يعاتبها الموت: لماذا استدعيتينى؟.. ليس فى الحياة حقيقة واحدة تستحق أن يموت الإنسان لأجلها!.. يبحث عنها الغياب فى الشوارع وبين الوجوه دون أن يجد لها أثرا.. فيجهش بالبكاء عليها أشواقا وحزنا: كم أفتقدناك أيتها الجميلة العذبة!.. الدرب الوحيد الذى تمنت أن تسير فيه كان ضيقا.. غنت الحب والحياة، فقتلها العشق.. شدت للدنيا، لكنها رحلت فى صمت إلى عالم آخر ينتظرها بكل أسراره. داليدا أو «يولوند كريستين جيغوليوتى»، مصرية من أصول إيطالية.. قصتها أقرب ما تكون للملكة كليوبترا.. إمرأة تمتلك جميع مقومات الأنوثة والجمال.. ناجحة ذكية متألقة فى عملها.. لم يطرق الفشل بابها أبدا.. لكن العشق حطم مراكبها على صخور اليأس، فقررت أن تكتب نهايتها، وتتحرر من قيود الدنيا، لتطلق روحها إلى عالم الأبدية. لم تضع داليدا نهايتها بلدغة ثعبان الكوبرا كما فعلت كليوبترا، وإنما إختارت الموت بتناولها جرعة زائدة من الأقراص المنومة، بعد أن تركت رسالة بجوارها كتبت فيها: «أصبحت الحياة غير محتملة.. سامحوني». بعيدا عن فضائنا، باتت تحلق وسط الأقمار. ربع قرن مضت على غيابها، لم يبق إلّا قبرها الموجود بجبل مونمارتر بباريس حيث ترقد هناك فى سكون تام، وهى التى تربعت على عرش الموسيقى وملأت الدنيا بصوتها العذب. تاركه خلفها ميراث ضخم من الأعمال الفنية، ما يقرب من 500 أغنية بتسع لغات مختلفة. ويبقى أجملها أغنية «حلوة يا بلدى» و «سالمة يا سلامة» التى يتباهى بها المصريون لما تحمل من حنين وحب للوطن. رغم بهاء ليل باريس المطرز بالأنس والنجوم وعطر البهجة، لم يسقط من ذاكرة داليدا يوما أنها إبنة شبرا حيث نشأت وترعرعت وسط ثقافات مختلفة ومتباينة فى زمن كان التآلف والحب هو سمة البيئة المصرية. قطفت من الأرض الطيبة باقة مودة ومشاعر متسامحة لتحملها معها إلى مدينة النور. تتأمل ألبوم صور أيامها الهاربة وقت أن بدأت فى سن مبكرة تتلقى دروسا فى الموسيقى والغناء، ثم تحققت لها الشهرة بعد فوزها بلقب ملكة جمال مصر عام 1954. فتحت أمامها أبواب التمثيل السينمائى، وكانت استوديوهات مصر فى استقبالها بفيلم «دليلة»، وفيلم «سيجارة وكأس». منحتها البداية السينمائية فرصة للتمثيل مع ممثلين مشهورين مثل عمر الشريف فى فيلم «يوسف وإخوانه»، قبل أن تشد الرحال إلى باريس. وقد إستوحت إسمها الفنى «داليدا» من فيلمها الأول «دليلة». من الملاهى الليلية فى باريس، جاءت الإنطلاقة الحقيقية لها فى ديسمبر1954 حيث إلتقت ببعض الشخصيات التى كانت تهتم بالموسيقى وباكتشاف المواهب الجديدة. وإبتسم الحظ لها عندما التقت برئيس شركة بارك ليرى كولد وشدت بأغنية «بامبينو» التى منحتها النجومية. تسكب الشمس ذهبها أمام سحرها، فاستحقت بجدارة لقب «ملكة باريس». جمعت بين الفن والأناقة والجمال فى آن واحد. بهرت الدنيا بعروض فى الثمانينات أشبه بالخيال، وإستعراضات على الطريقة الأمريكية، وصلت إلى حد أنها كانت تغير ملابسها فى العرض الواحد 12 مرة. وتقديرا لأعمالها الخالدة، حصلت على الأسطوانة الماسية عام 1981. غردت للحب دون أن تعيشه.. فبالرغم من عشقها للبيت والأطفال، لم توفق داليدا فى تكوين أسرة سعيدة مع كل من إرتبطت بهم. كان انتحار أزواجها ومحبيها دافعا قويا لها كى تنتحر هى الأخرى. وهى التى سعت كثيرا لملء الفراغ العاطفى بالسفر والغناء فى مختلف أرجاء العالم. كما حاولت الهروب من مأساتها باللجوء للقراءة والاطلاع، خصوصا كتب علم النفس للفيلسوف «فرويد» لأنها كانت تشعر بفراغ نفسى داخلى حقيقى.. إلّا أن كل السبل ضاقت بها. تتضاعف الأوجاع حين يكون الانسان وحيداً.. يقينها بوحدتها المطلقة، أورثها مزيدا من الرغبة فى التحليق بعيدا عن الأرض.. فكان ضوء آخر نهار لها مع الحياة هو يوم 3 مايو 1987 حيث كانت على موعد مع النهاية ولم تخلفه بأى ثمن!.. رحلت داليدا عن عالمنا.. دون أن يضل صوتها الطريق إلى النجوم.. صوت يستعصى على النسيان أو التكرار.. لا أحد إحتل مكانها فى الأفلاك منذ عصور.