لأعوام طوال كال صاحب هذه السطور الاتهامات للأمريكيين، وجل القصد كان ولا يزال الإدارات الأمريكية المتعاقبة، غير أنه على أعتاب الذكرى الثالثة للربيع العربى يجد المرء نفسه أمام إعادة قراءة لحدود العلاقة بين العرب ودولهم، والأمريكيين وإمبراطوريتهم ،حتى وإن كانت منفلتة كما قال المؤرخ «بول كيندي» ذات مرة. فى هذا السياق يتساءل المتسائلون هل ما جرى من شد وجذب بين العرب والأمريكيين يستوجب قطعية مع الأمريكيين أم إظهار روح العداوة لهم، وربما البحث عن حلفاء آخرين،والاستغناء عن الصداقة الأمريكية مرة وإلى الأبد، وهى كلها فى واقع الحال أسئلة صادرة عن رأس ساخن، لفحته حرارة الربيع العربي، على غير المتوقع، فبات غير قادر على التفكير بتودة وعقلانية، وعليه أن ينتظر حتى يبرد كى يرى الأمور بمعيار صاف رقراق لا تشوبه شائبة ولا تعكر صفوه الانفعالات. فى هذا السياق ربما يتوجب علينا التفكير عند حدود مستويين، الإدارات والحكومات الأمريكية بأذرعها السرية والعلنية، ما فوق الأرض وما تحتها، وبين الشعب الأمريكي، مع الأخذ فى عين الاعتبار أن الحكومات متغيرة والشعوب باقية، وأن الصداقات والتفاهمات مع الشعوب هى الأكثر أهمية وعليها يعول صناع القرار وقراء الأفكار الثقات، وعليه يبقى السؤال الجوهرى ما هو الطريق لكسب قلوب وعقول الأمريكيين. الشاهد أن التأمل مليا فى نموذج مارتن لوثر كنج، القس الأسود المستضعف فى الداخل الأمريكى فى خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، ربما يقودنا إلى الكيفية التى ينبغى فيها التخاطب مع الشعب الأمريكى دون احتمالية لخسارته، مهما بدا من مكر السياسيين وخطط العسكريين وشهوات قلب مجمع الصناعيين فى الحروب وأخبار الحروب. أبدع مارتن لوثر كنج فى منظومته الإنسانية «أنا عندى حلم» عندما تحدث إلى الأمريكيين البيض عن الحلم الذى يلف الإنسان الأمريكى الأسود دون تمايز أو عنصرية، ولا استعلاء أو استغناء، خاطب الضمير الأمريكى المنزه عن أدران العنصرية، فقضى على التمييز العنصرى فى القوانين والإدارة الأمريكتين. هل لنا كعرب ومسلمين أن نقدم مثالا من أجل العدالة والحرية للبشر جميعا، خطابا إنسانيا يهدف إلى مناشدة الأمريكيين المساعدة فى رفع الظلم والغبن التاريخى الواقع على شعوبنا ، على سبيل المثال، الواقع على الإنسان الفلسطيني، المغتصبة أرضه، دون أن يحتوى على لغة الانتقام من اليهود ودون حقد على الظالمين، خطاب يبين لأبناء العالم العربى أن السير فى طريق العدل يجب أن لا يتلطخ بارتكاب أى ظلم «... فلا يجوز أن نطفئ ظمأنا للحرية بتجرع كأس الحقد والكراهية، بحسب تعبير كنج. تستوقفنا ونحن فى سياق التحذير من التطرف فى الكراهية للشعب الأمريكى بسبب أفعال الحكومات الأمريكية مقاربة تلقائية بين نموذج مارتين لوثر كنج الذى لم يستطع الأمريكيون مقاومة خطابه الإنساني، حتى وإن دفع دمه وحياته ثمنا لهذا الخطاب، وكان تحرر السود فى أمريكا على يديه نتاجا طبيعيا لهزة أخلاقية مست شغاف قلوب الأمريكيين، وبين الداعية الأمريكى «مالكوم إكس» الذى صاغ خطابا اقصائيا حديا، فرق فيه بين البيض والسود عوضا عن أن يجمع بينهما، ورفض العون من البيض الشرفاء الذين يرفضون التمييز العنصرى ضد السود، فانتهى وانتهت معه دعوته إلى الأبد دون أن تحقق شيئا. ربما يمكننا أن نوجه للولايات المتحدة اتهامات صحيحة عديدة فى المجال العام، لكن هناك نماذج بعينها فى النظام الأمريكى تعد نقاط قوة لا ضعف، وأهمها حرية حركة النقد الذاتى والقدرة على تلافى وتصحيح الأخطاء التى ترتكبها الإدارات المتعاقبة. خذ إليك على سبيل المثال ما جرى فى نهايات عهد جورج بوش الابن، ففى ذلك الوقت أبدت قيادات التيار الأصولى فى جماعة المحافظين الجدد، الذى كان مسيطرا على الإدارة وقتها قلقا شديدا من التراجع الحاد لشعبية بوش رغم كل محاولات التضليل والكذب والتلفيق التى مارستها وسائل إعلان النظام، وزاد قلقهم عندما أشار الخبراء إلى أن سر هذا التراجع كان مرده الآراء الحرة المتداولة عبر وسائط الميديا الاجتماعية المختلفة. هل اليوم شبيه بالأمس؟ التاريخ لا يكرر ذاته لكن أحداثه تتشابه، فها هى مؤسسات عديدة شعبية ورسمية فى أمريكا اليوم تتساءل عن ذاك الذى اقترفته أيادى إدارة أوباما فى عدد من البلدان العربية وفى المقدمة فيها مصر، وفى مواجهة العنت الأوبامي، تجاه إرادة المصريين تقف مؤسسات كالبنتاجون، وأفراد متنفذين مثل ستيفن هادلي، ووسائط إعلام غير منحازة، ترى أن هناك خطأ ما فى السياسات الأمريكية تجاه مصر وأنه لابد من حتمية تغيير المسار. لا مصلحة لنا البتة فى خلق خصومة أو نشوء أو ارتقاء حالة من العداء بين الشعب الأمريكى وشعوبنا العربية، وهى حالة يستفيد منها أعداؤنا بشكل فاعل، مصلحتنا الحقيقية فى أن نحدث الأمريكيين كيف يعودون «مدينة فوق جبل» تنير للعالم أمنا وأمانا وديمقراطية وعدالة وسلام، ثم كيف لهم تغيير قيادات غير حكيمة أضرت أكثر مما أفادت داخل بلدها وخارجها.. عبر الخطاب الناجح يمكننا تغيير أمريكا وحدود العلاقة معها لا تدميرها، وفى شكل جديد من أشكال العلاقة يمكننا أن نكسب الشعب الأمريكى لا أن نغلبه، وهى المعادلة الصعبة والسهل الممتنع، الأمر الذى لا يفهمه إلا الراسخون فى العلم. أما أصحاب الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة فهم عبء على العرب فى طريق العلاقة المتجددة مع أمريكا والأمريكيين. لمزيد من مقالات اميل أمين