعرف عليها    سبورت: برشلونة أغلق الباب أمام سان جيرمان بشأن لامين جمال    تردد قناة الجزيرة 2024 الجديد.. تابع كل الأحداث العربية والعالمية    بروتوكول تعاون بين «هيئة الدواء» وكلية الصيدلة جامعة القاهرة    صراع ماركيز ومحفوظ في الفضاء الأزرق    مدير «مكافحة الإدمان»: 500% زيادة في عدد الاتصالات لطلب العلاج بعد انتهاء الموسم الرمضاني (حوار)    هل تقتحم إسرائيل رفح الفلسطينية ولماذا استقال قادة بجيش الاحتلال.. اللواء سمير فرج يوضح    السيد البدوي يدعو الوفديين لتنحية الخلافات والالتفاف خلف يمامة    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    دعاء الستر وراحة البال والفرج.. ردده يحفظك ويوسع رزقك ويبعد عنك الأذى    خالد الجندي: الاستعاذة بالله تكون من شياطين الإنس والجن (فيديو)    أمين الفتوى: التاجر الصدوق مع الشهداء.. وهذا حكم المغالاة في الأسعار    إدخال 215 شاحنة إلى قطاع غزة من معبري رفح البري وكرم أبو سالم    متحدث «الصحة» : هؤلاء ممنوعون من الخروج من المنزل أثناء الموجة الحارة (فيديو)    أزمة الضمير الرياضى    بعد إنقاذها من الغرق الكامل بقناة السويس.. ارتفاع نسب ميل سفينة البضائع "لاباتروس" في بورسعيد- صور    منى الحسيني ل البوابة نيوز : نعمة الافوكاتو وحق عرب عشرة على عشرة وسر إلهي مبالغ فيه    منتخب الناشئين يفوز على المغرب ويتصدر بطولة شمال إفريقيا الودية    تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "شقو"    البورصة تقرر قيد «أكت فاينانشال» تمهيداً للطرح برأسمال 765 مليون جنيه    سيناء من التحرير للتعمير    فوز مصر بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    العروسة في العناية بفستان الفرح وصاحبتها ماتت.. ماذا جرى في زفة ديبي بكفر الشيخ؟    أوراسكوم للتنمية تطلق تقرير الاستدامة البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات    عيد الربيع .. هاني شاكر يحيى حفلا غنائيا في الأوبرا    توقعات برج الثور في الأسبوع الأخير من إبريل: «مصدر دخل جديد و ارتباط بشخص يُكمل شخصيتك»    حكم الاحتفال بشم النسيم.. الإفتاء تجيب    هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية: تلقينا بلاغ عن وقوع انفجار جنوب شرق جيبوتي    تضامن الغربية: الكشف على 146 مريضا من غير القادرين بقرية بمركز بسيون    خدماتها مجانية.. تدشين عيادات تحضيرية لزراعة الكبد ب«المستشفيات التعليمية»    مديريات تعليمية تعلن ضوابط تأمين امتحانات نهاية العام    الصين تعلن انضمام شركاء جدد لبناء وتشغيل محطة أبحاث القمر الدولية    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    تفاصيل مؤتمر بصيرة حول الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادي للمرأة (صور)    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    هل يجوز أداء صلاة الحاجة لقضاء أكثر من مصلحة؟ تعرف على الدعاء الصحيح    تقديرات إسرائيلية: واشنطن لن تفرض عقوبات على كتيبة "نيتسح يهودا"    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    ضبط 16965 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    «التابعي»: نسبة فوز الزمالك على دريمز 60%.. وشيكابالا وزيزو الأفضل للعب أساسيًا بغانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمامة الفتي
