توماس بيكتي، اقتصادى فرنسى امضى 15 عاما من عمره فى دراسة نظم الضرائب فى 30 دولة غربية فى مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية خرج بعدها بنتيجة مفزعة فحواها ان نظم الضرائب المطبقة فى العالم تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا. وعندما وضع دراسته فى كتاب باللغة الفرنسية نهاية العام الماضى لم ينتبه اليه احد ولكن عندما ترجمت الدراسة، الكتاب، الى الانجليزية فوجئ الجميع انه حقق اقبالا هائلا حتى انه حظى بمرتبة الكتاب الاكثر مبيعا على قائمة امازون دوت كوم، اكبر ناشر فى العالم، خلال شهرى مارس وابريل الماضيين . حمى «بيكتي» تجتاح الان المنتديات الاقتصادية فى الولاياتالمتحدة واوروبا، ولايمر يوم الا وتتناول الصحف الغربية كتاب بيكتى اما بالمدح او بالقدح. وبالاضافة الى صفات كثيرة منحها النقاد لبيكتى الا ان ابرزها هو اعتباره ماركس الثانى فى اشارة الى البروفسير الالمانى الذى وضع كتاب" رأس المال" عام 1862 مدشنا بذلك نظرية الاقتصاد الشيوعى . ربما كان اختيار بيكتى لعنوان كتابه مبعثا لهذا التشبيه، فقد صدر الكتاب تحت اسم " رأس المال فى القرن الحادى والعشرين "..مضمون الكتاب كله يؤكد باسلوب المعادلات الرياضية ان الهوة تزداد بين الاثرياء والفقراء فى انحاء العالم " الغربى " ،ودعا قرائه الى الضغط على السياسيين من اجل وضع حلول ناجعة للحد من اللامساواة بين الناس مطالبا بتعديل جذرى فى نظم الضرائب وفرض ضريبة عالمية تتخطى الحدود على الثروات.. الاكثر خطورة ان الاقتصادى الفرنسى يتنبأ بثورة عالمية بسبب عدم المساواة مبعثها اتساع الفجوة بين الدخول، وهى الفجوة التى يرى انها تزداد حدة منذ ثمانينيات القرن الماضى لعدة اسباب بينها نظام الضرائب المختل وتعاظم الثروات الناتجة عن المضاربات المالية وظهور مايسمى بالاقتصاد الجديد الذى اتاح دخولا هائلة للعاملين والمتنفذين فى شركات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات . الاقتصاد التطبيقي بيكتى لايعد اقتصاديا تقليديا، فقد درس الرياضيات والاقتصاد التطبيقى فى فرنساوالولاياتالمتحدةالامريكية وهو العلم الذى يحول المعلومات والفرضيات الاقتصادية الى معادلات رياضية .و بموجب هذا العلم الحديث تمكنت الشركات من تصميم معادلات تحدد مستقبل اسعار العملات والعلاقات بينها وبين بعضها البعض فى المستقبل المنظور، كما يلعب هذا العلم دورا كبيرا فى تقرير السيناريوهات المتوقعة للاستثمارات المالية فى المستقبل، وعلى ضوئها يتخذ المديرون قراراتهم فى الصفقات التى تعرض عليهم خاصة فى صناديق الاستثمار الضخمة العاملة فى الولاياتالمتحدةالامريكية واوروبا ، وبموجب هذا العلم الحديث حدثت قفزة كبيرة فى عالم الاستثمارات المالية خلال السنوات العشرين الاخيرة، وبسببها ايضا حقق بعض المتلاعبين خسائر هائلة لبنوك ومؤسسات مالية ضخمة فى السنوات الاولى من الالفية الجديدة، اما اخر خسائرالمتلاعبين بهذا العلم فكانت الأزمة المالية العالمية التى وقعت فى 2008 فيما يعرف بالانهيارات المالية الناتجة عن المضاربة على الثروة العقارية ..والتى لايزال يعانى العالم من اثرها حتى الان. بيكتى استغل معادلات الاقتصاد التطبيقى فى اثبات فرضية تقول ان العائد على رؤوس الاموال يفوق دائما معدل النمو الاقتصادى للدول، ومن هنا تزيد ثروات الاغنياء عن معدلات التحسن فى دخول الطبقات الفقيرة والمتوسطة ،وقد استطاع عبر دراسة متأنية اثبات ان نظم الضرائب المتبعة تدعم هذا التوجه. بيكتى ،المولع بالتاريخ والادب القديم، اثبت انه منذ عام 1700 فإن المعدل السنوى لزيادة الثروات يزيد بنسبة تتراوح بين 4 و5 % عن معدل النمو الاقتصادى للدول الغربية، واشار فى دراسته ان الفجوة بين الاغنياء والفقراء تزداد