هاهي أمامك بوجهها الفاتن.. دفنت نصفها الأسفل في كومة التبن وصدرها البارز يتحداك.. لماذا تسمرت في مكانك؟.. أليست هي اللحظة التي حلمت بها؟.. ومن قال إن حبيبتك «وديدة» ستعرف وترفض الزواج منك؟ هي ملكك الآن.. انظر كيف تفرد ذراعيها وابتسامتها العذبة تزغرد لك.. الجو مهيأ تماما لتغرق في بحار اللذة.. الشونة التي تضمكما مزدحمة بأكوام التبن وجريد النخل اليابس.. الحقول حولكما ساكنة.. الجميع يقضون فترة القيلولة في النجوع البعيدة.. النخلة الطويلة خارج الشونة ترقبكما في سعادة.. جريدها يتلاعب في الهواء ويصدر أصوتاً كالزغاريد ماهذا؟.. ابتسامتها ضاعت وعيناها ترميانك بنظرة غضب؟.. إياك أن تجعلها تنقلب عليك.. لاتنس أنها استعصت علي أخيك الأكبر غير الشقيق.. هذا يعني انتصارك عليه رغم مباهاته بالأراضي الزراعية التي تملكها أمه.. أجل.. اخلع الجلباب هكذا ولتبق بالقميص والسروال الطويل وليكن هجومك كاسحاً.. ماهذا الذي تسمعه؟.. شخص يعطس؟.. هل يوجد انسان بالحقول في هذا الوقت؟ أخرجت نفسها بسرعة من أكوام التبن وارتدت الثوب الأسود الفضفاض في ارتباك.. نسيت القميص فيما يبدو ووضعت كفيها فوق صدرها تخفي فتحة الثوب العليا.. ياللفضيحة.. ضبة باب الشونة تصدر عنها أصوات تشبه فرقعات الرعد.. دخل أخوك الأكبر غير الشقيق.. وقف ينقل بصره بينك وبينها وفمه مفتوح عن آخره.. صرخ بأعلي صوته: الحقونا يا أهل البلد.. يافادي الروح.. انجدونا يا خلق هوووه واصلت ضبة الباب فرقعاتها وازدحمت الشونة برجال يحملون المناجل.. يحركون أعناقهم يمنة ويسرة وعيونهم جاحظة أخوك يواصل صياحه وجريد النخلة الطويلة يتحرك بعصبية مثل أذرع النساء في المآتم.
سألتك أمك وصدرها يعلو ويهبط: أبوك.. عرف؟ حلف أن يعلقني من قدمي في سقف البيت أطلقت ثلاث صرخات فامتلأ البيت بالنساء والأطفال.. قالت بصوت عال: زوجي الظالم يريد قتل ولدي بأوامر من زوجته المغرورة بأطيانها. وماذا فعل حتي يريد أبوه قتله كما تقولين؟ زنوبة الغازية أغوت ولدي وجرجرته الي الشونة.. أخوه الذي يكرهه هو الذي سلطها عليه! والله العظيم أقسم برأس أبي في قبره .. أحرق بالنار كل من يمد يده الي ولدي .. يافاطمة.. نعمين ياخالتي .. اسرعي الي نجع (القراقير) قولي لهم ابنتكم وولدها في خطر! لم تمض لحظات حتي جاء خمسة من (القراقير) أقارب أمي .. يحملون النبابيت وأحدهم في يده حربة .. تبدو عليهم السعادة وهم يسمعون أمي تستنجد بهم .. اهل بلدنا يقولون: القراقير يفرحون باليوم الذي يدخلون فيه معركة مثلما يفرح الناس بيوم العيد! جاء أبي بجسده العملاق، عليه جلباب أسود وعلي رأسه عمامة ضخمة.. يبدو أنه فوجيء بالرجال الخمسة .. أخذ يوجه اليهم نظرات نارية دون أن يلقي بالسلام .. أدار عنقه ناحيتي وقال بلهجة صارمة: اطلع قدامي ياولد .. دارت أمي بساعديها حول عنقي من الخلف وصرخت: لن يستطيع جنس بني آدم أخذ ولدي مني. دار ببصره علي الرجال الخمسة وقال لها: يعني تحتمين بأقاربك؟ أقاربي أرجل ناس في البلد. هذا ولدي .. لايستطيع أحد منعي من أخذه. قال أحد الرجال بلهجة حاسمة: حمدان وأمه أمانة في أيدينا! قالت أمي وقد بداعليها السرور: خذه من (القراقير) لو تقدر. مضت لحظة وهو يدير بصره بين أمي وبين أقاربها قبل أن يقول بلهجة من يهوي علي رأسها بنبوت الشوم: انت طالق.