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 01 - 2010

كان اسمها أصبهان‏..‏ سفينة فرنسية فقيرة حقيرة رخيصة كان اختيارها لونا من الاقتصاد‏,‏ وكانت مرحة تحب الرقص في البحر‏,‏ وتحسن اللعب علي أمواجه‏,‏ ولا تحفل بما يلقي ركابها من عقاب حبها للعب والرقص‏. وكانت تؤثر المهل علي العجل‏,‏ وتفضل الأناة علي السرعة‏,‏ وكانت السفن تعبر البحر بين الإسكندرية ومارسيليا في أربعة أيام‏,‏ أما أصبهان فكانت تحب البحر وتؤثر أن تعبره في ثمانية‏..‏ و‏..‏ صعد الفتي في عام‏1914‏ إلي أصبهان يتعثر في جبته وقفطانه‏,‏ ولم يكد يبلغ غرفته في الدرجة الثانية ويسمع الجرس المؤذن بقرب الإقلاع حتي خرج من جبته وقفطانه وتخفف من عمامته ودخل الزي الأوروبي ليشغله الزي عن إقلاع السفينة واضطرابها حتي أتمت رحلتها إلي مارسيليا‏,‏ بداية مشوار مغامراته التي عرف أولها ولم يعرف لها آخر‏.‏
كانت عمامة الفتي طه حسين حتي لحظة أن ألقي بها في البحر الأبيض وهو في طريق بعثته إلي فرنسا تمثل له حياته الأزهرية الأولي‏,‏ وثقافته التقليدية القديمة‏,‏ وهو عندما خلعها لم يكن بفعلته قاصدا احتقارا لها أو إعلانا لانفصاله الكامل عن ثقافته الأولي‏,‏ بل تعبير عن الطموح لخوض معركته مع الثقافة الأوروبية الحديثة في فرنسا بقوة ونجاح وقدرة علي التخلص من جميع القيود‏..‏ خلع طه العمامة وخلعها معه عدد كبير من زملائه الذين كان لهم فعالية التأثير في حركة الثقافة والفكر في مصر ومنهم أحمد أمين‏,‏ وزكي مبارك‏,‏ وأحمد حسن الزيات الذي كان أزهريا معمما ثم انتقل إلي الطربوش وسافر إلي باريس وترجم عن الفرنسية عددا كبيرا من روائع الأدب العالمي منها آلام فرتر للكاتب الألماني الشهير جوتة‏..‏ وامتدت حركة خلع العمامة بعدها إلي أجيال متتالية فخلعها سيد قطب وسعيد العريان ومحمود حسن إسماعيل وعباس خضر وكامل الشناوي وغيرهم الكثير من الأدباء والمفكرين الذين كانوا قد ارتدوا العمامة في بدايات حياتهم الدراسية وهم في السن الصغيرة‏..‏ ويأتي وصف أحمد أمين لمشاعره الطفولية مع العمامة في مذكراته الشخصية‏:‏ ها أنا في سن الرابعة عشرة تقريبا‏,‏ يلبسني أبي القباء والجبة والعمة والمركوب بدل البدلة والطربوش والجزمة‏,‏ ويكون منظري غريبا علي من رآني في الحارة أو الشارع‏,‏ فقد عهدوا أن العمامة لا يلبسها إلا الشاب الكبير أو الشيخ الوقور‏,‏ أما الصغير مثلي فإنما يلبس طربوشا أو طاقية‏..‏ ومما آلمني أني أحسست بأن العمامة تقيدني فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال ولا أمرح كما يمرح الفتيان‏,‏ فشخت قبل الأوان‏,‏ والطفل إذا تشايخ كالشيخ إذا تصابي كلا المنظرين ثقيل بغيض‏,‏ كمن يضحك في مأتم أو يبكي في عرس‏!.