تمارس أحداث أيامنا دراما تفوق فى بعض أحداثها ما يفوق المآسى الكبيرة التى تحاكى بها التاريخ. هذا ما شعرت به وأنا أتابع عملية اصطياد أعضاء خلية «عرب شركس» التابعة لعصابات بيت المقدس حيث تم تخزين أكثر من ثلاثين برميلا من المتفجرات، بهدف تفجير العديد من المواقع المصرية الحساسة. ولم يخف خبير المفرقعات العميد ماجد أحمد صالح وهو يخوض بين موجات الموت الصامت ليزيل أثر أى محاولة لتفجير كل تلك الكمية الهائلة التى بإمكانها نسف ربع القاهرة على الأقل. وجاءته الرصاصات الملوثة بإدعاء انتمائها لدين الله السمح، ولتصعد روحه إلى السماوات العلا، ومعه توأم عمله العميد ماجد أحمد شاكر . وتتوالى فصول المأساة حين خرجت أسرة الشهيد ماجد من المنزل الواقع بمدينة نصر، لتتسلم جثمانه، فينهار المنزل بفعل تعلية غير مصرح بها أقامها صاحب البيت رغبة فى مزيد من الربح الحرام. تنجو الأسرة ويبقى للمجتمع حق فى رقبة هذا الجشع الرابط فى وجدان كل من قدس الثروة فوق الحياة، ولو بخيانة الحياة نفسها. ولم يكن صاحب المنزل المنهار سوى نموذج من شراذم السعار الذى فرغ كثيرا من العقول والقلوب من مشاعرها، فصارت النقود هى الحلم المالح الذى ما أن يحصل عليه أمثال ذلك الجشع حتى يزداد عطشا للمزيد. فكرت للحظة : أليس هذا العميد الشهيد هو ابن تلك المؤسسة التى عانت من مزايدات كثير من أبناء النخبة الذين ظلوا بعد أسابيع قليلة من ثورة الخامس والعشرين من يناير أسرى لما روجه المتأسلمون الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا مرتزقة الاحتلال منخفض التكاليف، هذا الاحتلال الذى يسكن قادته فى البيت الأبيض وعواصم الغرب الكبيرة، وراح بعض من النخبة يعتبون على العسكرية المصرية أنها أهدتنا منذ ثورة يوليو صيانة لأحلامنا وبناء العديد من سبل تطوير الحياة على الأرض المصرية . ولأننى واحد ممن ينزعجون حين ينسبون للعسكرية المصرية ما فات من فساد عصر مبارك، لأن من يثرثر بذلك لابد وأنه قد رضع من ثدى أعداء ما أنجزته يوليو لصالح عموم المصريين، بل إن مبارك بحكم اختيار السادات له كنائب صار مدنيا، وعندما إختاره السادات نائبا، كان يرغب فى نائب لا يجادل ولا يناقش. وقد سمحت لى ظروفى من الاقتراب من رجل صاحب صدق مؤثر هو منصور حسن الذى كان وزير دولة لرئاسة الجمهورية ، ولم يخف عن السادات حقائق الواقع، ومن تلك الحقائق نبأ ولادة الحزب الوطنى ككيان سياسى مختنق بحبال النفاق الذى لا يمكن تصور ماذا يمكن أن يصنع بالحاكم، وما أن خرجت الرصاصات من بنادق المتأسلمين لتغتال السادات حتى بدأ مبارك إبقاء كل أمر على ماهو عليه، من رضوخ شرس للولايات المتحدة وقبول لرحلة التفكيك العربى دون أن يعمل على تجديد حيوية العمل العربى المشترك، وبدأ فى تكوين طبقة طفيلية تمارس جشعها؛ ويتم تفريغ قوة المجتمع الذاتية لنجد المصانع مفكوكة ومباعة بأبخس الأثمان، ونسمع عن معاش مبكر لقوة عمل ضاربة فى امتلاك الخبرة لتتوه فى زحام الحياة، إلى أن ينفجر الجيل الذى لم يجد لنفسه مستقبلا عبر سدود البطالة الهائلة التى أقامها الجشع والوساطة والمحسوبية، وليأتى الخامس والعشرون من يناير لينهار نظام أكله عفن أطماعه، ولولا مساندة الجيش للثوار لكان حالنا مثل سوريا أو ليبيا، وما أن تولى المتأسلمون الحكم حتى شربوا خمر ضلال التيه بعد أن سرقوا الثورة، فجاء الثلاثون من يونيو ليخلى القمة منهم فعادوا إلى السعار الذى جلب مثل ذلك المخزن الهائل من المتفجرات. وفى أثناء الأعوام الثلاثة الماضية أخذت أحذر من أى تعريض بالجيش لا طلبا لمغنم بل ثقة فى ضرورة الالتفات إلى الخصم الحضارى لنا «إسرائيل» هذا الذى لا توجد فيه قيادة فى أى مستوى من مستويات الدولة العبرية إلا وهى ابنة لمؤسستها العسكرية، بل إن رئيسها الحالى شيمون بيريز ليس سوى الابن الروحى لمؤسس الدولة بن جوريون . وأقارن بينى وبين نفسى ما تزدحم به بعض من أفواه النخبة عن العسكرية، وبين الواقع التعليمى الذى عشناه عبر الأربعين عاما الأخيرة، فأرى كيف تم تفريغ التعليم الجامعى من العقول الكبيرة القادرة على تعليم وتدريب أجيال جديدة إلا فيما ندر، بينما استوعبت العسكرية المصرية درس هزيمة 1967 فلم تسمح بأى انهيار فى نظامها التعليمى، فيرفض أى ضابط أن ينجح فى امتحان أى فرقة بدرجة «مقبول» لأن تلك الدرجة هى الباب الدوار الذى يخرج به صاحبها من المؤسسة العسكرية، ولا يوجد بين مقاتلى القوات المسلحة من ترقى بنفاق أو قرابة أو محسوبية، بل تدريب وتقييم فعلى جاد. وهذا عكس الترقى فى الوظائف المدنية. وحين انتشرت روح الجشع بمحاولة الإثراء بأى طريق منذ عام 1974 ووجدنا فى مدينة نصر كيف تطاولت فيها المبانى دون ترخيص. ولم يكن سقوط البيت الذى سكنته أسرة الشهيد ماجد سوى رمز لعصر صار الجشع هو العازف الأساسى فى طوفان الفوضى الذى قامت الثورتان لوضع نهاية لها. إن اعتمادنا الحالى على القوات المسلحة فى بعض من ملامح تنظيم حياتنا اليومية ليس امنة من الجيش، ولكنه مسئولية يعيشها الرجال الجادون الذين يترجمون الولاء للوطن بتضحيات هائلة ؛ يتعامى عنها أهل قمة الجهل النشيط الذين لم يدرسوا تاريخ مصر جيدا. لمزيد من مقالات منير عامر