«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوصية
بقلم : محمد جبريل
نشر في الأهرام اليومي يوم 05 - 02 - 2010

لما طال المرض بجدنا‏,‏ وألزمه البيت‏,‏ عرف أنه مرض الموت‏.‏ لم يعد من المقبول أن يخفي الوصية التي شغله التفكير فيها‏,‏ وإعدادها‏,‏ خلال سني حياته الأخيرة‏.‏ كان جدي جالسا في مدخل دكانه‏,‏ أول شارع السكة الجديدة‏,‏ لما سمع هاتفا يدعوه إلي الصحو من غفلته‏.‏ أدرك دنو الموت‏,‏ أزمع أن يترك الدنيا‏, ويتجه إلي الحياة الآخرة بأداء الفرائض‏,‏ والتمسك بالزهد والورع‏.‏
ترك الدكان لأكبر أبنائه‏,‏ ولازم العبادة‏,‏ تمني أن يموت مصليا‏,‏ أو حاجا‏,‏ أو منصرفا إلي قراءة القرآن‏.‏
تردد في آخر أيامه إلي الشيوخ والفقهاء والعلماء‏,‏ لازم مجلس إمام جامع نصر الدين في فقه الدين‏,‏ عني بحفظ القرآن الكريم‏,‏ ومعظم صحيح البخاري‏,‏ وقرأ كتب الفقه علي المذاهب الأربعة‏,‏ وجود في القراءات‏,‏ ودرس الأصول والفرض‏,‏ وقرأ شرح ألفية ابن مالك‏.‏
عندما أحكمت فكرة اقتراب الأجل سيطرتها عليه‏,‏ فرغ إلي نفسه يكتب وصيته‏,‏ أغلق عليه باب حجرته‏,‏ لايأذن حتي لأمنا بالدخول يوما كاملا‏,‏ نهاره وليله‏,‏ يكتب أسماء من يذهب إليهم الميراث‏,‏ قال إنه جعل الأزواج أبناء عمومة وخؤولة‏,‏ فلايرثه الغرباء‏,‏ رسم بقلم رصاص خيوطا متوازية ومتقاطعة‏,‏ صنعت لما وضع القلم خطا رئيسا‏,‏ يتفرع منه مايشبه الأغصان والأوراق‏.‏ عرفنا أنه رسم شجرة العائلة‏,‏ أضاف إلي المعني سؤاله عن أسماء الحفدة الذين ولدوا حديثا‏,‏ أو أنهم ولدوا في مدن أخري‏.‏
قال عمي مهران إن جدنا الهادي كان يهييء نفسه في الأيام الأخيرة لما يبدو أنها رحلة طويلة‏,‏ أو غياب يصمت عن مدته‏.‏
روي أنه لما أحس بدبيب الموت‏,‏ أرسل في طلب الشيخ عبدالقادر الدجوي إمام جامع البوصيري‏,‏ وكانت بينهما صداقة‏,‏ وأسرار تقتصر عليهما‏.‏ لم يسلمه الوصية‏,‏ وإن دله عليها‏,‏ هي في قلعة قايتباي‏,‏ مدسوسة بين حجرين‏,‏ رسم مايسهل وصول الشيخ عبدالقادر إلي موضع الوصية‏,‏ صندوق خشبي صغير‏,‏ أغلق عليه الوصية وحدها‏,‏ لايفتح‏,‏ ولاتفض الوصية‏,‏ ورقة واحدة مطوية‏,‏ إلا بعد أن يفارق حياتنا‏,‏ كتبت سطورها بخط يد الجد الذي نعرفه جيدا‏,‏ ومن المستحيل تقليده‏.‏
وعد الشيخ الدجوي أن يودع الأوراق مكتب حسين طايل بشارع محرم بك‏.‏ قال إنه حصل علي النصة لموكليه في كل القضايا التي تولاها‏.‏
نفي الشيخ ماروي عن وجود الوصية في حوزة خالي زاهر‏,‏ وأن جدنا الهادي سلمه الوصية لتقتصر علي صغري الأبناء‏,‏ حفظ الرجل الوصية لها حتي تكبر‏.‏ رفضوا تزويج أمها عائشة لقاسم وهيدي تاجر المانيفاتورة بشارع الميدان‏,‏ تنجب الأبناء فيؤول الميراث إلي عائلة أخري غير عائلتهم‏.‏
فرضت التخمينات نفسها علي جلساتنا في القاعة التحتية‏,‏ نتابع زيارات الأطباء وعلماء الدين وشيوخ الطرق والدراويش‏.‏