‏ ويظل الأستاذ المفكر أحمد أمين صاحب الثلاثية فجر الإسلام وضحي الإسلام وظهر الإسلام مرتديا العمامة والقفطان إلي أن يصبح أستاذا للأدب العربي في كلية الآداب عام‏1944‏ ليتساءل بعقلانية شديدة عما إذا كان هذا الزي الذي كان يناسبه وهو قاض شرعي قد أصبح يناسب الآن منصبا مدنيا بحتا‏,‏ ويطيل التفكير في الأمر ويستشير أصحابه‏,‏ فنفسه لم تتعلق بشدة بهذا الزي أو ذاك‏,‏ وهو لا يرتدي هذا الزي أو غيره تقليدا أو خيلاء أو رغبة في الظهور‏,‏ وإنما يريد فقط أن يرتدي الزي المتفق مع عمله‏..‏ و‏..‏يخلع أحمد أمين عمامته ليرتدي الطربوش‏,‏ وكانت لعمامته تلك أبلغ التأثير في ثورة‏1919‏ عندما اشترك في المظاهرات التي ترمي إلي التقريب بين الأقباط والمسلمين‏:‏ فأركب عربة وأنا بعمامتي أصطحب فيها قسيسا بملابسه الكهنوتية ونحمل علما فيه الصليب والهلال‏.‏
و‏..‏ من بعد إلقاء الشيخ طه لعمامته في البحر المتوسط بعشرين عاما اندلعت المعركة الفكرية والاجتماعية بين العمامة والطربوش وانقسم المجتمع المصري في الثلاثينيات بين أوساط الطلبة والموظفين إلي فريقين‏..‏ فريق من أنصار العمامة‏,‏ والآخر من أنصار الطرابيش‏,‏ وقاد المدرسون ثورة الطرابيش فخلعوا العمامة ليغدو غالبية المدرسين في المدارس الأولية والإلزامية من المطربشين الذين اتجهوا إلي تعليم أبنائهم تعليما حديثا ليصبح الكثير من الأطباء والمهندسين وخريجي الحقوق الذين جلسوا علي مقاعد الوزارة من أبناء المدرسين الإلزاميين الذين ثاروا علي العمامة في سبيل الطربوش‏..‏ الطربوش الذي صرخ نجيب الريحاني لاسترداده في فيلم غزل البنات في أحرج لحظات الامتهان عندما كان يلقي به إلي أرض الطريق وكأن في استعادته لطربوشه عودة لكرامته المهدرة‏,‏ وتروي سوزان طه حسين عن زوجها أنه كان من أشد المعجبين بفن نجيب الريحاني حريصا علي حضور مسرحياته‏,‏ وعندما قام الأديب والمفكر الفرنسي أندريه جيد بزيارة مصر صحبه إلي مسرح الريحاني وكان طه يقوم بترجمة وقائع التمثيل له‏,‏ ولابد أن أداء الريحاني قد أثر في أندريه لطلبه مقابلة الفنان الفذ في مقصورته للتعبير له عن سعادته الكبيرة بما رآه‏,‏ ويومها شد طه حسين بدوره علي يد الريحاني مطريا أداءه واعدا بحضور مسرحيته مرة أخري‏.‏
وكان الوالد في شرحه لنا عن دلالات وضع زر الطربوش أنه بانسداله إلي الأمام ما يؤكد الالتزام وتقديم فروض الطاعة والولاء لمن يمثل بين يديه صاحب الطربوش‏,‏ أما وضع الزر علي الجنب ففيه ما يعكس مظهر المهابة والشموخ والجلال‏,‏ وإذا ما طوح الطربوش بزره إلي الخلف فذلك مظهر للاستهتار وعدم وضع من تتحدث إليه في عين الاعتبار‏..‏ وفي حال ما إذا أوتي بالطربوش كله مع زره إلي الأمام ليغطي الحاجبين ويكشف القفا فصاحبه مبسوط وآخر تمام‏..‏ وبملاحظاتنا للقطات الوالد المختلفة في صور المناسبات التي تصطف فيها عشرات الطرابيش الجالسة بعظمة في الصف الأول‏,‏ تليها صفوف لا يكاد أصحاب الصف الأخير فيها يبدون إلا بأطراف طرابيشهم‏..