فى زمن السلم عن اوقات الحروب والازمات ،حيث اثبت ان هذه الفجوة كانت فى اقل حد لها خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها عندما كانت تطبق امريكا مشروع مارشال كما ان هذه الفجوة كانت محدودة ايضا عقب الأزمة المالية العالمية الاولى فى عام 1930 وطوال تطبيق خطة الاصلاح المالى والاقتصادى او مايسمى بالنيو ديل New Deal . اختلال ضريبي يلقى الاقتصادى الفرنسى باللوم دائما على نظام الضرائب المتبع فى الغرب وبصفة خاصة فى الولاياتالمتحدةالامريكية، والذى يعتمد على محاسبة الناس على الدخل السنوى دون النظر بشكل كاف على عناصر الثروة الاخرى . حتى هذا النظام يحمل الكثير من عدم العدالة وهو مادفع الملياردير الامريكى الشهير وارن بافيت الى التصريح يوما بأنه يدفع معدلات ضريبية تقل عما تدفعه سكرتيرته !. ويرى بيكتى ان الضرائب يجب ان تشمل كل عناصر الثروة العقارية و بقية الاصول التى يمتلكها الاثرياء بما فيها الاسهم والسندات وحتى المدخرات اضافة الى فرض ضرائب اكبر على الثروات الموروثة لأن كل هذه العناصر المالية تؤدى الى تركز الثروات ومن ثم اتساع الفجوة بين الاغنياء والفقراء، ويرى ان هذا الامر اذا استمر سيؤدى الى انفجار ثورة جديدة من نوع خاص ..ثورة عالمية احتجاجا على عدم المساواة التى تزداد يوما بعد يوم . ماركس الجديد وبسبب ارائه الصادمة ظهرت معارضة قوية لما ورد فى كتاب راس المال فى القرن ال 21 ، واتهمه البعض بالشيوعية وانه ماركس الجديد ،وفتش بعض الصحفيين عن تاريخ الرجل ومالبث ان اكتشفوا ان والديه كانا من بين اليساريين المشاركين فى مظاهرات الطلاب عام 1968 والتى اجتاحت فرنسا ودول اوروبية اخرى لاسباب اجتماعية . وقد نفى بيكتى ان يكون شيوعيا مؤكدا ان كتابه لايحمل اية منطلقات سياسية وان لديه فى اسرته يساريين ويمينيين، غير ان الكتاب علمى بحت يعتمد على المعادلات الرياضية فى اثبات عدم المساواة والتى يؤكد انها ستزداد حدة فى السنوات القليلة القادمة المنتقدون يرون ان دراسة بيكتى تتسم بالتبسيط المخل مؤكدين انه لايمكن الحكم على مسار الثروات وقيمها من خلال النظام الضريبى فقط ،كما ان التطور التكنولوجى المستمر سوف يخلق انشطة ووظائف جديدة لانعرف عنها شيئا بعد . وانهالت الاعتراضات على فرضية الكتاب بأن العائد على الثروات يفوق دائما معدل النمو فى اقتصاديات الدول، واتهمه البعض بأنه معاد لاقتصاد السوق فيما شكك كليف كروك المعلق الاقتصادى بوكالة بلومبيرج فى صحة توقعات الكتاب بأن المستقبل سيشهد مزيدا من الاتساع فى الهوة التى تفصل بين الاغنياء والفقراء ، ومع ذلك فقد اتفق المناهضون لافكار الكتاب على ان بيكتى حاول ان يثبت باسلوب علمى فكرة نبتت فى العصور الوسطى مفادها ان الاغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا . تفاوت الدخول .. قضية سياسية الاهم ان المناقشات الدائرة حول الكتاب كشفت عن انتباه كثير من الاحزاب السياسية الغربية لهذه الظاهرة، وان هذا القلق من تفاوت الدخول وراء اتجاه عدد من دول اوروبا والرئيس الامريكى لاحياء فكرة العمل بايجاد حد ادنى للاجور، كما اتفق الجميع فى الولاياتالمتحدة من مناهضى بيكتى ومعارضيه ان الحد من عدم المساواة فى الدخول والثروات ستكون على رأس الاجندة السياسية للحزبين الديمقراطى والجمهورى فى الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها فى عام 2016 . على الجانب الاخر امتدح الجهد العلمى للاقتصادى الفرنسى عدد من كبار المفكرين الاقتصاديين الامريكيين بينهم بول كروجمان الاقتصادى الليبرالى والحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد ووصفه بانه كتاب العقد، كما شاركه عدد من الاقتصاديين الامريكيين اعجابهم بالكتاب وبماورد فيه من افكار .. وتحذيرات