كان أكثر إلحاح جدنا في طلب الحاج طه السبيلي حلاق الصحة علي ناصية شارع السيالة من ناحية ميدان أبوالعباس‏,‏ يثق في قدرته علي الشفاء بما يعجز عنه الأطباء‏.‏
تساءل خالي زاهر‏:‏
لماذا لايرثه الأبناء في حياته‏.‏
وقال‏:‏
يحصل كل واحد علي نصيبه‏,‏ أجدي من توقعات الشقاق بين الورثة إن وجدوا في الوصية مايرفض الاتفاق‏.‏
ثم وهو يهز إصبعه‏:‏
إذا لم يعدل أبونا في وصيته‏,‏ فإني أخشي نشوء عداوات لاتنتهي‏.‏
ثني إليه عمي مهران ملامح متسائلة‏:‏
ما العدل الذي تراه مناسبا؟
الشرع‏..‏ التقسيم حسب الشرع‏!‏
أشار عمي مهران إلي دفع جدي أولاده في تجارته‏,‏ همه أن تكون التجارة لأبنائه من الذكور‏,‏ من صلبه ودمه‏,‏ يبكون علي ماله‏,‏ يعنون به‏,‏ يرث تركته الذكور دون الإناث‏.‏
وشوح بيده‏:‏
العجوز حر في ماله‏..‏ يفعل به مايشاء‏.‏
أبطأ خالي زاهر في نطق الكلمات‏:‏
لماذا استن الحجر إذن؟‏!‏
‏.....‏
أظهر الجميع تلهفا بعد وفاة جدي علي معرفة الطريقة التي وزع بها الميراث‏.‏
قال عمي مهران إن خلافة الوارث لما يملكه موروثه من أموال وعقارات وأراض ومتعلقات شخصية‏,‏ لادخل فيها لإرادة الوارث‏,‏ ولا لإرادة الموروث‏,‏ إنما ثبت للوارث بحكم الشرع‏,‏ وتؤول بها ملكية النصيب الموروث‏,‏ بصرف النظر ما إذا وافق الوارث خلافة المرء في دنياه تختلف عن الخلافة في الشأن الصوفي‏,‏ خليفة الولي معروف في حياته‏,‏ ولايخلفه سواه‏,‏ هو شيخ الطريقة‏,‏ وراعيها‏,‏ وصاحب الكلمة النافذة‏.‏
خمن خالي زاهر أن جدي الهادي ربما اشترط أن يقتصر الميراث علي الذكور دون الإناث‏,‏ من تريد حقها فإنها تعقد علي ذكر من العائلة‏,‏ تتصل أوراقها بأغسان الشجرة‏.‏
قال‏:‏
التساوي بين الأبناء واجب شرعي‏.‏
أرجع رفض عمي مهران لميراث الإناث‏,‏ أنه سيجعل جزءا من المال يخرج من تركته‏.‏ لو أن جزءا من التركة ذهب إلي غريب‏,‏ فسينفرط هذا ماقدره عقد الأسرة‏,‏ عقد العائلة‏.‏
إذا رفض جدي الهادي توريث البنات‏,‏ هل يستثني عمتي عائشة؟
وأغمض عمي مهران عينيه متصعبا‏:,‏
من المستحيل أن نعرف مايخفيه أبونا‏!‏
تلاقت الدعوات في أن يرث الأبناء جدي في حياته‏,‏ يحصل كل واحد علي نصيبه‏,‏ أجدي من توقعات الشقاق بين الورثة إن وجدوا في الوصية مايرفض الاتفاق‏.‏
أقعد المرض جدي‏.‏ لم يعد يغادر حجرته‏,‏ حتي الطعام والوضوء‏,‏ ومايحتاج إليه‏,‏ كان نسوة البيت يوفرنه له‏,‏ فلايترك موضعه‏.‏ ثم انتقل بتأثيرات المرض أو نقله عمي مهران إلي السرير في غرفته بالطابق الأرضي‏,‏ كان قد اختارها لإقامته بعد أن أدركه الوهن‏.‏ لها شباك حديدي يطل علي مقام سيدي نصر الدين‏.‏
كان عمي يشاهد جدي الهادي يتجه بعينيه ناحية شباك الغرفة‏,‏ ويتكلم بما لم يتبينه جيدا‏,‏ إنما هي كلمات غير متصلة‏,‏ التقط منها‏:'‏ الوصية‏,‏ التركة‏,‏ الصندوق‏,‏ الورقة‏,‏ القلعة‏,‏ الأحفاد‏.‏
فسر عمي مارأي بأن صلة ما‏,‏ قائمة‏,‏ بين جدي الهادي وسيدي نصر الدين‏.‏