‏ بملاحظة طربوش الوالد فيها وجدناه يطول ويقصر تبعا لموضات السنين‏,‏ ولأن بيتنا القديم كان في شارع السرجاني بالعباسية الشرقية فقد كانت ساحة لعبنا تمتد في الاستغماية مع امتداد الأسفلت إلي الطريق المجاور شارع مصنع الطرابيش الذي اتخذ اسمه في الثلاثينيات عندما أعلن أحمد حسين وفتحي رضوان من زعماء حزب مصر الفتاة القديم عن إنشاء مشروع وطني هو مشروع القرش هدفه جمع التبرعات والمساهمات لإقامة أول مصنع للطرابيش في مصر يقدم إنتاجه الوطني بأيدي أبناء مصر التي كانت تستورد طرابيشها حتي ذلك الوقت للأسف من النمسا‏,‏ ونجح بحمد الله المشروع المصري القومي وتم إنشاء المصنع الضخم للطرابيش الذي غطي إنتاجه المتقن جميع احتياجات المطربشين في مصر وقتها ومنهم رجال الجيش والبوليس والقضاء‏,‏ وكان المصنع يخصص خط إنتاج لطرابيش الأطفال للأعياد وطرابيش مسيرات الطرق الصوفية في الموالد‏..‏
وبالبحث والتقصي عن أصل كلمة طربوش وجدناها فارسية تتألف من سر بفتح السين‏,‏ ومعناها الرأس وبوش ومعناها غطاء الرأس وبذلك يكون معني الكلمة مجملا هو غطاء الرأس‏,‏ وكان السربوش الذي أصبح الطربوش خاصا بالنساء وحدهن في تركيا قديما‏,‏ وبعدها أصبح خاصا بالرجال وسمي فس بكسر الفاء وذلك نسبة إلي مدينة فاس المغربية التي اشتهرت بإنتاج الصبغة الحمراء المستخدمة في صباغة جوخ الطرابيش‏,‏ ومن هنا جاءت تسمية الطربوش في الإنجليزية باسم‏fez,‏ ورغم انتصار الطربوش الأحمر ليعلو هامة المصريين منذ أوائل القرن الماضي ليغدو سمة لالمصري أفندي الممسك بسبحته في رسوم الكاريكاتير السياسي للفنان صاروخان حتي وصل الأمر بالمصريين في العشرينيات والثلاثينيات إلي اعتبار الطربوش رمزا للشخصية المصرية‏,‏ وعندما طالب البعض بارتداء القبعة بدلا منه ثار سعد زغلول قائلا إن من يبدلون شعارهم بشعار غيرهم كمثل الذين تبرأوا من أنسابهم وهاجمهم العقاد بقوله من سقوط الهمة أن يتواري المرء تحت القبعة خجلا من جنسه‏..‏ إلا أن بعض الشخصيات البارزة قد تمسكت بعمامتها مثل الشيخ مصطفي عبدالرازق الذي تعلم في باريس وأتقن فرنسية أهلها وهو أول معمم في مصر يشغل منصب الوزير في وزارة الأوقاف لعدة مرات‏,‏ وبعد رحيله عام‏1946‏ تولي مكانه شقيقه الشيخ علي عبدالرازق عام‏1948‏ والشيخ محمد عبده الذي لم يخلعها حتي في باريس بعد نفيه من مصر في أواخر القرن التاسع عشر‏,‏ وفي العاصمة الفرنسية كان يرتاد حفلات الأوبرا بعمامته بصحبة الأميرة نازلي فاضل الأمر الذي لم يثر دهشة الفرنسيين بمفهوم حرية الإنسان في ارتداء زيه المفضل‏.‏
ويصف طه حسين لقاءه بالشيخ محمد عبده عندما لم يكن قد تجاوز الرابعة عشرة وحضر له درسين في رواقه بالأزهر كانا آخر درسين للأستاذ الجليل‏..