عاش زكي مبارك حياته القصيرة (ستين عاما) فيما بين يومي 5/8/1891 و23/11/1952 عيشة الأبطال الشعبيين.. منذ ما يسبق مولد البطل من ظروف وما يواكبه من أحداث وما تنشأ عليه شخصيته وتنمو من مكابدات ومجاهدات وحروب وانتصارات كبيرة مع هزائم قليلة لكنها مؤثرة كثيرا في رحلته وسيرته، حتي وفاته، التي تظهر بشائرها بمثل ما واكب حالة الميلاد من ظروف. 1 قبل مولده نذر أبوه - وهو في بطن أمه - أن يسميه محمدا - وأن يحفظه القرآن الشريف.. وبينما كان يحفر ساقيه في أرضه ويعد (قمينة) لحرق الطوب.. قالت له زوجه أخبرتني الداية أنني سألد بعد أسبوع.. فقال الأب: وسنرمي نقبة الساقية بعد أسبوع فإن كان المولود صبيا أو صبية فأنا مستبشربه.. ويكمل زكي مبارك: »في صبيحة اليوم الخامس من أغسطس 1891 ولدتني أمي.. وفي اليوم نفسه وضع أبي نقبة الساقية فقال الناس: لقد اغتني عبدالسلام مبارك.. وما كاد أبي يفرغ من بناء الساقية حتي مضي إلي المحكمة المختلطة وسجل أملاكه كلها باسمي بعقد بيع قال فيه إنه أخذ من الشيخ محمد زكي خمسمائة جنيه وباع له نظيرها خمسة فدادين وقد وضع ا لمشتري يده علي الأرض وهو المسئول عن دفع الأموال كنت مسئولا وأنا في المهد«. وسبب هذا الاهتمام من جانب الوالد يعود لكون القدر قد ترصد لمن ولد له قبل هذا المولود.. وكان يخشي عليه الموت أيضا.. وبدأ الوالد يحقق الأمل في وليده الجديد الذي ساعده نبوغه المبكر فحفظ القرآن كله في شهور.. وجوده في سنتين وظهر اهتمامه باللغة في بكوره حين فضل أن يعد النجوم في الليل علي عد شعر الحمار »فهي نجوم وهو حمار ابن حمار« فيقول أبوه: هذه وثبة شعرية ويظهر أنك ستكون من الشعراء .. وقد صحت نبوءة أبي«. نجا الطفل من الموت حرقا فهان البيت المحترق وما فيه من متاع وكانت نجاة الطفل أهم لدي أبويه من كل ما ضاع في الحريق.. كما نجا من الموت غرقا.. فقال أبوه: »إن الثكل أذاني يا محمد وكان جميع أبناء أمك للموت وأنت آخر العنقود فإن مت أنت أيضا فسأصير وحيداً في حياتي.. فقلت له: أنا أجيد السباحة يا أبي قال: نصلي الصبح غدا ونمضي إلي الترعة لأري كيف تعوم صلينا الصبح ومضينا إلي الترعة.. خلعت ثيابي ونزلت الترعة وطبشت فيها من الشرق إلي الغرب ومن الشمال إلي الجنوب فقال أبي: هذا يكفي«. كما نجا من الموت حين سقط من سطح البيت علي حجر أسفله فشجت رأسه: »وسارعت أمي فأخبرت أبي مخضر وملأوا رأسي بالبن الذي تصنع منه القهوة«. نشأ زكي لأب متصوف.. أخذ العهد علي شيخ اسمه أبوزيد كان يزورهم مرة كل عام وذات مرة خرج زكي مهللا مناديا »أبوزيد الهلالي عندما يسمعه أبوه فيقول له: أبوزيد الهلالي رجل عملاق وله شوارب طوال وفي يده سيف ليقتل الزناتي خليفة أما الشيخ أبوزيد ففي يده مسبحة وعلي رأسه عمامة حمراء.. هي بداية لبطل شعبي ينشأ كما نشأ كل الأبطال الشعبيين في ظروف صعبة.. عقب نبوءة.. يتعرض في طفولته لامتحانات مع الواقع فينجح فيها ، يجيد السباحة والفلاحة ويتميز بالجرأة والإقدام ويندفع في حياته كلها منتصرا لقيم الجماعة من حق وخير وجمال. فتن - علي حد قوله - منذ طفولته بالشعر، فحفظ كل ماقرأ من الشعر العربي القديم وبدأ يكتبه ويغنيه منذ طفولته، حتي صدر ديوانه الأول (ديوان زكي مبارك) في سنة 1933 حاملا قصائد البدايات المفعمة بالحس الرومانسي تجاه الطبيعة والمرأة وما كان أجملها في ريف مصر الذي أمضي بطلنا الشعبي الثلث الأول من عمره في ربوعه. 