بعد ثورة يناير 2011 تفاقمت أزمات الفن المصرى وانكشفت وتعرت تماما مشاكل العمل الموسيقى إذ راحت الثورة تبحث عن فنها وتسأل.. مثلما بحثت عن ساستها وسألت! لقد تفجرت ثورة كبيرة ولكن.. دون إعداد للمستقبل.. دون إعداد للمستقبل السياسى أو المستقبل الفني!. فى أعقاب يناير2011 راحت تتناثر هنا وهناك «أغانى جديدة» مثل «يا بلادى يا بلادى أنا بحبك يا بلادي» لعزيز الشافعى و«نزلت وقلت أنا مش راجع» لأمير عيد و«يا الميدان» غناء عايدة الأيوبي.. تلك «الأغاني» التى توجهت كلمات الغناء فيها إلى الثورة واكتست الأفكار فيها بالروح الوطنية حقا .. ولكن .. لم يكن اللحن كذلك! الكلمات الوطنية هى أفكار الأدباء وليست أفكار الموسيقيين! وللأسف الشديد يمكن أن يؤلف الأغنية أديب متجدد وموسيقى غير متجددة.. كلمات ثائرة وألحان متهالكة! وإذا قال الأديب «يا بلادى أنا بحبك يا بلادي» فليس معنى ذلك ان اللحن يقولها أيضا! بل ربما جاء اللحن الموسيقى متراخيا ومشبعا بالمشاعر الخاصة والذاتية و«عاطفي» كالعادة ! هل للأغنية الوطنية صفات محددة؟ ما هى معايير الحكم على لحن موسيقى وطنيا كان أو دينيا أو غير ذلك؟ عبرت الموسيقى المصرية المعاصرة بثلاث مدارس موسيقية كاملة (لم يسبق تصنيف هذه المدارس للأسف) وقد تعاقبت على النحو التالي: • مدرسة محمد عثمان 1840 / 1900 • مدرسة سيد درويش 1900 / 1930 • مدرسة قصب سنباط وهاب 1930 / 1965 وكما تشكل أدبنا من أنواع محددة مثل الرواية، القصة القصيرة، المقال، فإن مدارسنا الموسيقية اعتمدت على تسعة أنواع من التأليف أو تسعة قوالب موسيقية هى كل تراثنا وهى وفقا لتسلسل ظهورها: • الموال • التقاسيم • الموشح • التحميلة • القصيد • الدور • الطقطوقة • النشيد • الحوار وهذه القوالب التسعة لم تتحقق دفعة واحدة بداهة وإنما تدريجيا وعلى امتداد المدارس الثلاث فى الزمن المعاصر (1840– 1965). جاءت المدرسة الأولى (عثمان 1840 / 1900) لتجد بين يديها ميراثا من العصور الوسطى من خمسة قوالب فحسب (الخمسة الأولى فى الترتيب السابق) فأضافت إليهم الدور وأصبحت قائمة على ستة قوالب هى الأولى فى الترتيب أعلاه (الموال/ التقاسيم/ الموشح/ التحميلة/ القصيد/ الدور). جاءت المدرسة الثانية (سيد درويش 1900 / 1930) فأضافت إلى الستة الأولى الطقطوقة والنشيد والحوار الغنائى وأمست تجرى على تسعة قوالب هى طرق مصر الموسيقية المعاصرة. عندما جاءت المدرسة الثالثة: (قصب سنباط وهاب 1930 / 1965) وراحت تتفنن فى خلط القوالب التسعة فى وعاء واحد سمى «الأغنية» كانت بذلك تعتصر ثمار المدرستين السابقتين لمصلحة اتجاه جديد هو «الاستعراض» .. وذلك لمصاحبة السينما والتمثيل الإذاعى والتليفزيوني. وقد نبغت فى ذلك التوجه العام على الرغم من إن استعراضها كان فرديا ولم يكن حواريا أو جماعيا بالمعنى الحقيقي! نبغت فيه وإن أضاعت المسرح الغنائى كلية بسبب تضخم أغنية الفرد تضخما كبيرا!. ظلت مصر تبنى لنفسها وتشيد على امتداد قرابة القرنين من الزمان الطرق الوطنية الخاصة للتأليف فما بال أغانى الثورة لا تعير ذلك انتباها ، وتنفصل عنه وتقيم أغانيها دون صلة بالماضي؟ ما علاقة أغانى «الثورة» بالقوالب المصرية التسعة؟ هل يمتد بعضها من موشح محمد عثمان «كللى يا سحب» أو ينتمى للنشيد من نوع « أقسمت باسمك يا بلادى فاشهدي» أو ينمو من «بلادى بلادى لك حبى وفؤادي» ؟ لماذا يقاطعون النشيد مقاطعة تامة ويفضلون الغناء فرادى فى صحبة اللحن العاطفى ؟ أيستهجنون الغناء الجماعي؟ وإذا كانت الجماعية هى إسناد اللحن الرئيسى للجماعة وليس للفرد، والفردية هى العكس، وكان سيد درويش قد شيد قالب النشيد لتقوم الجماعة بإنشاد اللحن الرئيسي، فكيف تهجر ثورة يناير 2011 ذلك النشيد مع أنها ليست الآن بحاجة لشيء كحاجتها له. وإذا كانوا قد انفصلوا عن الموشح لأنه أصبح قديما والطقطوقة لأنها مستهلكة والدور والقصيد والموال والتحميلة أيضا فلماذا يهجرون الحوار والذى يجتمع فيه أكثر من مطرب وعلى أكثر من لحن؟ لماذا يهجرون التعدد فى الحوار الغنائى مع انه مفتاح المعاصرة؟ يهجرون جماعية النشيد ثم تعدد الحوار ليبقى بعد ذلك كل منهم بطلا وحيدا ومطربا أوحد .. يتوجه لبلاده بذات العاطفة الخاصة والشجن الذى توجه به سابقا للحبيب وللمعشوق! إنهم ينشدون أغان عاطفية فردية.. كلماتها فحسب وطنية ! الكلمات فى ناحية والألحان فى ناحية! وكل النماذج المطروحة تحمل هذا التناقض! ماذا يجب أن نفعل من أجل أغنية جديدة - لعهد جديد ؟ • لابد من دراسة الماضى الموسيقى من أعمال المدارس الثلاث (عزفا وغناء) وفهمه ثم الانطلاق منه (لا تعرف أكثريتهم شيئا عن ألحان محمد عثمان أو الخلعى أو داود حسنى أو سيد درويش). • لا ينبغى تخطى الأركان الأربعة لموسيقى الماضى (الإيقاعات، المقامات، الآلات والقوالب المصرية) لا ينبغى تخطيها كلية ودفعة واحدة ! فذلك هجران لكل اللغة الموسيقية الوطنية!. • اعتاد الماضى أن يصب ألحانه الوطنية فى قالب النشيد الجماعى الغناء (سريع اللحن وأشبه بالمارش من حيث إيقاعه العسكري) فأصبحت الوطنية «عاطفة» فردية متجهة للوطن ! فهل كانت لهذا الاستبدال ضرورة، وهل النتيجة الفنية تبرر حقا إسقاط إحدى قواعدنا الأهلية؟ • إن إسقاط ركن كالقالب (قالب النشيد) لا يجوز إلا فى حالة الاستعاضة عنه بآخر جديد (قالب مبتكر) وغير ذلك يصبح الإسقاط اعتداء على لغتنا الموسيقية. • نحن بحاجة لمن يدفع بالنشيد للتطور قدما وليس لمن يطمره ويهيل عليه التراب.. آلم يستحق السنباطى فى «أنا النيل مقبرة للغزاة» وسيد درويش فى «اليوم يومك يا جنود ما تجعليش للروح تمن» العناية والنماء؟ آلم تستحق هذه النماذج الاستلهام والمضى قدما منها؟ عجيبة والله!.