طالت الأيام‏.‏ بدت حياة جدي معلقة لم تشهد تحسنا‏,‏ ولاطرأ عليها ماينهي الانتظار‏,‏ شمعة تضاءلت ذؤابتها‏,‏ توشك أن تنطفيء‏,‏ دون هبة هواء‏.‏
لما أغلق جدي عينيه‏,‏ وفتحهما‏,‏ انفرجت شفتاه‏,‏ وارتعشتا‏,‏ حدسنا أنه يتهيأ للرحيل‏,‏ يوشك أن يمتص شهيقه الأخير‏,‏ ثم يسكن الجسد تماما‏.‏
اقتعد أبناؤه وحفدته الأرض‏,‏ لصف الجدران‏,‏ ينتظرون شهقة ماقبل الرحيل‏,‏ أو ماقد يسبقها من كلمات تضيف إلي الوصية‏,‏ تلطف من التأثيرات المتوقعة فيما لو فرضته الطبيعة الإنسانية تأثيراتها‏,‏ فينسي الابن أباه‏,‏ وينسي الحفيد جده‏.‏
قرأ المحامي الوصية‏.‏
لم يستقبل بحجة ضيق المكتب سوي القلة من الأعمام والأخوال‏,‏ تبعهم الكثير من الأبناء والحفدة‏,‏ تعطلت‏,‏ بتزاحمهم حركة المرور في شارع محرم بك والشوارع الجانبية‏,‏ إلي ميدان المحطة‏.‏
نصح جدي الهادي أن يكون أبناؤه وذريتهم متساوين‏,‏ فلا تفاقم الضغائن والأحقاد ما ظهر في حياة العائلة‏,‏ وثبتت ملامحه‏.‏
جعل لكل نصيب‏,‏ لم يحذف‏,‏ ولم يضف‏,‏ كلهم أبناؤه وحفدته‏,‏ للمرأة مثل حظ الذكر‏,‏ للصغير مثل الكبير‏,‏ مايعنيه أن التركة ينبغي أن تؤول إلي مستحقيها‏,‏ ومن يستحقونها لابد أن يدركوا الحلقة الأولي في السلسلة‏,‏ هم يرثون من بذل حياته‏,‏ وترك لهم ماادخره يعينهم علي أعباء الحياة‏.‏
هدد أبناءه وأحفاده إن أنكروا وصيته‏,‏ لايعملون بما جعله شرطا للوصية‏,‏ قال إن خروجهم عن الشرط‏,‏ سيتبعه اختفاء التركة من أيديهم‏,‏ لن تظل التركة في حوزة من ينسي الشرط‏.‏
قال المحامي للنظرات المتسائلة‏:‏
شرط الجد أن تذكروه دائما‏!‏
وفرد الأوراق ليراها الجميع‏:‏
هذه وصية جدكم‏,‏ لايحل لكم الميراث ما لم تعملوا بها‏.‏
ونقر بقلمه علي المكتب‏:‏
لن يحصل الورثة علي أنصبتهم من الوصية ما لم تنفذ كما أوصي الجد‏.‏
تبادلنا نظرات الدهشة لقول الرجل إن الجد الهادي جعل تذكر الأبناء والحفدة له شرطا كي يحصلوا علي إيراد الميراث‏,‏ من ينسي فإن محامي التركة يمنع نصيبه‏.‏
قال عمي مهران‏:‏
كيف ننسي جدنا ونحن نعيش في خيره؟
قال عمي عبدالسميع‏:‏
قد تتذكر الخير وتنسي مصدره‏!‏
قال خالي زاهر‏:‏
شرطه هذا يدفعنا إلي تذكره دوما‏!‏
قال وائل ابن خالي زاهر‏:‏
لو إننا نسيناه‏..‏ كيف يعرف؟
قال الأسطي طه السبيلي‏:‏
مات جدكم علي مكاشفات وكرامات‏,‏ وهو يستطيع الرؤية والفعل من داخل ضريحه‏.‏ روي الكثيرون أنهم التقوا الشيخ عبدالقادر الدجوي في شارع الميدان‏,‏ قال من خلال ابتسامته الهادئة‏:‏
جدكم يثق من وفائكم لوصيته‏!‏
شغلنا الأمر‏.‏ تمنينا لو أننا نسينا لنعيش حياتنا‏,‏ دون قلق أو خوف‏.‏ تبدلت أحوالنا‏,‏ نحرص أن نذكر اسم جدي الهادي في مناقشاتنا‏,‏ يتناثر اسمه علي ألسنتنا ونحن نركب البلانسات في عرض البحر‏,‏ عند جلوسنا علي الكورنيش الحجري‏,‏ في الموالد والجلوات وحلقات الذكر‏,‏ وأثناء تناول الطعام‏,‏ والفرجة علي التليفزيون‏,‏ وقبل أن نخلو لزوجاتنا‏.‏ تضمه الأسئلة والأجوبة‏,‏ والملاحظات‏,‏ واستعادة الماضي‏,‏ ومناقشة أوضاع زماننا‏,‏ وتدبر المستقبل‏.‏ تتملكنا الخشية من أن يبلغ جدي صمتنا عن ذكر اسمه‏,‏ يرفع مدده عن أبنائه وحفدته‏,‏ يواجهون مالايعرفون‏,‏ ويعجزون عن تصوره‏.‏
