نعم .. للموسيقي المصرية مدارس موسيقية معينة .. مدارس محددة .. تسألون : لماذا هي «مدارس» وليست بضعة مؤلفين متناثرين من أجيال مختلفة (سلامة حجازي فسيد درويش فالقصبجي .. الخ) وأجيب: هي مدارس قائمة كل بذاتها لأن كل مدرسة منهم لها أهداف واحدة .. تسألون: أتصلح الأهداف الواحدة – ومهما كانت – لإنشاء مدرسة فنية؟ فأقول : تقوم المدرسة الفنية عندما تجتمع على أهداف يحتاجها الناس، أي يتطلبها التطور .. تسألون: ولكن.. ألا يمكن أن يجتمع الفنانون لتحقيق أهداف يحتاجها الناس ثم يتعثر عملهم ولا تتحقق وبالتالي لا يصح اعتبارهم مدرسة ؟ فأجيب: نعم قد يتعثر عملهم فلا تنشأ المدرسة الفنية وحينئذ تتعثر حاجات الناس الفنية وتظل الآمال معلقة - حزينة وخائبة - إلي أن يأتي جيل آخر يستنهض المهام القديمة ويواجه الجديدة في آن .. ولكن وللأسف إذا ما تراكمت المهام أصبحت الأهداف أصعب منالا والنتائج النهائية أكثر تعقيدا وتشابكا! ومهما كانت أحوال مدارسنا الفنية المصرية فإنه لم يسبق تصنيف هذه المدارس أو تعيين المهام التي ألقيت على عاتقها ! لم يتم حتى الآن تقسيم موسيقانا لأجيال وفنون خاصة (من قوالب وإيقاعات ومقامات وآلات خاصة بكل مدرسة) إذ لا يزال النقد الموسيقي العربي غائبا .. غير متبلور إلي اليوم ! وكان إنشاؤه من المهام التي تعثرت كثيرا. على أن غياب النقد الموسيقي العربي برمته لم يمنع مصر من إقامة ثلاث مدارس موسيقية هامة، تعاقبت ألحانها في اتصال حتى تشكل منها ذلك التاريخ الموسيقي العامر بالنشاط والحيوية: • مدرسة محمد عثمان ( الكلاسيكية ) 1840 - 1900 • مدرسة سيد درويش ( الكلاسيكية الجديدة ) 1900 - 1930 • مدرسة القصبجي السنباطي عبد الوهاب ( الرومانتيكية ) 1930 - 1965 أما عن سؤالكم : «لماذا انقسم هؤلاء لثلاث مدارس وليس لاثنتين أو لأربع» أجيب : « لأن المهام الموسيقية الكبرى الرامية إلي التطور هي ثلاث لا غير .. تعاقبت بمرور الزمن لتتشكل ثلاث مدارس متتالية . وقد كان فن كل مدرسة يختلف باختلاف المهام التي اضطلعت بها » .. فبينما تولت مدرسة «عثمان» مهمة تمصير الموسيقي (في مواجهة الموسيقي العثمانية) وأنشأت قالب الدور الذي أصبح عمادها وركيزتها، توارى الدور وبدأ في الانسحاب من مدرسة درويش وندر وجوده للغاية في مدرسة «القصبجي السنباطى عبد الوهاب». وبينما وضعت مدرسة «درويش» المسرح الغنائي غناء حواريا تعددت أبطاله (وألحانه تباعا) أختفي هذا المسرح من المدرسة الثالثة «القصبجي السنباطي عبد الوهاب» وبينما أنشأ درويش قالب النشيد غناء جماعيا للوطن قلت أعداد هذا النشيد تدريجيا حتى اختفي تماما من موسيقي اليوم ! ومن حيث الأساس المادي للموسيقي أو أدوات العمل الموسيقي (الآلات) فقد كانت لكل مدرسة آلاتها وفرقتها الموسيقية المختلفة عن فرق المدارس الأخرى . خلاصة القول أن المدارس الموسيقية الثلاث تميزت بقوة عن بعضها البعض بقدر قوة واختلاف المهام الموسيقية العامة. كانت المهمة العامة (والرئيسية) لمدرسة محمد عثمان هي كما أسلفنا «التمصير» وطرد الفنون (القوالب) الأربعة للدولة العثمانية : البشرف، اللونجا، الدولاب، السماعي ووضع بديل مصري هو قالب «الدور». وإذ كانت القوالب التركية الأربعة من نوع «المعزوفات» وليس «المغنيات» (إذ تنقسم قوالب الشرق إلى معزوفات ومغنيات)، قاطع عثمان قوالب تركيا كلها حتى أنه وزملاءه لم يضعوا منها مقطوعة واحدة، وفقط