تشير الأدبيات الاقتصادية إلى أن التوترات الجيوسياسية والنزاعات المسلحة تُخلّف آثارًا سلبية جسيمة على اقتصادات الدول؛ إذ تؤدى إلى تحويل الإنفاق من التنمية للتسلح، وتعطيل سلاسل الإمداد، وهروب الاستثمارات. وتؤكد الدراسات أن هذه التأثيرات تزداد حدة مع استمرار الصراع واتساع رقعته، حيث قد تصل خسائر الناتج المحلى الإجمالى إلى 30% سنويًا. ورغم ذلك، يبرز اقتصاد الكيان الصهيونى كحالة شاذة يصعب تجاهلها. فمنذ تأسيسه، يعيش هذا الكيان منغمسًا فى حالة دائمة من التوترات الجيوسياسية والصراعات الإقليمية التى لا تهدأ؛ لكن اقتصاده يُظهر دائمًا قدرةً لافتةً على التعافى السريع وتحقيق معدلات نمو إيجابية خلال فترة زمنية قصيرة. إن هذه المفارقة التى تجمع بين الصدمة والصمود، تدفع للتأمل وتطرح تساؤلًا جوهريًا: كيف يتمكن هذا الاقتصاد من الحفاظ على صموده رغم التحديات الهائلة؟ فخلال العقدين الأخيرين فقط، انخرط الكيان الصهيونى فى سلسلة متواصلة من الحروب الإقليمية، بدءًا من حربه مع حزب الله عام 2006، مرورًا بحروبه المتكررة مع حركة المقاومة الإسلامية، وصولًا إلى المواجهة الأخيرة مع إيران. ورغم هذا الواقع المتقلب، تضاعف الناتج المحلى الإجمالى للكيان ثلاث مرات، وارتفع نصيب الفرد من الناتج ليصل فى السنوات الأخيرة إلى أكثر من 52 ألف دولار أمريكى، وهو ما يفوق الدخل فى الدول المجاورة مجتمعة. وفى ظل إنفاق عسكرى ضخم بلغ 28 مليار دولار أمريكى فى عام 2024، حافظ الاقتصاد على معدل نمو حقيقى يتراوح بين 2 و3%، مع معدلات بطالة لا تتجاوز 4.5% واحتياطات دولارية تعادل نحو 40% من الناتج المحلى الإجمالى، إن محاولة الإجابة عن سؤالنا تتطلب بحثًا معمقًا وسلسلة من المقالات، إلا أننا سنسعى فى هذه السطور الموجزة إلى إبراز بعض الخصائص التى تُسهم فى تعزيز قدرة الكيان على الصمود الاقتصادى والتعافى السريع. • • • يكمن جزء من الإجابة فى تنوع هيكل اقتصاده وتعدد مصادره. فعلى خلاف اقتصادات المنطقة التى تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على النفط والقطاعات الأولية، يستند اقتصاد الكيان إلى قاعدة واسعة من القطاعات الحيوية، تشمل التكنولوجيا المتقدمة، والصناعات الدوائية، والصناعات العسكرية الدفاعية، والزراعة الحديثة، والسياحة. وهذا التنوع يمنحه درجةً عاليةً من المرونة فى مواجهة الصدمات الاقتصادية والتقلبات الإقليمية. وتُسهم هذه القاعدة المتعددة، التى تجمع بين قطاعات إنتاجية وخدمية متقدمة، فى تقليل الاعتماد على القطاعات الهشة الأكثر تأثرًا بالحروب، بل وتساعد فى تعويض العجز التجارى الناتج عن تلك التحديات. وفوق ذلك، تشكل استقلالية الكيان المتزايدة فى مجال الطاقة، لا سيما بعد اكتشاف حقول غاز بحرية فى العقود الأخيرة، تحولًا جوهريًا أدى إلى تقليص اعتماده على الواردات وتحويله إلى مصدر للطاقة لبعض دول الجوار. وتستند قوة الكيان الاقتصادية أيضًا إلى سياساته المالية والنقدية المحافظة. فبينما ترزح دول المنطقة تحت أعباء مديونية مرتفعة تخطت فى الأردن مثلًا 103%، يحافظ الكيان على نسبة دين لا تتجاوز 60% من ناتجه المحلى، مما يعزز من استقراره المالى ويتيح له مساحة مالية لاستيعاب