ولأنه من'عمد'وسط البلد, ألم بتاريخ شوارعها ومبانيها جيدا, وعرف أغلب سكانها, المقيم منهم والعابر, كان تواجده طوال الأيام الأولي للثورة سهلا, وزيارته التحرير ميسرة في كل الأوقات, يقصد مسالكه الآمنة, ويتجنب مواضع الخطر وتجمعات البلطجية. ما مكنه من مشاهدة الأحداث بعينيه في بداياتها, وتتبع أبطال الثورة الذين آثروا الظل والصمت, والمهمشين الذين قاموا بأدوار مهمة, وبجانبهم تنبه للأصوات والألوان والنباتات, وأضفي علي كل شخصياته وأحداثه جلالابخلفيات تاريخية للمباني والشوارع. ومنذ البداية سجل كافة التفاصيل في' نوتة' صغيرة لاتفارق جيبه, فحفظ لنا كتابه المهم' كراسة التحرير', الذي رصد تداعيات' ثورة25 يناير',من زوايا ربمالم ينتبه إليها إلا ندرةمن المصريين,بعين محبة,وقلب مهموم أمرضه شوق طويل إلي الحريات. لأنه يعرف مدينته عن ظهر قلب,لم تكن الثورة عنده علي ضخامتها حدثا سياسيا مجردا,بل إنسانيا بالمعني الأشمل للكلمة, تداخلت فيه أشياء كثيرة متفرقة ومختلفة, إلتقت كلها في لحظة الثورة, من أول شمة غاز, إلي صيحات الفرح الهائلة لملايين المصريين بسقوط الطاغية. ' مكاوي سعيد'رأي المشهد بعين ثعلب,وذهنية يسارية, وروح أديب, ووجع مواطن مصري,تعقب بذكاء وخفة ظل خونة الثورة من الانتهازيين, ومن زعموا أنهم شعراءالثورة, وكانوا في الميدان وهم لم يدخلوه, ومن عادوا الثورة من أول لحظة لصالح مبارك, وحين تنحي تنصلوا منه, وتنكروا لتاريخهم هم أنفسهم. ولم ينس صمود الناس في مواجهة الجوع والبرد والإقامة القاسية في ميدان لا تتوافر فيه أية خدمات إنسانية, لكنهم خلقوا مجالا مفتوحا للتكافل الاجتماعي, ودبروا منظومة إعاشة عشوائية رائعة, إلي أن تحققت أولي نتائج الثورة بإجبار مبارك علي التنحي. متي يكون الانحياز السياسي للكاتب ضرورة, ومتي يجب أن يختفي, ومتي يشكل خطورة علي الإبداع؟ طوال عمري آليت ألا يكون لي انحياز سياسي في الكتابة, وتعلمت من تجارب الآخرين, فالتحزب إذا كان واضحا يضعف الموهبة لاستهلاكها في الدفاع عن الانتماء السياسي في العمل الأدبي, وهذه الحالات تلوي الفن لصالح السياسة, وحتي لو كان العمل مبهرا في توهجه اللحظي عند صدوره, لكن بمجرد انتهاء الحدث تظهر العيوب, لكنني في' كراسة التحرير' انحزت للمهمشين الذين قتلوا وجرحوا وألقي بهم في مقابر الصدقة, مقابل فنانين ومثقفين واعلاميين كانوا يزورون التحرير كلما كان المؤشر لصالحه فقط, وعيونهم تجري وراء الكاميرات, ليدلوا بأحاديث ثم يهربوا, وأنا لم أكتب كتاب' كراسةالتحرير'إلا بغرض الإنحياز للشهداء المهمشين الذين دفنوا بمقابرالصدقة. الكتابة عن الثورة والتحرير ووجوه الثورة لا تتشابه مع شخصيات كتابك السابق' مقتنيات وسط البلد', ففي' كراسة التحرير' ذكرت أسماء وحددت مواقفا, ومن لم تذكر أسماءهم أسهبت في أوصافهم ليعرفهم القارئ بسهولة, فهل انحيازك للثورة أطاح بتحفظك؟ مقتنيات وسط البلد كانت تجربة أخري, اهتممت فيها بالمواهب التي كانت مبشرة في بداياتها ثم انتهوا نهايات مأساوية, ولم تكن لأسماءهم أهمية لأنهم غير معروفين أساسا وانطفأوا مبكرا, لكن في كتاب الثورة' كراسة التحرير' كان لابد من إبراز أصحاب الأنياب الوحشية, وأصررت علي هذا لأن كلامهم كان يمكن أن يتسبب في ذبح كثير من الثوار, ومن الواجب ألا يتركوا, لذا وضعتهم في الكراسة بوضوح. ألم تخش أن يلاحقك أصحاب الأنياب قضائيا ؟ مواقفهم التي ذكرتها معلنة وعليها أسانيد, ثم ماذا أكون أنا بجانب الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداء للشعب, ومن أصيبوا بجروح بالغة وعاهات مستديمة, ومن فقدوا أعينهم وأطرافهم, والحقيقة أنني حين كنت أشاهدهم وهم يهاجموننا في الفضائيات كنت أتمني اللحظة التي أكتب عنهم فيها لأقتص للثورة وللمهمشين منهم. وهل شفت الكتابة غليلك؟ طبعا.. لكنها لم تكن كتابة ثأرية بل موضوعية, بدليل أنني في كتابي السابق انتقدت صاحب مقهي ريش الذي كان يفرز الداخلين إلي مقهاه, وأحيانا كان يمنعهم من الدخول, لكن في الثورة حين أدخل الثوار المقهي وأغلق عليهم الأبواب ليحميهم من الضرب أشدت به في' كراسة التحرير'. هل الفرح بالثورة كان سببا لهذه الكتابة المحبة للشخصيات والأماكن والأشياء, أم أن للكتابة علاقة بطبيعة الكاتب الشخصية؟ في الثورة كنت أدون كل ما يلفت نظري في كراسة صغيرة, لم أكن أعرف ماذا سأفعل بالكتابة, وحين قرأت مجموعة من الكتب التي صدرت بعد الثورة وجدتها تهتم بالتوثيق, وأغلب أصحابها أظهروا أنفسهم باعتبارهم الفاعلين في الثورة, قررت كتابة ما رأيته, واستبعدت ما قرأته في19 كتابا, واهتممت بالموجع والطريف والغرائبي, بالمشهدية أكثر, والألوان والصوت والضوء والشجر وأصوات الطيور, بجانب الشخصيات والأماكن, والكتابة فعل حب, حتي الشرير في الكتابة تكون له جوانب إنسانية, لاشر مطلق ولا خير مطلق, والرمادية أكثر الأمور وجودا في الحياة واستقرارا. أنسنة الأشياء( المباني الحجارة الخيام الرسوم الأضواء) هل هي تداعيات اللحظة الثورية التي جعلتك تري ذلك التوافق بين الانسان ومحيطه, أم أنها قدرة أدبية تختلف من شخص لآخر؟ أعتقد أن الشجر يشعر بنا, والنباتات والخامات تحس بنا, والعامة يقولون' دا مكان عتبته وحشة', أو' ريحه حلو', والأماكن في وسط البلد بعضها تاريخه أقدم من الولاياتالمتحدةالأمريكية, ومن عمر دول عربية كثيرة, لذا أعتقد أنها تشهد علينا, وعندما تكون مليونية والجو حر وفجأة الدنيا تمطر, ويبدد الغاز, ألا يعد الجو متحالفا, والمشهد الشهير علي كوبري قصر النيل, والثوار يصلون, والأمن يطلق عليهم قنابل الدخان, واتجاه الريح كان لصالح الثوار وأسقط القذائف في النيل, وميزة الأدب التقاط التفاصيل التي لا يتنبه إليها عامة الناس, وشغلتني مثلا عربة الفول التي كان يأكل عليها الثوار والبلطجية معا ويناولان بعضهما الخبز والأشياء, وطوابير التبول أمام المراحيض التي ضمت الثوار والبلطجية, وفي أوقات الاشتباكات كانوا يقاتلون بعضهما, وفي قصة أحمد لطفي في أول أيام الثورة جندي أمن مركزي اقتاد فتاة من الثوار إلي شقته وطالب بحمايته من قوات الأمن. الفارق كبير بين اللقطات الأدبية والكتابة التأريخية, فكيف تفاديت التداخل بينهما, وهل تعتقد مثل آخرين أن الكتابة الأدبية تأريخ من زاوية الإنسان لا الأحداث ؟ الكتابة التأريخية آخذها من مصادرها الرئيسية البعيدة عن كتب التاريخ, من الأعمال الأدبية, مثل روسيا في القرن19, أو أمريكا اللاتينية في دكتاتوريات جمهوريات الموز, لأن الأدب يعطي تاريخ الشعوب من دون أن يقول لك الأديب إنه تاريخ, فالتاريخ الرسمي عادة يكتبه المنتصرون من وجهة نظرهم, لذا حرصت أن تكون كراسة التحرير إبداعا موازيا يعتمد علي التاريخ الذي رأيته, ربما يفيد المؤرخين لاحقا. هل إقامتك الدائمة في وسط البلد طوال عمرك ساعدتك علي التقاط العلاقة بين الإنسان ومحيطه أثناء الأحداث, وهل أفادتك معرفتك بالمكان في تفادي المخاطر, وما مدي اختلاف رؤية العارف عن العابر حتي لو كان كلاهما شاهد عيان ؟ نعم سهلت تنقلي, وكنت أعرف أماكن تجمع البلطجية, والمداخل الأسهل للميدان, ونقاط ضعفه وقوته, ومعرفتي بتواريخ الأماكن والبنايات بدأت معي من مرحلة الثانوية, وشكلت لي شغفا إلي الآن. الكتابة عن تاريخ البنايات والميادين والشوارع هل تعني أن كل هذا التاريخ يعمق الحدث ويدعم الفعل الثوري ويضفي عليه جلالا محتلفا؟ بالتأكيد.. لا أريد تقديم معلومات جافة للقارئ, وبحكم ارتباطي بالسينما ودراستي اعتدت علي الرؤية المشهدية, ولا أكتب تاريخا مجردا, أكتبه وأضفره في حكايات طريفة أو غريبة, مثل ما كتبته عن تاريخ إقامة تمثال سيمون بوليفار الموجود في الميدان المسمي باسمه في جاردن سيتي, وكذلك سرقة سيف التمثال بعد الثورة. هل الكتابة عن الثورة مشاركة فيها, وامتداد للفعل الثوري علي نحو ما ؟ طبعا لم أشارك مثل الثوار.. لكني حرصت علي التواجد في الأماكن الآمنة التي أستطيع منها مراقبة أهم الأحداث خلال الثورة, وأنا الآن بطبيعة الحال ليست لدي القدرة علي المقاومة بفاعلية الثوار وقوتهم, لكني شاهدت أهم الأحداث بعيني, ووقفت بجانب الثوار والثورة برواية الحقيقة ومقاومة الزيف, وتنبيههم للمخاطر, والكتابة عن كل ما رأيته. هل تتصور أن مطالب الثورة ستتحقق؟ ليست هناك ثورة تنجز أهدافها في18 يوما, كل ثورة لها موجات, تتوالي حتي تتحقق مطالبها, وثورتنا مثل برميل مهتز لن يستقر حتي تعتدل الأحوال. هل تحتمل الكتابة عن الثورة تصفية أية حسابات شخصية أو ضغائن, أم أنها لا تقبل سوي التجرد, ووصولها للناس مشروط بالنقاء؟ الكتابة عن الثورة تستوجب الموضوعية, لأنها ظرف عام استثنائي, ويمكن أن يكون هناك شخص سيئ, لكنه أثناء الثورة فعل شيئا جيدا لصالح البلد لابد أن أذكره, ولا أحد يصنع الثورة وحده, وأغلبية الشعب تشارك فيها, وما يكتب عن تفاصيلها وشخوصها يجب أن يتحلي بالنقاء النفسي والتجرد. لما غامرت ببعض الصور غير الواضحة مثل الكتابة عن الرضيع الذي قتله الغاز, ألم تخف علي مستوي الكتاب, أم أن هناك خفايا لا نعرفها لم تستطع الإفصاح عنها؟ ما شعرت به أنها غير مكتملة صحيح لأن هناك معلومات لم أستطع كتابتها, لأنها ربما تدين الأب والأم, وتعطي بعض الأغبياء فرصة لإطلاق الأحكام المشوهة للثورة, وكذلك لم أستطع كتابة أن أحد أبطال الثورة من أصحاب الشقق المطلة علي الميدان توفي بعدها بثلاثة أشهر تأثرا بالغاز, وحكاية ثالثة غير مكتملة لأنني استفدت بها دراميا, ولم أنشرها كاملة حتي لا تسرق الفكرة.