‏ قال طه عن محمد عبده‏:‏ كان سيد الأزهر دون منازع‏,‏ وكان محبوبا من قلة قليلة‏,‏ مرهوب الجانب من الجميع‏,‏ ولكنه كان يدير الجامعة العريقة ويبث فيها حياة جديدة ويطبعها بطابع العصر بحزم لا يتزعزع ولكن بلباقة لا متناهية‏,‏ وهاتان هما الصفتان اللتان تميز بهما ذلك المصلح العظيم الذي كان يمقت أي عمل يتصف بالعنف لكنه كان كارها لجمود الفكر والتوقف الذي هو أشبه بالتقهقر‏,‏ ومن هنا بدأ بأن أدخل في برنامج التعليم الأزهري عددا من المواد التي من شأنها أن توسع الفكر وهي التاريخ والجغرافيا والأدب ومبادئ الحساب والرياضيات‏,‏ وإن حرم علي نفسه كما حرم علي غيره ذكر الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية‏,‏ فقد كانت تلك الأسماء يقف لها شعر رأس ذلك الجيل من الأزهريين الذين كانوا يعتقدون أن كل المواد التي تدرس في المدارس المدنية لابد أن تؤدي إلي التهلكة‏,‏ ولاشك أن الشيخ محمد عبده قد هز العالم الإسلامي بأسره وأيقظ العقل الشرقي وعلم الشرقيين أن يحبوا حرية الفكر‏,‏ وكنت قد عقدت العزم علي أن أواظب علي الاستماع إلي دروسه‏,‏ ولكن الصحف ويا للأسف نشرت في اليوم نفسه حديثا للخديو ألقاه علي جمع من الفقهاء حمل فيه حملة شعواء علي كل تجديد وكل مجدد‏,‏ وكان الشيخ محمد عبده هو الوحيد المقصود‏,‏ فأدرك مغزي التحذير وأوقف دروسه انتظارا ليوم أفضل لم يأت قط‏,‏ ففي الحادي عشر من يوليو من عام‏1905‏ توفي الشيخ محمد عبده مريضا بالسرطان‏.‏
وكان مصطفي كمال أتاتورك عندما قضي علي الخلافة العثمانية قد ألغي الطربوش الذي كان سائدا في تركيا حتي العشرينيات وفرض قسرا ارتداء القبعة‏,‏ وكان انفعاليا في حربه ضد الطربوش حتي إن أوامره قد صدرت بالسجن والتشريد والطرد من الوظيفة لكل من تسول له نفسه حنينا للأحمر أبو زر‏,‏ هذا رغم أن الأتراك هم من بدعوه وعنهم أخذه المصريون‏,‏ وكادت تقوم أزمة دبلوماسية بين مصر وتركيا في العشرينيات عندما قام أتاتورك بطرد الوزير المفوض المصري في أنقرة في حفل رسمي لأن الأخير قد حضر الحفل مرتديا طربوشه المصري‏,‏ وعندما طلب منه أتاتورك خلع الطربوش رفض الوزير مفضلا حدوث الأزمة علي خلع رمزه القومي‏..‏ وبدأت رياح التذمر من الطربوش تهب تباعا خاصة في أوساط الشباب لتقوم المظاهرات التي تهتف بسقوط الطربوش‏,‏ ومع بدايات الزهد في ارتدائه حتي بين الكبار أيضا أصبحت الغالبية لا تكبسه علي رأسها وتكتفي بتطويحه في يدها ثم تعليقه علي أول شماعة تقابلها بمجرد دخولها في أي مكان في البيت أو القهوة أو النادي‏,‏ وكثيرا ما عاد الوالد بطربوش غير طربوشه يظل ينكره من اتساع أو ضيق دائرة الخوص الداخلية‏,‏ أو من هبوط الحافة علي أرض الجبهة أكثر مما قدر لها‏,‏ أو أن عرقا مزمنا قد علق بالمحيط‏,‏ أو أن احمراره أكثر توهجا أو أشد قتامة‏..‏
وكان أفندي الوزارة غالبا ما يسهو عليه اصطحاب طربوشه معه من البيت فإذا ما استدعاه سيادة المدير يسارع الساعي بمناولته طربوش الاستعارة الموضوع علي الرف لزوم المقابلة الرسمية‏,‏ وعلي ذكر العمة حتي وقتنا الحالي فإنه عندما يستقيل أحد وعاظ وزارة الأوقاف لابد أن يسلم عهدته من عمامة وكاكولة لزوم إخلاء الطرف‏.‏
