قبل عشرة أيام، أعلن فضيلة الشيخ يوسف القرضاوى، أنه كتم بعض فتاواه سنوات طويلة خوفاً من هياج العوام، وقال فضيلته أيضاً إنه يعرف عدداً من كبار العلماء فعلوا الشىء نفسه، وذكر بالاسم فضيلة الشيخ أبوزهرة، رحمه الله، وما ذكره الشيخ القرضاوى يشير إلى ظاهرة متفشية فى حياتنا ومجتمعنا، وتزداد اتساعاً فى العقود الأخيرة، وهى ما يمكن تسميتها «نفاق الجماهير»، حيث يلجأ البعض من كبار السياسيين والعلماء والكتاب والصحفيين إلى نفاق الجماهير وتملقهم بمجاراتهم أحياناً ومداراتهم.. حتى لو كانوا على خطأ. ويجب أن نعترف بأن فى حياتنا النفاق السياسى، حيث ينافق بعضنا ومن مختلف الفئات والطوائف السلطة والحكم، وهذا هو النفاق المكشوف، وأصحابه مفضوحون، سواء من يمارس النفاق أو من يرتضيه ويتقبله أو يسعد به، وينال أصحاب هذا النفاق الغضب والرفض وأحياناً الازدراء، والنماذج الدالة على ذلك كثيرة وعديدة، لا أريد التوقف عندها الآن، فقد أشرت إلى بعضها فى مقالات سابقة، لكن النفاق الأخطر والأكبر هو أن ينافق الكاتب أو المسؤول الجماهير، وهذا هو ما نعانيه. وينتشر «نفاق الجماهير» فى المجتمعات التى تفتقد التعددية ولا تعترف بحق الاختلاف، ومن ثم فهى ليست وقفاً على المجتمع المصرى، بل تمتد إلى كل المجتمعات العربية حيث الاستبداد السياسى والتسلط الاجتماعى، وفى مواقف عديدة يثبت أن نفاق الجماهير يمكن أن يجلب كوارث حقيقية، بينما مخالفتها ومواجهة الناس بما قد يغضبهم أصلح. فى مطلع القرن العشرين - 1906 - قامت مشكلة بين مصر والإمبراطورية العثمانية حول «طابا»، كانت الدولة العثمانية تريد أن تنزع «طابا» من مصر لتنتقل إلى التبعية المباشرة للسلطان العثمانى، ولو تحقق ذلك لا تكون «طابا» مصرية، ووقف بعض السياسيين المصريين ضد رغبة السلطان وأيدهم عدد من الكتاب مثل لطفى السيد، وغضبت الجماهير فى مصر من الذين يعارضون دولة الخلافة ومولانا السلطان، واتهموهم بالكفر والمروق لأن مصر كلها تتبع مولانا السلطان، وانطلق الزعيم مصطفى كامل يغذى هذا الشعور بخطبه الحماسية ومقالاته.. وصارت الأغلبية مع التنازل عن «طابا»، ونفر قليل يواجهونهم ويقولون بل هى مصرية.. وللظروف الدولية ولأن دولة الخلافة كانت الرجل المريض، بقيت «طابا» مصرية.. ترى ماذا لو نافق الجميع الجماهير آنذاك..؟! وتأمل ما جرى مؤخراً فى قرية الشارونية، حيث تم إحراق منازل البهائيين وطردهم من القرية، بدعوى أنه لا مكان فى القرية لغير المسلمين والمسيحيين واليهود.. وأعرف أن الرأى العام مع هذا الاتجاه وترى الجماهير أن البهائيين «كفار» وأن وأن.. وبملء الفم يجب أن نقول إن ما جرى فى الشارونية، مع البهائيين هو جريمة متكاملة الأركان، وإن القرآن الكريم أقر فى العديد من الآيات للكافر بكفره، وعقاب الكافر متروك له سبحانه وتعالى يوم الدين، وإذا كان الله لم يسمح للنبى بأن يتخذ موقفاً عدائياً من الكافر بسبب كفره، فهل نرتكب نحن ذلك الجرم؟.. نفاق الجماهير وتملق أهوائهم يقتضى أن نشيد بما جرى مع البهائيين وأن ندعو للمزيد منه، لكن الحقيقة تقتضى عكس ذلك تماماً، فما حدث هو جريمة كاملة ولا يجب للمجرم أن يفلت من المحاكمة والمحاسبة. ويتنافس كثيرون فى نفاق الجماهير، كتاب ودعاة وسياسيون، بل الحكام أحياناً، وتأمل حين يكون حاكم مستبد وطاغٍ ينافقه السياسيون والمشتاقون، بينما هو ينافق الجماهير بدوره، لتكتمل دائرة الزيف. صباح الثلاثاء - أمس الأول - نشرت جريدة «الشروق» حديثاً مع الرئيس السودانى عمر البشير.. قال فيه إنه لم يعلن عن الغارتين اللتين تعرض لهما السودان فى شهر يناير، لأنه - على مدى ثلاثة أشهر - لم يكن لديه علم بمن قام بالغارة، حتى أعلنت إسرائيل أنها هى التى نفذت الغارة فعرف، وقال أيضاً إنه يصعب السيطرة على حدود السودان، ويرى أنه لا غرابة فى ذلك، إذا كانت الولاياتالمتحدة لا تسيطر على حدودها مع المكسيك، وقال ثالثاً إن الإخوة فى مصر أبلغوه بأن أسلحة يتم تهريبها من السودان لكنه لم يتمكن من الوصول إلى شىء ولا أمسك بالمهربين، وأنه ليس فى مقدوره ذلك.. رجل يعترف بالعجز التام والفشل الكامل، ولا يمتلك القدرة ولا الرغبة فى تجاوز العجز، وحين لا يتمكن حاكم من حماية حدود وسيادة بلده، فأبسط الأشياء أن يرحل فوراً، لكنه بدلاً من الرحيل أو أن يطالبه أحد بالرحيل، قرر نفاق الجماهير، إذ يعلن بثقة «نحن مع المقاومة على طول الخط..»، أى مقاومة.. إذا لم تقاوم داخل بلدك.. فمن تقاوم وكيف؟ لا شىء سوى نفاق الجماهير، وصارت كلمة المقاومة فى عالمنا العربى هى رمز نفاق الجماهير وتملق مشاعرهم فى المرحلة الحالية.. الذين ساندوا الولاياتالمتحدة عسكرياً فى احتلال بغداد، يقولون إنهم مع المقاومة فى غزة.. وحين تفتش عن المقاومة الحقيقية التى قاموا بها أو المساندة، لا تجد سوى الخطب فقط، لأن من تهن عليه بغداد، عاصمة الإسلام والعروبة فى أزهى عصورها، فلن يوجعه ضميره من أجل غزة، صحيح أن بغداد وغزةوالقدس كلها بحاجة إلى المساندة والمقاومة، لكن بغداد فى الميزان الحضارى والثقافى والسياسى لا تقل أهمية عن القدس ذاتها... والذين وضعوا يدهم مع المحتل مرة وساندوا الاحتلال فى بلد لا يمكن أن يكونوا مقاومين، وإن قالوا بمساندة المقاومة فإنما هى غسيل أسماء أو سعى للمنفعة بطريق آخر ووسيلة براقة، وربما المداراة على كارثة أكبر يتم التدبير لها. وإذا كان نفاق الجماهير خطراً حقيقياً، يجب التنبيه إليه والتحذير منه، لكن هذا لا يعنى الدخول فى عداء مع الجماهير أو مخالفتهم بمنطق «خالف تعرف»، فذلك خطر آخر، لأنه يقطع التواصل بين الجماهير ونخبتها، احترام مشاعر الجماهير واجب ومطلوب، لكن فى لحظة معينة ينبغى التوقف ومواجهة من نحب، فلا حب ولا احترام دون اختلاف، التطابق التام يكون فقط لدى العبيد.