2 علي أن الثلث الثاني من عمر البطل قد امتلأ بالمعارك في اتجاهات متعددة.. وهي معارك - رغم شراستها في الغالب - قد انتهي جميعا بفوزه. في 1910 انتقل زكي إلي القاهرة لإكمال تعليمه بالأزهر الذي حصل علي شهادة فانتسب للجامعة المصرية - بعد تردده علي محاضراتها ثلاث سنوات - في سنة 1916 طالبا بكلية الآداب فتعلم الفرنسية والفلسفة ونبغ في النحو والأدب وكتب بحثا عن عمر بن أبي ربيعة أحدث ضجة في الجامعة وخارجها حين خلص فيه إلي (أن الحب نفحة من نفحات النبوة). وفي 1919 كان زكي مبارك واحدا من خطباء الثورة وزعمائها فاعتقل وانتقل بين سجون كثيرة في الاسكندرية وغيرها وكان آخرها ثكنة قصر النيل وظل رافضا التوبة عن المشاركة في الثورة حتي اضطروا للافراج عنه. تخرج في كلية الآداب 1921.. وانجز رسالته الأولي الدكتوراة في الأخلاق عند الغزالي 1924.. وكان أول الحاصلين عليها من الجامعة المصرية القديمة.. وبعد أن اتهمه المتخلفون بالزندقة وأباح أحد خطباء المساجد دمه بقوله في خطبة الجمعة »ظهر في مصر ملحدا زكي مبارك«.. ذلك الذي فرحت الجامعة المصرية بإلحاده فمنحته الدكتوراة ومثل هذا الملحد فرصة لمن يريد أن يدخل الجنة«(1). عمل مدرسا مساعدا بالجامعة المصرية وكان مساعدا لأستاذه الفرنسي كازنوفا والمصري طه حسين الذي كان مثله الأعلي في المثابرة والاجتهاد ثم أصبح - فيما بعد - من ألد خصومه. انتقل للدراسة علي نفقته إلي باريس 1927 وأنهي رسالته الثانية للدكتوراة وكانت عن (النثر الفني في القرن الرابع الهجري ) سنة 1931 مصححا فيها اخلاط المستشرقين، كما حصل في الوقت نفسه علي دبلوم الدراسات العليا في الآداب من مدرسة اللغات الشرقية. عاد إلي مصر والتحق بالجامعة سنة 1933 ولم يستمر بها لرفض طه حسين التجديد له بعد عودته هو إلي الجامعة 1934.. فعمل بالصحافة والأدب ومفتشا بالتعليم سنة 1937 التي حصل خلالها علي الدكتوراة الثالثة من الجامعة المصرية الجديدة (14 ابريل 1937) وكانت في (التصوف الإسلامي) وكانت أيضا الدكتوراة الأولي التي تمنحها الجامعة المصرية الجديدة.(2) 3 قضي زكي مبارك الثلث الأخير من عمره القصير طولا والعميق فعلا قليله أو أطوله في معشوقته الثالثة (العراق) التي استغرقته كاملا في عام واحد فكتب فيها أربعة من أهم كتبه هي (وحي بغداد) ، (ملامح المجتمع العراقي)، (عبقرية الشريف الرضي)، (ليلي المريضة في العراق). وفي العراق زاد إيمانه بالقومية العربية وكانت الدعوة إلي وحدة الأمة واحدة من أهم القضايا التي برزت بوضوح في العقد الأخير من عمره. وفي هذه المرحلة اكتملت للشخصية المنذورة للبطولة الشعبية عناصرها وكان (الصدق والشجاعة في الجهر به) أهم هذه العناصر.. يقول زكي مبارك: »أنا أؤمن بأنه لا يمكن لأحد أن يكون أكتب مني إلا إذا استطاع أن يكون أصدق مني.. ومن المستحيل أن يكون في الدنيا أحد أصدق مني«. ومن هذه النزعة كانت (المرونة) التي جعلت زكي مبارك قادراً علي التكيف مع كل البلاد والآدب والظروف الاجتماعية حتي أصبح في كل واحداً منه. 4 »إنني تقلبت في ملابسي من حال إلي حال.. فكنت أولاً ألبس الطاقية والجلابية.. وهو لباس أهلي في (سنتريس) ثم كنت معمما يوم كنت طالبا في الأزهر الشريف ولم يظهر أني كنت غريبا بين الأزهريين فقد كانت عمامتي أظرف عمامة وكان هندامي أجمل هندام وكنت وحدي في الأزهر أمثل مذهب المعتزلة يوم كان الأزهر لا يذكر المعتزلة إلا قال: قبحهم الله وكان في النية أن أظل أزهريا، فقد انتقلت من مذهب الشافعي إلي مذهب أبي حنيفة لأكون مفتي الديار المصرية - ثم نقلتني الأقدار إلي الجامعة لأصبح من تلاميذ منصور فهمي وطه حسين ومع ذلك فقد ظللت معمما إلي أن ظفرت بإجازة الليسانس في العلوم الفلسفية والأدبية سنة 1921، ثم أخذت أستعد لامتحان الدكتوراة فبدا لي أن أصبح (أفندي) فرميت ما عندي من (الجبب) إلي أحد (الترزية) في شارع محمد علي فصنع منها بذلتين سخيفتين شهدتا بأني كنت مهندما في الجبة