وينضم إلي صحبة شيوخ العمامة علي الجانب الآخر رواد أعادوا للغناء المصري والعربي أسلوبه الحضاري المتقن كما أشار المؤرخ عبدالنور خليل في دراسته الرائدة حول المعممين في ساحة الطرب علي رأسهم في فترة الحملة الفرنسية الشيخ شهاب الدين محمد إسماعيل صاحب كتابه الجامع سفينة شهاب الذي ضم فيه المئات من التواشيح الأندلسية لم يكن عالم الطرب يعرف عنها شيئا‏,‏ والشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب‏,‏ ويعود إليهما الفضل في تخلص الغناء المصري والعربي من دروب الغناء العثماني والفارسي وفتح الطريق أمام زحف أجمل حناجر الغناء التي بدأ أصحابها حياتهم كمنشدين لقصائد المديح النبوي والتواشيح‏,‏ بل كان منهم علماء أفاضل ارتادوا مجال كتابة الأغاني مثل الشيخ عبدالرحمن قراعة مفتي الديار المصرية الذي غني من قصائده عبده الحامولي‏,‏ وكان هناك الشيخ عبدالله البشري شيخ الأزهر الذي غني له الشيخ أبوالعلا محمد‏..‏ المشايخ الرواد طوعوا التراث الصوفي الديني للغناء الدنيوي وعلي رأسهم عبده الحامولي الذي أتي للأزهر من قرية حامول بالوجه البحري ليوسع دائرة دراساته الدينية ويستمر في تلاوة القرآن والمشاركة في الإنشاد الديني ليغدو الحامولي بعدها ألمع مطربي مصر‏,‏ حيث يلتف حول صوته خيرة شعراء مصر ليغني كلماتهم ومنهم محمود سامي البارودي وإسماعيل باشا صبري‏..‏ وهناك الشيخ سلامة حجازي شيخ الطريقة الراسية مؤذن جامع الأباصيري وأبوالعباس المرسي بالإسكندرية‏,‏ والذي كان بطلا لمسرحية هاملت الممصرة إلي مي وهوراس علي مسرح دار الأوبرا عام‏1885..‏ والشيخ سيد درويش الذي ارتدي في بداياته الجبة والعمة والقفطان وظل يحمل لقب الشيخ سيد حتي بعد ارتدائه للطربوش‏,‏ وكانت ثورة غناء وألحان الشيخ سيد بمثابة الإيذان بتخليص الغناء المصري تماما من الطابع الديني ورفده بمشاعر الحياة الاجتماعية العامة الغنية بأساليب التعبير الطازجة‏..‏ و‏..‏الشيخ علي محمود الذي أعاد ربط الغناء بالتراث الصوفي فكأنه أعاد اكتشاف النبع من جديد‏,‏ ويحكم عليه الخبراء بأن صوته كان من أغني الأصوات في عصره والعصور التالية بل والعصور السابقة عليه‏,‏ وأنه كان الصوت الوحيد الذي يحفل بإمكانيات تخت كامل فيغني كأنه القانون أو العود أو الناي أو المزمار أو الكمان‏..‏ والشيخ محمد القصبجي عاشق العود الذي خلع العمامة وتطربش ليجلس علي مدي نصف قرن خلف أم كلثوم واسطة عقد تختها فلا تبدأ الغناء حتي تمتلئ أذنيها بنغمات أوتار القصبجي الذي حطم والده عوده صبيا ليغلق عليه جميع المنافذ لدفعه لاستكمال دراسته الأزهرية‏,‏ فصنع لنفسه من ورائه عودا باع من لحنه العبقري إن كنت أسامح وأنسي الأسية مليون اسطوانة بصوت أم كلثوم‏..‏ والشيخ زكريا أحمد الذي قضي بالأزهر ست سنوات من السادسة إلي الثانية عشرة وحفظ القراءات السبع التي لابد في استيعابها بمعرفة رموزها العريقة‏:‏ وللدال كلم كرب سهل وكأشر‏..‏ صفا ثم زهد صدفة ظاهر حلا‏,‏ وطرد الشيخ زكريا من الأزهر لضبطه جالسا في المقهي يغمس البسطرمة بالعيش الأفرنكي بينما يرتدي الكاكولة والعمامة‏..‏ وغيرهم وغيرهم‏..‏ والشيخ سيد مكاوي ابن البائع المتجول في عابدين الذي كون فرقة من المشايخ الصغار لإحياء الموالد والمناسبات الدينية التي كانت النواة لأنغام الليلة الكبيرة مع صلاح جاهين‏:‏ يا غزال يا غزال العشق حلال دوبني أنا دوب وطار في الهوي شاشي وانت ماتدراشي‏..