عند البعض من المدرسة الثالثة «القصبجي السنباطي عبد الوهاب» (تجد لونجا أو اثنين، سماعي أو اثنين نذكر منهما بالكاد لونجا واحدة «لونجا رياض» لرياض السنباطي) وقد وصل أمر مقاطعة القوالب التركية عند سيد درويش (رأس المدرسة الثانية وأعلى مرتفعات التطور الموسيقي العربي) حد هجران ليس فقط معزوفات تركيا وإنما المعزوفات المصرية أيضا (التقاسيم، التحميلة) حيث لم يترك الشيخ سيد وراءه إلا إرث غنائي «مغنيات» كان التمصير لمدرسة عثمان هو «الضرورة» التي تتطلب الاستجابة. ولا مهرب .. إذ لا تختار مدرسة فنية مهامها وإنما يضعها التاريخ لها كحائط منيع .. إن استطاعت النفاذ منه أخذت تنهض وتتحقق. أما المهمة العامة (والرئيسية) التي قامت للمدرسة الثانية (درويش) فكانت إنشاء الحوار والجماعية للغناء المصري واللذين غابا عن المدرسة السابقة (عثمان). ولما كان المسرح الغنائي هو الوعاء الضروري لوضع «الحوار والجماعية» فقد أقاموه ورفعوه حتى أصبح هو (وليس الغناء الفردي) رأس التطور. ولقد قامت مدرسة عثمان على القوالب الموسيقية الفردية السبع المعهودة (والتي شكلت آنذاك مخزون مصر الفني) : 1 – القصيد 2 – الموشح 3 – الموال 4 – الطقطوقة 5 – الدور 6 – التحميلة 7 – التقاسيم وكان كل منها قائما على لحن واحد يقدمه مطرب فرد (أو عازف) ، فأضاف سيد درويش القالبين الجديدين من الغناء الجماعي : 8 – الحوار 9 – النشيد ويبدو إن الاستجابة لحاجات التطور الأولي أنضجت حاجات التطور الثانية. آما المهمة العامة (والرئيسية) التي قامت للمدرسة الثالثة «القصبجي السنباطي عبد الوهاب» فقد اختلفت تماما. لقد تواري المسرح الغنائي عن هذه المدرسة لأنها عجزت عن مد خيوطه وتطويره .. ولكن .. وبعد أن راحت هذه المدرسة تتلفت حولها وتأسف لذلك قفزت إليها «نشأة السينما المصرية المبكرة» كطوق للنجاة وسبيل وحيد للإمساك بالتطور. لقد أدرك الفنان أن وجود مدرسة فنية رهن بتحقيق مهام موسيقية محددة .. وأنه ربما - إذا ما وضع كل أحلامه في سلة السينما – يتحقق له القدر من التطور الكافي لحياة مدرسته. كانت السينما هي الفرصة الوحيدة لتحقيق نماء موسيقي جديد ، وذلك لما تعقده من صلات بين الموسيقي وواقع فني آخر .. بين الموسيقي والقصص المأخوذة من – والدالة على – الواقع الموضوعي. تماما مثلما كان المسرح الغنائي فرصة التطور لمدرسة سيد درويش، إذ كانت الموسيقي آنذاك تخرج من ذاتها بفضل هذا المسرح ، وبفضله كانت تجد نفسها مدفوعة للارتباط بواقع آخر .. بفن آخر يحمل قصة ممثلة وممتلئة بالأحداث والتناقضات المتصلة بالحياة والمجتمع الخارجي. وبعد أن كان الموسيقيون يقدمون دائما تجاربهم الوجدانية الخاصة أصبحوا بعد المسرح متصلون بتجارب الآخرين.. معبرين عن الآخرين.. تلك الموضوعية التي جعلت الغناء الجماعي لدرويش (الحوار والنشيد) ضروريا. ولاشك أن فقدان المدرسة التالية «القصبجي السنباطي عبد الوهاب» للمسرح الغنائي كان ضربة قاصمة كادت تودي بهم لولا أن السينما أعادت لهم قدر من الارتباط بالواقع الموضوعي وأتاحت لهم فرصة أخري للخروج «من ذات الفنان». نعم .. للموسيقي المصرية مدارس موسيقية ثلاث محددة، ومهام تاريخية ثلاثة: 1 – التمصير . 2 – إنشاء الحوار والجماعية للغناء المصري استجابة للمسرح الغنائي . 3 – إنشاء الغناء والألحان الاستعراضية (الموضوعية) استجابة للسينما. والآن .. توقف هذا التدفق وخلت الساحة !