والقفطان ثم أصبحت أضحوكة في السترة والبنطلون. وفي يوم امتحان الدكتوراة أوصاني الدكتور منصور فهمي أن أحضر في البذلة السوداء فلم أفهم المراد ولولا فصاحتي وبلاغتي في ذلك اليوم لعدني القوم من السفهاء.. وجاء في رسالتي أن قد أخلع العمامة وألبس الطربوش ولكني لا ألبس القبعة.. ولكني لبست القبعة بعد ذلك بثلاث سنين حين هاجرت لطلب العلم في باريس 1927 ومن الغريب أني لم أصنع كما صنع زملائي وعهدي بهم يذهبون إلي البواخر بالطرابيش، وإنما لبست القبعة من منزلي في مصر الجديدة فلم يعرفني المودعون. وفي العراق لبست السدّارة وعندي أن الأخلاق الكريمة تقوم علي أساس الاندماج المطلق في البلد الذي تعيش فيه« 5 ويقر زكي مبارك أن هذه الميزة في شخصيته وهي (المرونة والقدرة علي التكيف مع الظروف) لم تكن مقصورة علي »الاندماج المطلق مع البلد الذي تعيش فيه« فحسب، وإنما تجلت هذه السمة في أسلوبه الأدبي، ومنهجه، في تأليف أبحاثه وكتبه، يقول: »الذين قرأوا (مدامع العشاق) يحسبونني فتي لا يتجاوز الثلاثين.. والذين قرأوا (الأخلاق عند الغزالي) يحسبونني شيخا يصافح الثمانين« 6 يقول محمود تيمور عن صديقه زكي مبارك: »لقد كان ينفض نفسه نفضا ويكشف عن جليته كشفا.. فيركز لك خصائص شخصيته ويقدمها في سهولة ويسر دون أن يرهقك في تعرف هذه الشخصية واستبطان أسرارها والتفطن إلي ما فيها من طرافة أو شذوذ.. يبدأ حديثه معك بنكته أو نادرة وينقلك منها إلي تحقيق لغوي أو أدبي.. ولابد أن ينطوي التحقيق علي غمز ولمز يصيب به القريب أو البعيد، وفيما هو كذلك. يبثك لواعج هيام بهذه وتلك ممن يسمي أو لا يسمي وإذ أنت فجأة معه في (سنتريس) يريك جهوده لإنهاض ذلك البلد الريفي الذي كان مسقط رأسه ويتخلل هذا كله أنباء مبارزة وطعان مع الأقران وغير الأقران علي اختلاف الألوان.. إنه كشكول حي مبعثر.. بل مسرحية مختلطة فيها مشاهد شتي من مأساة وملهاة ومهزلة، أو لكأنه برج بابل ملتقي النظائر والأضداد«. 7 وإذا كانت هذه شخصية زكي مبارك في أحاديثه مع الأصدقاء.. وهي نموذج حيّ لشخصية (ابن البلد) البطل الشعبي المحبوب.. القادر علي إصلاح حال الجماعة الشعبية بكل ما يحملها لها من إمكانيات قادرة علي التغيير.. فإنه كان (ابن البلد) في مقالاته الصحفية التي يمكن علي حد قوله أن تكون كتباً أكثر مما نشر له من كتب.. ولعله في هذه المقالات التي انتشرت عبر عدد من الصحف المصرية في عصره قد اكتسب من الجمهور.. الذي كان محبوبه الأول أكثر من غيره من الأدباء الذين نشروا مقالاتهم في الصحف ذاتها.. وقد كان يخاطب جمهوره بلغة شعبية مع فصاحتها.. وبعبارة أفضل بلغة فصيحة لشعبيتها فلا يكاد يخلو له مقال من نكتة أو مثل شعبي أو عبارة شعبية أو حكاية شعبية يرويها بأسلوب أفضل من أسلوب شهرزاد في (ألف ليلة وليلة) بل إن زكي مبارك (ابن البلد) لم يتردد عن الغناء بصوته في الإذاعة يوم 27/11/1945 لقصيدة من شعره اتفق مع الموسيقار محمد عبدالوهاب علي تلحينها وفيها تتجلي الشعبية في الشكل والمحتوي إلي حد بعيد وعنوانها (غرام يوم الثلاثاء) يا ليل يا ليل يا ليل يا ساقي الراح هات الراح يا ساقي من نور خديك أو من نور أشواقي واشرب رحيق الهوي الفضاح يا ساقي من نظرتي لك في ساعات اشراقي ولكي تكتمل البطولة الشعبية في شخص زكي مبارك عزم علي أن ينجز بحثا عن (الأدب الشعبي في مصر الحديثة) ليتقدم به لمسابقة تجريها جامعة فاروق الأول بالاسكندرية 1948 غير أن اللجنة لم تنظر في البحث فاضطر ابنه عبدالسلام زكي مبارك لسحبه من كلية الآداب بعد وفاة والده وليتنا نعثر عليه.. ليصبح من أهم الوثائق العلمية في درس الأدب الشعبي العربي. »حذفت الهوامش لضروريات مساحة النشر«