‏ يا جدع‏,‏ وتأتي فرصة الشيخ سيد مكاوي مع أم كلثوم متأخرة وهي تؤذن بالرحيل فتغني له يا مسهرني التي استبعد فيها جميع الآلات الكهربائية من أورج أو جيتار ملتزما بالنغمة الشرقية الأصيلة‏,‏ ويلحقها بأغنيته أنساك يا سلام أنساك ده كلام أهو ده اللي مش ممكن أبدا ولا أفكر فيه أبدا‏,‏ دا مستحيل قلبي يميل ويحب يوم غيرك أبدا أبدا أبدا‏...‏
ويجيب الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية حول ارتباط مظهر الشيخ بالجبة والعمامة فيقول‏:‏ أري أن زي الشيخ التقليدي زي ارستقراطي يحتاج إلي خدمة‏,‏ ولكن مع صعوبة المواصلات والتحرك بالجبة بداخلها وقلة الخدمة في عصرنا اتجه الشيوخ لارتداء الأزياء المألوفة وأنا كمثال والكلام في عام‏1999‏ ارتدي الجبة والعمامة فقط يوم الجمعة عندما ألقي خطبة الجمعة في مسجد السلطان حسن أو في الخارج لتمثيل مصر في المؤتمرات الدينية الدولية وحول الزي الرياضي وممارسته لرياضة التنس أجاب‏:‏ بدأت رياضة التنس في النادي الرياضي ببني سويف بلدي منذ التاسعة عندما اشتري لي والدي مضربا بجنيه ونصف فاعتبرته دافعا لرياضة التنس التي مكثت أمارسها سنوات بنادي الصيد المجاور لي بعد أداء صلاة الفجر‏,‏ لكني توقفت بعد إصابة ساقي بتمزق شديد الكلام في عام‏1999‏ والآن أمارس رياضة المشي يوميا فقط‏....‏ وقبل رحيل المذيع الشهير أحمد فراج الذي قرب إلينا صورة الشيخ وجعلنا نطمئن إلي عمامته ولا نهاب جبته وقفطانه علي مدي سنين طويلة في برنامجه التاريخي نور علي نور قال فراج للزميلة الصحفية مني الدحة حول مظهر الشيخ الحديث‏:‏ لا أعتقد أن تغيير الزي يغير الثقافة أو الفكر‏,‏ وليس هناك زي معين يتعين علي المسلم ارتداؤه وخاصة رجل الدين‏,‏ فملابس المسلمين تتباين في جميع أقطار العالم الإسلامي‏,‏ وإذا ما كان الزي الأفرنجي كما يقولون قد غلب علينا وأصبح جزءا من مظهرنا المعتاد والمألوف فلا نجد غرابة فيه وقد نجد غربة فيما سواه‏,‏ ولكنني أري في نفس الوقت أن الزي الذي عرف به رجل الدين من العلماء والمشايخ زي تقليدي محترم وحبذا لو تمسك به علماؤنا لتأكيد احترامه‏.‏
و‏..‏أحصل علي لقطة فريدة لفضيلة الإمام الراحل محمد متولي الشعراوي ضاحكا فيها من القلب مرتديا البذلة والكرافتة‏,‏ والرأس الجليل قد غزاه جلال المشيب‏..‏ لقطة لم تتكرر كثيرا في حياة مولانا لكنها تقول الكثير‏..‏ تفصح بأن الشيخ ليس بالعمامة والكاكولة وإنما بالعقل والعطاء‏,‏ بالعلم والإيمان‏,‏ بالدعوة والدعاء‏,‏ بالقرآن والفرقان‏,‏ بالحديث والسنة‏,‏ بالفقه والتفسير‏,‏ بالفتوي والشرع‏,‏ بالقسط والميزان‏,‏ بالحكمة والموعظة الحسنة‏,‏ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏..‏ و‏..