كان أول التفاتي إلي محسن لا أعرف بقية الاسم حين رد عم طلب تاجر العلاقة أسفل بيتنا علي سؤال أبي: في حياة الشاب سر يجب ان نحترمه. ثم وهو يشرد في الفراغ: وقاه الله شر أولاد الحرام! شغلني الشاب، استعدت ملامحه وتصرفاته: القامة الطويلة، النحيلة، العينين البنيتين، السحنة الساكنة، العزوف عن المخالطة، عدا وقفاته المتعجلة، المتباعدة، أمام دكان عم طلب، يظل وحيدا، وإن أكثر من التلفت، ومتابعة حركة الطريق. اتابعه وهو يقف علي باب البيت، يتلفت كأنه يطمئن إلي ماحوله، يسير بخطوات مهرولة، في طريقه إلي المسافر خانة، تلاحقه نظرتي، اعرف انه يتخفي، يفر من شيء لا اتبينه. احدس انه سيمضي إلي الناحية المقابلة، يخترق الشوارع الضيقة، والحواري، فيصعب مطاردته. اعبر الشارع الضيق إلي بيتنا في المواجهة، تتوزع نظراتي بين هدوء المكان، وانشغال عم طلب بما لم اتبينه داخل الدكان، وخلو السلالم المفضية إلي طوابق البيت، وغياب مايشي بوجود محسن داخل الشقة، اطمئن إلي انه لن يحدث في الاوقات التالية مايعرض حياة الشاب للخطر. لا اذكر المناسبة التي تكلم فيها عن طلب عن وسيلة المطاردة كما يعرفها: ينادي الشرطي عسكريا أو ضابطا علي من يطارده، إن واصل المطاردة فراره، لحقه بطلقة في الهواء، يظل في جريه، فيطلق الرصاصة علي ساقه، لايقف، فتصيب الرصاصة ماتبلغه من جسده. هل اشتد طوق الحصار، فظهرت التوقعات؟ هل يطاردون الرجل، يسلم نفسه، أو يقتلونه؟ رفعت عيني بعفوية إلي النافذة المغلقة، لا أعرف إن كان داخل الشقة أم انه قصر عودته إليها علي قدوم الليل؟ كان يخرج من البيت ويعود إليه كالمتسلل، كمن لايريد ان يراه احد، قبل ان يميل إلي شارع رأس التين، ينظر إلي ساعة يده، ثم يواصل السير. اتابعه بنظرة متفحصة، كأني اريد ان احتفظ بملامح وجهه في ذاكرتي. تبطئ خطواته عند اندساسه في زحام شارع الميدان، يختفي في زحام السوق من مجال الرؤية، يصعب علي الاعين الراصدة ان تلاحقه، أو تعثر عليه، فقامتي الضئيلة تتيح لي رؤيته في تنقله بين الدكاكين، يتأمل، ويتخلص من الزحام، ينتفض للكزة مفاجئة، يستعيد نظراته المتشككة، أو الخائفة، ويواصل اختراق الزحام. عانيت الاستغراب وأنا التقيه في اماكن لاتخطر لي ببال، قامته المديدة، وبشرته السمراء، وعينيه الدائمتي التلفت، حذره المتوتر أو الخائف يدفعه هذا ماتصورته إلي الاختفاء، اعدت النظر، تأكدت من وقفته داخل مكتبه« إخوان الصفا وخلان الوفا»، بالعطارين، يقلب مجلدا ضخما ويتطلع إلي الطريق، جلسته المسترخية علي رصيف قهوة فاروق، هبوطه درجات جامع أبو العباس، جلوسه في قاعة المطالعة بمكتبة الإسكندرية.. تطلعه من وقفته علي رصيف الميناء إلي الباخرة التي تطلق صافراتها تأهبا للرحيل، اماكن متباعدة، غالبت استغرابي لمارأيته فيها: اسطح البنايات، داخل النوافذ والشرفات عربات الترام والأوتوبيس، علي دكك الحدائق ورصيف الكورنيش، كأني اعيش حلما، أو أنه نسخة واحدة، متكررة. حين اشار عم طلب، تركت وقفتي علي الرصيف المقابل، قال في صوت يمازج بين الارتباك والخوف: تعرف شقة الأستاذ محسن؟ عرفت أنه يقصد ساكن الشقة.. أومأت برأسي قال وهو يهز يده باوراق متسقة الحجم، ويدفع لي مفتاحا باليد الأخري: تأكد من انه لايوجد منها شيء في الصالة. غلبني الارتباك أمام باب الشقة الموارب، اعرف انه ليس في الداخل، فمن فتحها؟ دفعت الباب باطراف اصابعي، طالعني الصمت في الصالة المغطاة بظلمة شفيفة، وان سهل رؤية الطاولة الخشبية المستديرة وسط الصالة، تناثر فوقها، وعلي الأرض، اوراق كثيرة، مطبوعة، ومكتوبة بخط اليد، علي الجانبين ثلاث حجرات، اغلقت نوافذها فامتدت فيها الظلمة، ومن الشقة المقابلة، المغلقة، تتناهي تلاوة من المصحف المرتل. ادركت من فوضي المكان انه يسكن الشقة بمفرده. غمرني شعور بالارتياح، وانا اهبط درجات السلم، فعلت ماطلبه عم فلان تماما. لم يكن يقيم في الشقة بصفة منتظمة، يهبط منها، ويعود إليها، كل يومين، أو كل عدة ايام، عم طلب هو وحده الذي يخالطه من الجيران، يتبادلان التحية، أو يقف محسن أمام الدكان، يكلم عم طلب فيما لااتبينه. ذلك الصباح، تبينت صوت عم طلب واضحا، ربما لان محسن لم يكن قد اقترب من البيت تماما: جاءني رجلان.. سألا عنك. حاول محسن مداراة انفعاله: ماذا يطلبان؟ قال عم طلب في تهوين: ابدا.. سألا عنك. التقطت قول محسن وهو يمضي في اتجاه باب البيت: إن عاودا قل إنك لاتعرفني. زاد من التلفت، أنه يقدر وسائل الهرب، كيف؟ وإلي أين؟ تمنيت لو انه فطن إلي التصاق بلكونة شقته ببلكونة الشقة المجاورة، لايفصلهما سوي جدار علي هيئة نصف دائرة يسهل القفز من حيث يقيم إلي الشقة الأخري، الواجهة تطل علي الشارع الخلفي، يستطيع ان يفر من الشوارع والحواري، فلا يفطن مطاردوه. صدني الحزن الهادئ الذي يكسو وجهه، طال ترددي في مفاتحته، إذا ضاق الحصار، فإني ادلك علي الطريق. فتشت عن الكلمات التي تومئ إلي المعني دون ان تعلنه، قبل ان احدد الكلمات التي اريدها، كان الرجل قد اختفي في انحناءة شارع رأس التين. غلنبي الخوف لرؤية الرجال الثلاثة أمام الدكان، يرتدون بدلا سفاري، يتكلم اوسطهم، يسأل، ويلاحظ، ويوضح، ويأمر، بينما يتابع الرجلان كلامه. مد الرجل يده إلي الدرج، عادت برزمة اوراق. قال عم طلب وهو يدفع بيديه خطرا مجهولا: لم ارها إلا الآن. استطرد في نبرة متحشرجة: لعلها اوراق ألف فيها البضاعة. من باعها لك؟ لا اذكر! بل تذكر. وهز قبضته: موقفك سيء.. إن لم تدلنا علي مكانه لم يذكر الاسم ستدمر حياتك. أنا لااعرف إلا دكاني.. لاشأن لي بأحد. ألم تشر عليه باستئجار الشقة؟ عشرات الناس يسألونني عن اشياء، وادلهم عليها. وعلا حاجباه بنظرة استغراب: أنا لااعرف شيئا. واشاح بيده كأنه ينهي الموقف: كيف اعترف بما لا اعرفه؟ قال الرجل في كلمات متباطئة: انت متورط في التستر علي مجرم هارب. تملكني القلق عما سيفعله محسن إن عاد، وعرف ان سره افتضح، لفني هاجس بأن شيئا ما، سيئا، يوشك ان يحدث. عاجل الرجل عم طلب بلطمة اودع فيها قوته، لحقه بركلة فيما بين ساقية، صرخ لها عم طلب وهو يتهاوي إلي الأرض، جذبه الرجل بيد متقلصة احاط عم طلب رأسه بذراعيه، يحاول اتقاء الضربات المتلاحقة، لكن توالت اللكمات والركلات علي الوجه والرأس والصدر والظهر، ماتصل إليه في الجسد الذي لايملك صاحبه دفعا لما يحدث. بدا ان عم طلب فقد السيطرة علي نفسه، والرجل يضرب ويضرب، بيديه وقدميه، لايختار موضع ضرباته، كلما علا انين عم طلب وحشرجاته، زادت الضربات، وتلاحقت. تقلصت يد الرجل حول عنق عم طلب، ضغط بآخر ماعنده، وعم طلب يدافع عن نفسه بقبضتين متخاذلتين، ويحاول التخلص. ظللت واقفا علي مدخل البيت، اغالب تأثرى لما يواجهه عم طلب علي ايدي الرجال الثلاثة، والناس في تناثرهم علي ابواب البيت والدكاكين، وفي النوافد، يكتفون بالتطلع الصامت، ثبتت نظراتي، لااعرف ماذا يجب ان افعل، ولاكيف او متي ينتهي الأمر، لكن المشهد تبدل بما لم اتوقعه، كأن عم طلب لمح مادفعه إلي النهوض، قوة فاجأت المحيطين به، وفاجأته هو نفسه. بدا وجه عم طلب منتفخا، وشفتاه متورمتين، وخيط من الدم جانب فمه، حاول ان يتساند إلي الجدار، لكن قواه تخلت عنه تماما، وتدلت ذراعاه إلي جانبه، فقد القدرة علي الحركة والاستعانة، فقد القدرة حتي علي التنفس، تهيأ للسقوط، لولا ان لحقه رجل من المحيطين به، مد يده تحت ابطه، يعينه علي الوقوف. ضغط عم طلب علي شفته السفلي باسنانه، واغمض عينيه في تألم وفتحهما، يرنو إلي محسن الذي مال ناحية البيت، زاد من اتساع عينيه، وهز رأسه. عرفت ان محسن ادرك المعني، حين ادار جسده إلي انحناء الطريق. محمد جبريل صدرت له 34 رواية منها : الاسوار ، أمام آخر الزمان ، من أوراق الطيب المتنبى ، قاضى البهار ينزل البحر ، الصهبة ، قلعة الجبل ، النظر إلى إسفل ، الخليج ، اعترافات سيد القرية ، زهرة الصباح ، الحياة ثانية ، زمان الوصل ، ماذكرة رواة الاخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، الفصول الاربعة ، البحر أمامها ، كوب شاى بالحليب ، ورجال الظل . كما صدرت له 21 مجموعة قصصية منها : إنعكاسات الايام العصيبة ، حكايات ومواقف فى حياة المبتلى ، سوق العيد ، إنفراجة الباب ، رسالة السهم الذى لايخطىء ، مالانراه ، وفى الليل تتعدد الظلال . وحصل علي جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 1975 عن كتابه «مصر في قصص كتابها المعاصرين»، نال وسام العلوم والفنون والآداب من الطبقة الأولي عام 1976، تم تكريمه من مجلة«ديوان العرب» الإلكترونية في عام 2006، مع عدد من مثقفي الوطن العربي، ونال جائزة التمايز من اتحاد الكتاب المصريين عام2009. كما ان له 14 كتابا في السيرة الذاتية والدراسات، درس الدكتور شارل فيال كتابه «مصر في قصص كتابها المعاصرين» علي طلابه في جامعة السوربون، فازت روايته «النظر إلي اسفل» بجائزة احسن رواية في معرض القاهرة الدولي للكتاب سنة 1993، واختيرت روايته « رباعية بحري» ضمن افضل مائة رواية عربية في القرن العشرين، ترجم العديد من رواياته وقصصه القصيرة إلي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والماليزية.