دمعة حزن واحدة استطاعت أن تتسلل إلي تاريخ هذا القصر البديع العامر بالأفراح والاحتفالات القومية والعالمية والمناسبات السعيدة، والقابع في كلاسيكيات القرن ال 18 وسط حدائق أنطونيادس الأسطورية بالإسكندرية. كان ذلك في صيف 1942 عندما أرسل الملك فاروق ملك مصر لاستدعاء شقيقته الإمبراطورة الجميلة فوزية التي تزوجها شاه إيران محمد رضا بهلوي، وانتقلت للعيش تحت عرش الطاووس الإيراني، وكانت حجة فاروق لهذا الاستدعاء حضور الإمبراطورة زفاف شقيقتها الأميرة «فايزة»، وكان فاروق يقضي أشهر الصيف في قصر المنتزه، ولذلك فقد قرر استضافة شقيقته الإمبراطورة والحاشية الإيرانية المصاحبة لها في قصر «أنطونيادس». وبعد وصولها وإقامتها بالقصر عدة أيام، فوجئت الحاشية الإيرانية باختفاء الإمبراطورة فوزية، حيث تم تسريبها ليلا في سرية تامة إلي قصر المنتزه، وبعدها لم تعد الإمبراطورة المصرية أبدا إلي إيران مرة أخري.. فقد كان فاروق ينوي الطلاق من زوجته الملكة فريدة، واعتزم طلاق شقيقته من الشاه الإيراني حتي يكون الطلاق جماعيا ولا يحقق صدمة لشعب مصر، وتحقق ما أراده الملك، ووقع الطلاق الجماعي سنة 1948 في مصر وإيران!!... ولم تكن تلك الواقعة الحزينة هي العلاقة الوحيدة بين الإمبراطورة الجميلة وقصر أنطونيادس.. ولكن القصر شهد أفراح هذا الزواج وبعض أيام من شهر العسل بين الشاه والأميرة المصرية بعد عقد القران والزفاف في قصر عابدين، ثم أقيمت العديد من الحفلات في أنطونيادس وفندق «سان استيفانو» التاريخي شذي فيها الموسيقار محمد عبدالوهاب قصيدة «مهيار الديلمي» الشهيرة: أبي كسري في إيوانه.. قد ضممت المجد من أطرافه ليس في الناس أب مثل أبي سؤدد الفرس ودين العرب والقصر العتيق الذي شيده أحد الأثرياء «جون أنطونيادس» عام 1833 والذي توفي عام 1895 ودفن بمقابر اليونانيين بالإسكندرية، ليكون منتجعا صيفيا له، ونسبت المنطقة بكاملها وحدائقها إليها، هذا القصر البديع بكل ذكرياته وكنوزه يخضع الآن لعمليات حصر لمحتوياته بواسطة لجنة من الآثار يقودها د. محمد عباس، رئيس آثار العصر الحديث، وفحص وحصر جميع مقتنياته التي نقلت إلي مخازن مكتبة الإسكندرية بعد ضم القصر إليها، حيث تقرر أخيرا إنقاذ القصر وإعادة إحيائه وتمويله إلي مركز عالمي ليكون مقرا لحوارات الحضارات والثقافات لحوض البحر المتوسط ومركزا للمنح الدراسية واللقاءات الفكرية التي يحضرها مثقفو العالم التي تنظمها مكتبة الإسكندرية.