البيت يغص بالنساء يواسين أمك .. وجهها الصبوح بدا شاحباً وسط الخمار الأسود.. إحدي الجارات انخرطت في البكاء وهي تقول لها: ربنا لن ينساك. جارة أخري أشارت إليك وقالت: هي لن تحتاج الي أحد وعندها حمدان .. أصبح رجلا الآن .. ينفق علي نفسه وعلي أمه. تساءلت إحداهن: وما العمل الذي يصلح له حمدان؟ يزرع مع أبيه. ألم تقولوا إن حمدان عرض علي أبيه أن يعمل معه في الزرع علي أن ينفق عليه وعلي أمه فرفض الأب .. قال لن أنفق عليها مليما واحدا؟ يعمل مع احد المزارعين. أجير؟ ابن عطية العشران .. صاحب السواقي والأطيان .. يعمل أجيراً علي آخر الزمن؟ يعمل بالتجارة. التجارة تحتاج الي خبرة ورأس مال. بسيطة .. يذهب الي حقل الحاج صالح .. فهو يبيع الطماطم التي برع في زراعتها للأولاد الذين يسرحون بها في النجوع. - حمدان.. يسرح بالطماطم في النجوع مثل أولاد الغلابة؟ - لا داعي للنجوع.. يبيعها لتجار البندر.. ربحها أقل لكنها أكرم. الحوار يدور حولك وأنت مشغول في تحسس نصل الحربة القصير الذي صنعه لك الحداد وغرسه أسفل عصاك الشومية.. تتمني لو طعنت به صدر عمتك التي تكره أمك.. سمعتها تقول في شماته: «ما أن طلقها أخي حتي تحولت إلي امرأة مسكينة.. تعيش في بيت مثل زريبة الدجاج بعد أن كانت تقيم في بيت يشبه السراي. آه.. هل وصلت هذه الأخبار اليك يا وديدة؟.. هل سأسقط في نظرك يا حبيبتي أتحول إلي شخص يسرح بقفص طماطم مثل أبناء الذين لا يملكون أرضا ولا مالا؟
قفص الطماطم أتعبك.. ربع نهار وأنت تحمله علي رأسك.. المشوار الي بندر كوم أمبو طويل.. ساعدك تاجر البندر في إنزاله وتأملك قليلا قبل أن يقول باسما: - إذا كان كل رأس مالك قفص طماطم.. من أين جئت بهذه الجلابية بخيطانها الفاخرة، وهذا الصديري الحريري، مع العمامة من قماش الكريب الرقيق مرتفع الثمن؟ - وأنت مالك؟! - يا ساتر.. انت زعلت؟ - خذ الطماطم وهات لي فلوسي وأنت ساكت! - أعوذ بالله.. ما هذه الأخلاق الشرسة؟ حمل القفص الفارغ واتجه الي المقهي الذي يرتاده أبناء قريته.. آخر مرة جئت الي البندر علي صهوة فرسكم (عبلة) وأصحاب الدكاكين يتطلعون اليك في إعجاب.. أشار اليك أحد المارة - من أبناء البندر الذين يتعالون أبناء القري وقال لزميله: أراه دائما يركب هذه الفرس اللطيفة. - أظنه ابن عمدة. انظر الي حالك اليوم وأنت تحمل هذا القفص الفارغ.. لو كانت أسرة والدتك أحسن حالا لزرعت مع خالك واحتفظت بقيمتك. لمح ابن العمدة يجلس في أحد أركان المقهي وحوله عدد من أصحابه.. منهم صديقك طه ابن شيخ البلد وصديقك الآخر مرقص ابن التاجر سمعان.. المفروض تنضم اليهم كسالف الأيام.. أنت الآن من طبقة أخري أقل شأنا.. هذا العمود العريض يفصلك عنهم فاجلس خلفه. وضع القفص علي الأرض وفوقه العصا ذات الحربة في أسفلها.. أشار إلي صبي المقهي وقال: شاي ثقيل يا عبدالحافظ. - حاضر يا شيخ العرب. شيخ العرب؟.. هذا كان زمان.. أنت أول من سيعاملني بفتور عندما تختفي الإكراميات. ها هو الولد ثقيل الظل «ركابي المحمودي» يقترب منك بثيابه الرثة وقدميه الحافيتين.. عليك أن تعامله بجفاء كيلا يطيل جلسته. - يا أهلا وسهلا بك يا حمدان.. كيفك ياخوي؟ - زين! وضع القفص الفارغ الذي يحمله علي الأرض وفوقه عصاه الغليظة وقال: مالك يا حمدان؟ - مالي؟ لماذا أنت زعلان ؟ وأنت مالك ؟ ياسلام ؟.. أسألك عن أحوالك فترد بقلة أدب ؟ امش من هنا ! عجائب.. إياك تظن أنك مازلت ابن عطية العسران ؟.. أفق لنفسك.. الحكاية تساوت الآن.. أنا بائع سريح وانت بائع سريح. طعنه بالعصا فدخل نصلها الحاد في صدره.. سقط علي الأرض يتخبط في دمه.. التف حوله رواد المقهي فحجبوه عنه.. ارتفع ضجيجهم وصاح أحدهم : هاتوا كوب ماء ارتفع صوت آخر : أي ماء ؟.. الولد مات. اندفع يجري بأقصي سرعته.. تجنب الطرقات المزدحمة وسط القيصريات ومضي يركض بجوار السور الذي يفصل السكة الحديد عن المدينة.. في احدي فتحات السور صعد الدرجات القليلة ليجد نفسه علي رصيف المحطة.. جال بعينيه خوفا من أن يراه أحد أبناء قريته.. سأل أحد الواقفين : ماذا أفعل لكي أسافر إلي مصر ؟ ثق في هذا الطابور.. وحين تصل الي الشباك اقطع نصف تذكرة.
أحس بالأمان والقطار يتحرك به.. جاءت جلسته بجوار رجلين يرتديان الجلاليب والعمائم.. أحدهما يدين والآخر نحيل.. مظهرهما يوحي بأنهما من قري أسوان.. جاء الكمساري وفحص تذكرته.. قال بلهجته القاهرية : لابد من تذكرة كاملة. أنا صغير السن.. قالوا لي اقطع نصف تذكرة. أنت كبير.. تذكرة كاملة أو تنزل. تدخل الرجل البدين : هذا ولد صغير ياحضرة الكمساري.. وواضح أنك رجل طيب. ليس بالصغير.. وجهه فقط يشبه وجوه الأطفال. تضاحك البدين : أنت قلتها بنفسك .. يشبه الأطفال.. هذا يدل علي عقلك الكبير.. اتركه لوجه الله. من ناحيتي مستعد أتركه.. لكن المفتش سيعمل لي مشكلة. حينما يأتي حضرة المفتش نتكلم معه وربنا يخلي لك أولادك. عاد الكمساري من حيث أتي وهويزمجر .. أنت الآن في مأزق.. لو عثر عليك أهل القتيل لذبحوك.. ولو قبضت عليك الحكومة لشنقتك.. كل هذا البلاء تسببت فيه (زنوبة) زوجة الأجير الغريب صغيرة السن.. استعصت علي أخيك الأكبر غير الشقيق واستجابت لك فكانت فضيحة الشونة.. كيف ستعيش أمك الآن وهي التي لا تملك غير بضعة قراريط يزرعها أخوها ؟.. يجب أن تتجنب أبناء قريتك الذين يقيمون في القاهرة.. بعضهم سيبلغ الحكومة عنك.. عليك أن تبحث عن الرجل المسمي عبد الغني العجيلي.. يقال إنه يسكن في شارع اسمه الظاهر.. هذا الرجل يتردد اسمه كثيراً مصحوباً بالشتائم : تزوج من امرأة غريبة وقاطع أهل بلدنا في الداخل والخارج.. هذا من حسن حظك.. يدبر لك عملاً في السر فلا يسمع بك أحد.
عاد الكمساري وبصحبته المفتش.. أشار اليه وقال: هذا هو يا ريس. قال المفتش: لابد أن تقطع تذكرة كاملة.. هيا ادفع الفرق. أخرج ما في جيبه من نقود.. أحصاها المفتش وقال: لا تكفي ولاحتي لمحطتين قادمتين.. لابد من تسليمك الي بوليس القطار. تدخل الرجل البدين: هو صغير السن ياحضرة المفتش.. والواجب تشفق عليه. أنا سأسلمه في محطة اسيوط ويأتي مفتش آخر.. ماذا يقول عني؟ سيقول كل خير إن شاء الله.. اعف عنه لله وربك يستر. نفخ المفتش وعاد من حيث أتي، وانهمك الكمساري في فحص تذاكر المقعد التالي. ابتسم الرجل البدين وهو يسأله: ما حكايتك يابني؟ أنا؟!.. أنا مسافر مصر. نحن عارفون.. لكن لماذا أنت مسافر اليها؟ أنا؟!.. آه. أنا أبي غني جدا!.. عطية العسران.. شيخ العرب.. ضروري تعرفونه.. أعطاني أموالا كثيرة وقال لي تفسح في مصر علي راحتك وعد الينا في الوقت الذي يعجبك! تبادل الرجلان نظرة ولاذا بالصمت .
هاله الضجيج في محطة مصر.. رأي مجموعة من العساكر حمر الوجوه فسأل شخصا يرتدي جلبابا صعيديا: من هؤلاء؟ نظر اليه الرجل باستغراب وقال: هؤلاء عساكر الإنجليز. من هم الانجليز؟ تضاحك الرجل وقال: الذين يحتلون مصر. هذه أول مرة يسمع فيها أن هناك أقواما اسمهم الانجليز يحتلون بر مصر. لكن أين أعثر علي شارع الظاهر؟ امش في هذا الشارع.. وحينما تراه انقسم الي فرعين، ادخل في الفرع الشمال.
هذا هو اذن عبد الغني العجيلي الذي يشتمه أهل بلدنا.. قصير القامة متين البنيان.. عليه جلبان أبيض وعلي رأسه عمامة صغيرة.. يجلس علي دكة امام عمارة عالية.. تطلع إليه وسأله: ابن من أنت؟ ابن عطية العسران. كثرت الخطوط تشق جبهته كأنه سمع اسم عدو: وما الذي جاء بك؟ أبحث عن عمل. ولماذا لم تزرع مع أبيك؟ حصلت مشكلات بيننا فقررت السفر. أزاح عمامته الي الوراء وقال: أبوك رجل ظالم. ضايقته الكلمة لكنه كظم غيظه.