تكاليف الحروب. كما أن السياسة النقدية الرشيدة لبنكه المركزى تمكنه من الحفاظ على معدلات تضخم منخفضة ومستويات بطالة مستقرة، علاوة على احتياطى دولارى كبير (190 مليار دولار)، وفائض حساب جارى وصل مؤخرًا إلى أكثر من 20 مليار دولار. وعلى عكس نظرائه فى المنطقة، الذين تعانى بنوكهم المركزية من ضعف الاستقلالية وخضوعها لتدخلات حكومية مباشرة، يتمتع البنك المركزى للكيان بدرجة عالية من الاستقلالية تمكنه من اتخاذ قرارات نقدية مدروسة وموضوعية بعيدًا عن التأثيرات السياسية. ويُعزى إلى هذه الاستقلالية قدرته على الحفاظ على استقرار الشيكل ومستوى تضخم منخفض رغم ما يمر به من أزمات وحروب. • • • تلعب الشراكات الاستراتيجية والاندماج العميق للكيان فى سلاسل التوريد العالمية، لاسيما فى قطاع التكنولوجيا، دورًا محوريًا فى تعزيز قدراته الاقتصادية، إلى جانب علاقاته الاقتصادية المتينة مع أبرز الاقتصادات العالمية المستقرة، من خلال اتفاقيات تجارة حرة مع الولاياتالمتحدة وكندا والاتحاد الأوروبى والصين والهند، فضلًا عن عضويته فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية. ومن ثم، فتسهم هذه العوامل مجتمعة فى دعم فرص التصدير وجذب الاستثمارات الأجنبية رغم ما تشهده المنطقة من توترات. كما أن جهوده المتواصلة لتطبيع العلاقات مع دول الجوار، ساعدت فى توسيع آفاق التعاون الاقتصادى مع دول المنطقة، مما مكنه من منافسة دول عربية واقتطاع حصة متزايدة من أسواق الاستيراد خلال السنوات الأخيرة. • • • أما العمود الفقرى للصمود الاقتصادى الذى يفسر كل ما تم ذكره سابقًا وما سيُذكر لاحقًا، فهو الاستثمار المستدام والمتزايد فى تنمية رأس المال البشرى، فمن اللافت أن الكيان يخصص نحو 6.1% من ناتجه المحلى الإجمالى لقطاع التعليم، مما يجعله فى مصاف الدول المتقدمة كالنرويج وأيسلندا. ويمتاز نظامه التعليمى بالتركيز الكبير على مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، من خلال مبادرات تعليمية تحفز التفكير النقدى والفضول العلمى لدى الطلاب منذ المراحل المبكرة، ما يُكسبهم مهارات ومعارف تتوافق مع متطلبات أسواق العمل الحديثة المعتمدة على الابتكار والتقنيات المتطورة. نتيجة لذلك، يتمتع الكيان بقوة عاملة عالية الكفاءة تُعد من بين الأبرز عالميًا. وبينما تتسع فجوة إنتاجية العمل بين الدول العربية والدول المتقدمة، نجح الكيان فى تقليص الفجوة بين إنتاجيته ومتوسط إنتاجية العمل بالدول المتقدمة من نحو 30% إلى 10% خلال العقدين الأخيرين. ويُعد هذا الاستثمار فى رأس المال البشرى، إلى جانب الإنفاق المرتفع على البحث والتطوير (بنسبة 4.5% من الناتج المحلى الإجمالي)، والتحول نحو اقتصاد المعرفة بدلًا من القطاعات التقليدية القائمة على تصدير المواد الخام أو الصناعات منخفضة القيمة المضافة، من العوامل الرئيسية التى أكسبت الكيان سمعة عالمية باعتباره «دولة الشركات الناشئة». فهو يتصدر عالميًا فى عدد الشركات الناشئة نسبة إلى عدد السكان، ويجذب استثمارات محلية وأجنبية ضخمة إلى هذه الشركات. كما يستضيف الكيان أكثر من 400 شركة تكنولوجيا متعددة الجنسيات، مثل: إنتل، ومايكروسوفت، وأبل، والتى أنشأت