امتلأ الميدان بالاشتباكات, وطاردت أصوات قنابل الدخان والقنابل المسيلة للدموع عم أحمد في كل أرجاء الشقة ذات الغرف السبع التي تطل شرفاتها علي الميدان.. وكلما أوصد باب غرفة عليه, كانت الروائح تتسلل من بين شقوق الشيش وثقوب المزاليج وأسفل الباب, وأجهدت هذه الروائح رئته العليلة, فبدأ يسعل بشدة, وتنهمر دموع عينيه.. ثم قرر قرارا جريئا بإغلاق كل منافذ الشقة, والذهاب إلي إحدي بناته المتزوجات ليبيت عندها هذه الليلة.. وكان هذا القرار قرارا خاطئا جدا, فرغم أن عم أحمد يسكن بهذا المكان المتميز منذ أكثر من ستين عاما, وشهد أغلب ما مر علي هذا الميدان التاريخي من أحداث, لكن هذه المرة خانه توقيت النزول, فبمجرد خروجه من بهو البيت وإطلالته علي الميدان, وجد المعارك لا تزال محتدمة, ولم يستطع أن يلمح ممرا آمنا يسمح له بالخروج من الميدان, تراجع عم أحمد وارتكن منكمشا علي جدار الممر الطويل المؤدي إلي بيته, بنيته النحيلة وسنه المتقدمة لم تحمياه من التدافع المجنون للجماهير الباحثة عن منفذ نجاة, كاد يقع من تيار هوائهم الذي يمر به وهم يجرون بسرعات هائلة, ويرونه بالكاد فيتجنبون الاصطدام به, رائحة الغاز النفاذة هيجت صدره, وترسب بعضه علي زجاج نظارته من الداخل وارتد إلي عينيه فزاده ألما, غير أن عضلات قوية رأفت به, وحملته بسرعة إلي داخل الممر, دفن عم أحمد رأسه في صدر حامله وهو يشير إلي بهو بيته, دخل به الرجل البهو وصعد به الدرج, اطمأن عم أحمد عندما لمح باب شقته, أنزله الرجل من علي صدره وربت كتفه وهم بالمغادرة, أمسك أحمد بيده وهو يفتح الباب وطلب منه الدخول, وانتبه عندما وجد خلفه بعض الهاربين من الاشتباك, كانوا يصعدون مثله علي نفس الدرج, وكانوا ينظرون إليه بعيون متوسلة كأنهم ينتظرون دعوته, ورغم أن الخوف كان يملأهم إلا أن الخجل أيضا تمكن منهم, وجعلهم في وضع الاستعداد للصعود حتي أعلي البناية, هربا من مصير مفجع, كانوا رجالا وصبية وسيدات, بصعوبة فتح لهم أحمد الباب علي مصراعيه, فدخلوا وأغلقوه خلفهم, جلسوا منكمشين في الصالة الكبيرة, وهو غير قادر حتي علي دعوتهم للتحرك بحرية في الشقة, غير قادر حتي علي الإشارة إلي مكان الحمام والمطبخ لمن أراد أن يشرب شيئا باردا أو ساخنا, كان صوت قنابل الغاز والطلقات مازال مسموعا, لكن دقات حادة علي خشب الباب أزعجت الجميع, هم الرجل بالتحرك نحو الباب لكن عم أحمد ضغط علي يده, فهم الرجل أن من الأفضل أن يفتح عم أحمد الباب بنفسه, أمسك بيد أحمد واتجه إلي الباب, كان نبض اليد مرتفعا وباطن الكف يتعرق, عندما فتح الرجل شراعة الباب ليتعرف أحمد علي القادم, واجههما وجه شاحب لجندي أمن مركزي, زاد توتر عم أحمد والرجل يفتح الباب بحذر ويتراجع ليقف خلفه, حاجبا بجسده الضخم رؤية ما بداخل الشقة, كان الجندي يتكلم بصوت خفيض وبنبرات مهتزة, ويده ممسكة بفتاة نحيلة تبدو علي وشك الدخول في غيبوبة قصيرة, بدا صوت الجندي وكأنه يتوسل وهو يقدم الفتاة تجاه عم أحمد ويقول: والنبي يا عم تدخل البنت دي عندك.. وتحافظ عليها كأنها بنتك.. الغاز كان حيموتها. تناول عم أحمد دواءه ورقد علي سريره فتركه الرجل ينام بعد أن أحكم تغطيته وخرج إلي الصالة, كانت الأصوات قد بدت تخفت, وثمة قطرات مياه علي زجاج الغرفة تنتشر ببطء, ابتسم أحمد في رقدته وأحس بأن الله في جانب المتظاهرين, لأن نزول المطر في تلك اللحظات سيبدد الدخان, وبدأ بالفعل لا يحس بتأثيره, أو هكذا خيل إليه, قد تكون مرت ساعة أو ساعتان أو ثلاث, وصحا عم أحمد علي لمسات الكف الضخمة التي تربت كتفه, أخبره الرجل بأن الأمور قد هدأت وأن الموجودين يرغبون في شكره والرحيل, طلب عم أحمد من الرجل أن يتقبل شكرهم نيابة عنه, وكان قد قرر أيضا أن ينزل من شقته ويذهب ليبيت عند ابنته وأولادها في الدقي, فربما تزيد سخونة الأحداث ليلا ولا يجد أحدا بجواره يعتني به, لذلك وضع أدويته في حقيبته الصغيرة التي يعلقها علي كتفه وهم بالخروج من غرفته, لكنه فوجئ بنفس الرجل مازال موجودا بالمكان وينظر إليه بدهشة وهو يسأله بصوت رقيق: أنت خارج يا عم أحمد في الظروف دي؟, وصاحبه بين رجال الأمن المركزي المدججين بالسلاح والمستنفرين حتي أوقف له تاكسي, مد له أحمد يده الواهنة من نافذة السيارة ليودع الرجل, لكن الرجل فاجأه بتقبيلها بسرعة وغادر المكان مهرولا, ولم يره أحمد بعدها مطلقا. ثم تصاعدت الأحداث بعدها وأصبحت الليلة.. ليلتين ثم ليالي, وعم أحمد ذو ال67 عاما من العمر علي كثرة ما شاهد من أحداث في ميدان التحرير, كان قلقا ومنزعجا حتي وهو بين ابنته وأحفاده بعيدا جدا عن الميدان.. حتي تلقي مكالمة من أحد الجيران بأن الثوار اعتلوا محل الحقائب أسفل شرفته ودخلوا الشقة ثم فتحوا الباب وأقاموا بها.. (هذه ليست قصة مستوحاة من ثورة 25 يناير, ولا أبدعتها مخيلة روائي, لكنها حكاية حقيقية حدثت للاستاذ أحمد لطفي مستشار تحرير جريدة الأهرام إبدو كما رواها لي بنفسه. هذا الكاتب الصحفي الجميل رحل عن عالمنا مساء الثلاثاء3 يناير الحالي, قبل أن يمر عام علي الثورة التي أحبها بقدر ما أدهشته وجعلته متفائلا في أيامه الأخيرة..رحمه الله) المزيد من مقالات مكاوى سعيد