ربما تعمد أحدنا تناسي الاسم‏,‏ يختار اللحظة التي يجب أن تكون الكلمات مرادفة للاسم فيهمله‏,‏ يتلفت في اللحظة التالية حوله‏,‏ يخشي أذي الجد لأنه أهمل وصيته‏.‏
حين امتلأت نفوسنا بما نعجز عن تحمله‏,‏ دعا عمي مهران إلي لقاء يضم الجميع في بيت جدي‏.‏
تقاطر أعمامي وأخوالي وأبناؤهم علي بيت جدي‏.‏ ضاقت بهم القاعة‏,‏ جلسوا علي السلالم الخشبية‏,‏ المفضية إلي الطابق الأول‏,‏ استندوا علي الدرابزين المعدني‏,‏ الدائري‏.‏
يلي باب المدخل قاعة‏,‏ تتوسطها فسيقة ساكنة‏,‏ وعلي جانبيه ست حجرات متقابلة‏.‏ في الواجهة سلم يفضي إلي الطابق الأعلي‏,‏ إلي جانبه قاعة واسعة أزيح مابها من طسوت وأزيار وكراسي خشبية صغيرة‏.‏ في المدخل الأيمن حجرة صغيرة مغلقة‏,‏ كأنها ليست من البيت‏,‏ نهمل نثارات سوداء علي بابها‏,‏ ربما كانت دماء تبدل لونها بمضي السنين‏,‏ قيل إن جدنا الهادي كان يزج في الحجرة أبناءه‏,‏ ويعاقبهم علي الأفعال الخاطئة‏.‏
طالب عمي مهران أن يأخذ كل واحد مايجد فيه فائدة‏.‏ إذا أراد اثنان أو ثلاثة الشيء نفسه يلجأون إلي الأكبر سنا‏,‏ يقرر الأولي بالحصول عليها‏,‏ أو يوزعها بالتساوي‏.‏ وقال عمي مهران إن الوصية تجوز بكل المال‏,‏ أو بعضه‏,‏ لاتقتصر علي الثلث‏.‏ قال وائل ابن
خالي زاهر‏:‏ لماذا لانسقط هذا الشرط الغريب ونتقاسم التركة بالتراضي؟‏..‏ وقال عمي عبدالسميع‏:‏ هل نخالف وصية جدنا؟
قال عمي مهران‏:‏
ماقيمة الوصية إن لم تنفذ؟
قال خالي زاهر‏:‏
الوصية التي تخالف الشرع لاقيمة لها‏.‏
هذه أمواله‏,‏ هو حر فيها‏.‏
نحن أبناؤه‏,‏ من حقنا أن نرثه بما شرعه الله‏!‏ تعالت الأسئلة والأجوبة والآراء والملاحظات والنصائح والتوبيخات والاتهامات المتبادلة‏.‏
اختلطت الأصوات فغاب المعني المحدد‏.‏
ارتفع صوت خالي زاهر بما أسكت تلاغظ الأصوات‏:‏
من حق الجد أن نتذكره بعد رحيله‏:‏
وداخلت صوته نبرة متسائلة‏:‏
لكننا لن نتذكر إلا الصور التي خلفها في حياتنا؟
امتدت المناقشات‏,‏ طال الأخذ والرد‏:‏ هل يخشي الجد نسيان اسم الهادي‏,‏ أم نسيان أقواله وأفعاله؟
لو أن المعني في الاسم‏,‏ فلابد أن يستعيد الأحفاد في الأجيال المتعاقبة مايذكرهم باسم الهادي‏.‏ لكل عائلة لقب‏,‏ ولقب عائلتنا الهادي‏,‏ اسم الجد نفسه‏,‏ هو في الذاكرة بالضرورة‏.‏ أما طلب الجد تذكر أقواله وتصرفاته وماحلفه‏,‏ فإن النسيان ربما أفضل من التذكر‏.‏
رويت وقائع‏,‏ وجد فيها أعمامي وأخوالي ماينبغي إهماله‏,‏ رأوا أنها لاتعبر عن السيرة الحقيقية للجد الهادي‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.