ليالي الأنس فى أنطونيادس
وتحكي ذكريات القصر أنه قد بدأ الاهتمام به وتطويره لأول مرة بمناسبة دعوة ولي عهد إيران للإقامة فيه، كما جدد أثاثه عام 1930 عندما أقام فيه ملك بلجيكا عند زيارته للإسكندرية. وتحكي ذكريات القصر أيضا إقامة ملك إيطاليا به، وكذلك السلطان عبدالمجيد، والملك فيصل، والعديد من الساسة، وظل هذا القصر محفلا للحياة الاجتماعية لمواطني الإسكندرية وروادها من جميع أنحاء العالم، وبالذات حديقته الذي قام بتنسيقها الفنان الفرنسي «بول ريتشارد»، والتي تبلغ مساحتها 45 فدانا علي غرار حدائق «قصر فرساي» بباريس، وأضيفت إليها إضافات لتجمع بين الطراز الفرنسي والأندلسي. كما شهد هذا القصر مناسبات قومية، حيث تم توقيع معاهدة 1936 مع بريطانيا داخل أنطونيادس، وشهدت قاعاته حدثا عربيا قوميا، وهو اجتماعات الملوك العرب لمناقشة وترتيب إنشاء جامعة الدول العربية عام 1946، واتفق العرب داخل هذا القصر علي إنشاء الجامعة العربية واختيار مصر مقرا دائما لها.
الملك فؤاد يصيد اليمام
وكان نظام زيارة حدائق أنطونيادس يقضي بالسماح للعامة بزيارتها أربعة أيام فقط في الأسبوع، وثلاثة أيام تخصص للملك فؤاد الذي كان من بين هواياته، صيد اليمام في غابة الصنوبر المطلة علي ترعة المحمودية في نهاية حدائق القصر. وقد أهدي ابن «جون أنطونيادس» منشئ القصر.. هذا القصر وحدائقه إلي بلدية الإسكندرية عام 1981، وكان شرط الإهداء أن يظل القصر وحدائقه باسم أنطونيادس، وأقامت بلدية الثغر لوحتين تسجلان هذا الإهداء، بعدة لغات بالحديقة. والقصر كما يشرح د. محمد عباس يعتبر تحفة معمارية ينقسم إلي جزءين: الأول لكبار الزوار، والثاني للمرافقين، ويموج القصر بالقاعات والغرف في كل جوانبه والتماثيل واللوحات، والقاعة الكبري بالقصر تحفة معمارية مكسوة ب «الموزايك» الذي يشبه الرخام المجزع، وتاج دوري من «الجص»، وأهم ما يتميز به هذا القصر مجموعة تماثيل رخامية تنتشر داخل القصر وحدائقه تمثل تراثا مميزا لتاريخ الإسكندرية. ويضيف د. عباس هذه الثروة شارحا: هناك مجموعة شرقية متأثرة بالقصر اليوناني الروماني، وهي «تمثال لسيدة من الرخام ترتدي سروالا طويلا.. وأخري عارية الرأس، وتمثال خادمة من الأقزام، وتمثال عاري الصدر، وتماثيل أخري متأثرة بعصر النهضة» تمثال فاسكوداجاما بالزي العسكري، وتمثال كرستوفر كلومبس، وتمثال لماجلان، وتمثال للأمير نلسون بملابسه الرسمية، وتمثال لسيدة عارية بذراع مكسورة، وتمثال لسيدة ترتدي رداء فضفاضا، وحوض للزهور من الرخام، يوجد عليه أربعة رسوم لتماثيل نصفية، وتمثال من البرونز داخل حوض من البرونز يصل إليه الماء من فم إله الرياح «زفيروس»، والتمثال في هيئة عبد أسود يحمل فوق كتفه أحمالا ثقيلة. وتضم الحدائق نباتات نادرة ومعمرة، والحدائق مفتوحة لزيارة الجمهور تظهر رسوما رمزية.. ووفق التخطيط الجديد للقصر، فإنه سوف يضم مباني للعرض التاريخي والمتحفي لحضارات البحر المتوسط، وقاعات للمؤتمرات، ومكتبات ثقافية، بجانب تطوير الحدائق لتكون مركزا للدراسات البيئية والزراعية، ومركزا للحفلات الكبري. وتأتي أهمية هذه الخطوة المباركة في حصر مقتنيات القصر.. اننا بعد مائة عام من تاريخ إهدائنا هذا الكنز.. تذكرنا أخيرا أننا نملك قصرا تاريخيا رائعا اسمه «قصر انطونيادس».