ارتضى اللبنانيون عبر تاريخهم المعاصر بصيغة التوافق الوطنى الذى يرتكز على قاعدة المحاصصة ( بين الطوائف ) والمناصفة ( بين المسلمين والمسيحيين) ، فعلى الرغم من حالة الاصطفاف الطائفى التى لا تخطئها العين ، لكن اختياراتهم وقراراتهم السياسية الكبرى لا تولد إلا بالتوافق هكذا جاء اتفاق الطائف عام 1989 الذى وضع حدا لحرب اهلية استمرت خمسة عشر عاما، ومن بعده اتفاق الدوحة عام 2008 الذى انهى احداثا دامية وازمة سياسية دامت 18 شهرا. على الرغم من الخطاب الإعلامى التحريضى والتوتر المذهبى والاستقطاب السياسى الحاد الذى ميز الساحة اللبنانية خلال السنوات الثلاث الماضية، فإن اللبنانيين تجاوزوا كل ذلك بإعلان الحكومة العتيدة فى 15 فبراير الحالي، بعد مخاض عسير طال اكثر من المعتاد، حيث استمرت مشاورات تشكيلها عشرة أشهر وعشرة ايام فى حين تمكن سعد الحريرى من تشكيل حكومته فى 9 نوفمبر 2009 بعد مشاورات دامت 139 يوما ، ومن بعده تمكن نجيب ميقاتى من تشكيل حكومته فى 13 يونيو 2011 بعد مشاورات استمرت 143 يوما. الحكومة الجديدة وصفها رئيسها تمام سلام بأنها حكومة المصلحة الوطنية ، واعتبرها رئيس مجلس النواب اللبنانى نبيه برى «أنها أفضل الممكن» ، بينما رأى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أنها حكومة تسوية وطنية وليست حكومة وحدة وطنية.. هذا التوصيف يتسم بالواقعية لعدة اسباب اهمها ان هذه الحكومة عمرها قصير لن يتجاوز المائة يوم، أى موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالى ميشال سليمان فى 25 مايو المقبل . وأنها حكومة الضرورة التى تحول دون مزيد من التباعد بين الفرقاء فى محيط داخلى واقليمى مأزوم . الواقعية أو بالأحرى التوافق هو الذى مكن لبنان من تجاوز أزمة الفراغ السياسى خلال الفترة الماضية حيث حالت الظروف الداخلية والأوضاع الإقليمية دون صدور قانون الانتخابات، ومن ثم بات التمديد لمجلس النواب المنتهية ولايته فى 16 يونيو 2013 ضرورة دستورية لسبب بسيط وهو أن المجلس النيابى يشكل عصب الحياة السياسية وركيزتها ، فهو الذى يوافق على اختيار رئيس الحكومة التى لايمكنها ممارسة اعمالها فعليا إلا بعد موافقة البرلمان على بيانها الوزارى ، وهو الذى يختار رئيس الدولة، بغالبية الثلثين فى الدورة الأولي، ويكتفى بالغالبية المطلقة فى دورات الاقتراع التالية. ومن ثم أقر مجلس النواب (29/5/2013) فى جلسة لم تستغرق سوى عشر دقائق قانون تمديد ولايته لمدة سنة و5 اشهر تنتهى فى 20 نوفمبر 2014 فى حضور 97 نائبا من اصل 128 نائبا. المتابع للشأن اللبنانى يمكنه القول باطمئنان إن اللبنانيين لم يجدوا بدا سوى التصالح مع انفسهم وتجاوز مآسيهم الشخصية وأبلغ دليل على ذلك اعلان رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريرى ومن أعتاب المحكمة الدولية الخاصة بلبنان فى لاهاى ( 16 يناير 2014 )، حيث يحاكم المتهمون باغتيال والده الشهيد الرئيس رفيق الحريرى .. أعلن القبول بحكومة وحدة وطنية لا تستثنى احدا وهو ما كان رغم عقبات اللحظات الأخيرة حول حقيبة الداخلية واعتراض حزب الله على اسم اللواء اشرف ريفى الذى آلت إليه - بصيغة توافقية - حقيبة العدل مع تمسك تيار المستقبل بحقيبة الداخلية التى نالها النائب نهاد المشنوق. يدرك اللبنانيون أن الحكومة الجديدة ربما لن تستمر طويلا لكنهم امام استحقاق دستورى مهم وهو انتخاب رئيس الدولة فى مايو المقبل ، ويدركون أكثر ان حالة التوتر والانقسام التى تفاقمت بعد تدخل حزب الله علنا فى الحرب السورية وما نتج عنها من تداعيات اكثرها خطورة مسلسل التفجيرات فى طرابلس والضاحية الجنوبية ...كل ذلك ستكون عواقبه وخيمة على السلم الأهلى والعيش المشترك . ومن ثم فإن لغة الخطاب السياسى تصب فى مجملها نحو دعم الجيش بما يعنى ان القوى السياسية فى سبيلها إلى تجاوز العقبة الكئود ( البيان الوزارى ) ليأتى مختصرا متجنبا فى صياغته القضايا الخلافية وعلى وجه التحديد استبعاد صيغة « الشعب والجيش والمقاومة « التى يتمسك بها حزب الله ، وإعلان بعبدا (تحييد لبنان وحصرية السلاح بيد الدولة ) التى يتمسك بها تيار 14 آذار . اللافت أن تشكيل الحكومة الحالية جاء ليضيف بعدا جديدا فى قواعد اللعبة السياسية، وهو المداورة فى اسناد الحقائب الوزارية، وهذه الخطوة تصب باتجاه الحلحلة من القيود الطائفية التى يئن منها المجتمع اللبناني، وينادى الكثير من السياسيين بالحد من مساوئها، ليس هذا فحسب، بل إن مظاهرات الشباب التى شهدتها بيروت خلال العامين الماضيين تزامنا مع ثورات الربيع العربى رفعت وان على استحياء ولأول مرة - شعار الشعب يريد الغاء الطائفية . إذا كان صحيحا أن ما أسهم فى إخراج الحكومة الحالية هو تلاقى مصالح بعض القوى الإقليمية والدولية المرتبطة بقوى سياسية داخلية فاعلة ، إلا أن الإحساس بالمسئولية والتحديات الجسام هما السمة الغالبة لكل التيارات على الساحة اللبنانية ومن ملامح ذلك التلاقى والانفتاح بين حزب الله وتيار المستقبل اللذين خاضا سجالا اعلاميا حادا منذ سقوط حكومة الحريرى فى 25 يناير 2011 على خلفية اتهام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لعناصر من حزب الله باغتيال الشهيد رفيق الحريرى . الأهم هو تلاقى كل الفرقاء على طاولة واحدة، أى الحكومة الجديدة ، بعد مقاطعة تيار 14 آذار للحكومة السابقة، وهذا من شأنه أن يخفف من حالة الاحتقان السنى - الشيعى ومن ثم نيل الحكومة ثقة المجلس النيابى فى تأكيد أن التوتر المذهبى والطائفى لن يكون عقبة امام التوافق السياسى ( صيغة لا غالب ولا مغلوب) الذى أضحى سمة لبنانية بامتياز خلال سبعين عاما من تاريخه المعاصر . . وليس بخاف على أحد أن التوافق اللبنانى الداخلى ربما يفضى إلى انعكاسات ايجابية وإن بدرجات متفاوتة على أزمات عربية واقليمية ذات صلة بالمشهد اللبنانى . لبنان.. توتر أمنى وتوافق سياسي لمزيد من مقالات د. أحمد أبوالحسن زرد