‏لقد كان الشيخ الشعراوي يعمل بمكة المكرمة أستاذا في كلية الشريعة ضمن البعثة المصرية عندما أوكل إليه زملاؤه من أعضاء البعثة القيام بتكريم الدكتور طه حسين والترحيب به فكتب قصيدة طويلة من الشعر أعقبها بدرس بالغ الأهمية في ضرورة ألا نحاسب المفكرين علي بداياتهم وألا نجعل من هذه البدايات سيفا مسلطا عليهم في حياتهم وبعد مماتهم لأنهم قد تجاوزوها بما هو أكثر يقينا وإيمانا‏:‏ ولعل آفة أصحاب الفكر أنهم يسجلون كل خاطر لهم‏,‏ والناس لا ينظرون للمناسبات والأوقات التي قيلت فيها هذه الخواطر والأفكار‏,‏ ويغفلون عما انتهت إليه الخواطر والأفكار في النهاية‏,‏ لذلك فعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وغيره‏,‏ كالدكتور مصطفي محمود‏,‏ بدأوا حياتهم الفكرية متشككين ثم انتهوا إلي الهدي واليقين‏,‏ ولهذا يجب ألا نحاسبهم ونؤاخذهم علي أوليات خواطرهم وما كتبوه في مرحلة الشك‏,‏ لأنهم بعد ذلك ثبت إيمانهم وكتبوا في الإسلام وعنه كأفضل مايكون‏..‏ وقد جاء في قصيدة الشعراوي الطويلة التي قال عنها طه حسين‏:‏ لو لم يكن في حياتي من تكريم سوي هذه الأبيات لكفتني‏:‏
يا عميد البيان لا تحرم الأز هر عونا بصائب الآراء
لك أيد علي المعلم في مص ر أزاحت عنه عنيف العناء
يا فريد الأسلوب قد صغته من نغم ساحر شجي الغناء
كلمات كأنهن الغواني يترقرقن في شفيف الكساء
مشرقات ما انقدن إلا لطه صاغها الفن من حروف الضياء
كم قديم جلوته فتبديرائعا في تواضع الكبرياء
بك عزت حكومة النقد حتي رهبتها صناعة الإنشاء
ومن النقد فاض كل بيانومن النقد غاض كل هراء
وجمال الإسلام في وعدك الح ق تجلي فيه خلال الفداء
هامش السيرة الحبيبة فيهتتغني سماحة الأنبياء
ركب طه هنا مطالع طه وانبثاق الشريعة السمحاء
قل لطه جميع شعوب سعود ترجمت عنه لهفة القراء
هو طه في خير كل قديم وجديد علي نبوغ سواء
وهو غربي كل فكر حلال أزهري الحجا والاستقصاء
يجعل العلم للرعية جمعاء مشاعا كالماء بل والهواء
وحقيقة لا كل من لبس العمامة يزينها ولا كل من خلع العمامة طه حسين‏...‏ صاحب الأيام المفكر المجدد الحر الذي لم يستطع أن يعيش مرتاح الضمير بين شعب جاهل فقير متأخر‏,‏ ومن هنا خاض معركته‏:‏ العلم كالماء والهواء حق للجميع‏..‏ صاحب الأيام الذي يغير من النظرة الشائعة للإسلام علي أنه دين روحي فقط بل يثبت أنه دين يدعو إلي الثورة الاجتماعية بغاية أساسية هي تحقيق العدل‏..‏ صاحب الأيام الذي قال العقاد عن شجاعته الأدبية‏:‏ كأنك تحتاج أحيانا إلي شجاعة للكف عن هذه الشجاعة‏..‏ صاحب الأيام الذي قال عنها عبدالرحمن صدقي‏:‏ كلما قرأتها وأنا كثير القراءة لكتابها لا ألبث أن أذهل عن حسي‏,‏ فأحسبني لا أقرأ‏,‏ وإنما أسترق السمع علي نفس وصاحبها‏,‏ وهما يتناجيان‏,‏ ويتذاكران ما كان بحيث لا يسمعهما إنسان‏,‏ فلا غرو إذا ألفيتني وأنا أقرأه قابعا في غرفتي ملتزما جلستي وقد أمسكت أنفاسي‏,‏ مشفقا أن أتحرك أدني حركة أو تبدر مني كلمة‏,‏ فتفوتني لمحة من هذه الرؤيا أو ينقطع عني وحي النجوي‏..‏ صاحب الأيام غابت أيامه طويلا عن مناهج أبنائنا الدراسية رغم ما حذفوه من صدق صفحاتها ليس تخوفا علي أبنائنا من حقائقها وإنما خوف علي أنفسهم مما قد حذف‏!!‏

المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.