فيه مراكز متقدمة للبحث والتطوير. ولذلك، فقد أصبح قطاع التكنولوجيا يشكّل العمود الفقرى للاقتصاد الإسرائيلى، إذ يسهم بنحو 20% من الناتج المحلى الإجمالى، ويشكل نصف الصادرات الصناعية تقريبًا، ويشغّل حوالى 11.4% من القوة العاملة، ويمثل موظفوه نحو 25% من إجمالى ضريبة الدخل بسبب ارتفاع رواتبهم. وعلى عكس العديد من دول المنطقة التى يقتصر فيها دور المؤسسات الدفاعية على مهام خدمية أو زراعية، طوّر الكيان منظومة متكاملة للبحث والتطوير المشترك بين القطاعات العسكرية والمدنية، تُنتج تقنيات متقدمة فى مجالات حيوية، مثل أنظمة المراقبة والاتصالات. وقد ساهم ذلك فى جعله لاعبًا رئيسيًا على الساحة الدولية فى ميادين، مثل الأمن السيبرانى والذكاء الاصطناعى، ومن هنا، يُعَدّ استمرار تدفق الاستثمارات إلى قطاع التكنولوجيا، حتى أثناء الحروب، أحد أبرز أسباب الصمود الاقتصادى للكيان. فرغم مروره خلال العامين الأخيرين بإحدى أطول وأعنف مراحل الحرب فى تاريخه، وتزايد منسوب عدم اليقين الجيوسياسى، فقد حقق القطاع التكنولوجى إنجازات لافتة؛ حيث بلغت صفقات الاندماج والاستحواذ نحو 13 مليار دولار وتجاوزت صادرات قطاع الأمن السيبرانى مليار دولار. • • • أما العامل الحاسم فى صمود اقتصاد الكيان الصهيونى، فهو الدعم الدولى الثابت والممنهج الذى يتلقاه، وبوجه خاص من الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد آثرتُ تأخير مناقشة هذا العنصر إلى نهاية المقال نظرًا لفرادته وعدم قابلية باقى الدول لمنافسته فيه؛ فهو يمثل شبكة أمان شاملة لا مثيل لها تجمع بين ضمانات دبلوماسية تعفى الكيان من المحاسبة الدولية، ومساعدات عسكرية تحفظ له التفوق النوعى، ودعم اقتصادى واستثمارى يعزز استقراره الداخلى، فالولاياتالمتحدة، باعتبارها الحليف الأكبر، حولت دعمها إلى التزام استراتيجى غير مسبوق فى التاريخ الحديث. فمنذ عام 1959، تجاوزت قيمة المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، بعد تعديلها حسب التضخم، حاجز 250 مليار دولار. وقد استأثر الكيان فى السنوات الأخيرة بأكثر من نصف إجمالى المساعدات الخارجية الأميركية، ما يجعله فى واقع الأمر يستند إلى اقتصاد مواز قائم على هذا الدعم. • • • وفى الختام، يجدر التأكيد على أن الكيان الصهيونى رغم مرونته الاقتصادية ليس بمنأى عن التحديات التى تفرضها الحروب؛ بيد أن هذا المقال يركز على الآليات التى تمكّن هذا الكيان من الحفاظ على استقراره النسبى فى ظل صراعات متعددة الجبهات وتوترات جيوسياسية مستمرة. ولأن «الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها»، فإن تجربة الكيان تحمل فى طياتها دروسًا ثمينة تُبرز أهمية الاستثمار فى رأس المال البشرى والابتكار، وتنويع مصادر الدخل، وتطوير بنية تحتية اقتصادية مرنة قادرة على الصمود أمام الأزمات، وتؤكد حتمية بناء نظام ديمقراطى يسمح بالتعددية والمساءلة. تلك الدروس نحن كأمة عربية فى أمسّ الحاجة إليها فى ظل التحديات الوجودية التى نواجهها؛ ففى زمن تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية والاقتصادية، يصبح بناء المناعة الاقتصادية شرطًا أساسيًا للبقاء. أستاذ اقتصاديات التنمية