تنفيذا لتوجيهات السيسي.. محافظ شمال سيناء: تقسيط إيجار الشقق على 30 سنة لأهالي رفح    الآن.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بعد آخر انخفاض    تقديم الساعة 60 دقيقة غدًا.. تعرف على مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024    وزيرة التضامن: المدارس المجتمعية تمثل فرصة ثانية لاستكمال التعليم    ما موعد انتهاء مبادرة سيارات المصريين بالخارج؟.. وزيرة الهجرة تجيب    ارتفاع عدد ضحايا قصف الاحتلال لمنزل عائلة الجمل شرق رفح إلى 5 شهداء    لبنان.. طيران إسرائيل الحربي يشن غارتين على بلدة مارون الرأس    واشنطن تطالب إسرائيل ب"إجابات" بشأن "المقابر الجماعية" في غزة    محافظ شمال سيناء: لا توطين لأي فلسطيني.. وإعادة 3 آلاف إلى غزة قريبا    بطولة الجونة للاسكواش.. تعرف على نتائج مباريات ربع النهائي    عاجل.. تصريحات كلوب بعد الهزيمة من إيفرتون ونهاية حلم البريميرليج    «زي النهارده».. وفاة الفنان سمير وحيد 25 إبريل 1997    محافظ الإسكندرية يهنئ السفيرة لينا بلان لتوليها مهام قنصل عام فرنسا بالمحافظة    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    مواجهة بين أحد الصيادين ومؤسس حملة "خليها تعفن" تكشف أسباب ارتفاع أسعار الأسماك    «زي النهارده».. بداية الحرب الأمريكية الإسبانية 25 إبريل 1898    مصير مجهول ينتظر "مؤتمر المصالحة الليبية" ..تحشيد عسكري روسي وسيف الإسلام مرشحا للقبائل !    مراقبون: فيديو الأسير "هرش بولين" ينقل الشارع الصهيوني لحالة الغليان    مظاهرات لطلاب الجامعات بأمريكا لوقف الحرب على غزة والشرطة تعتقل العشرات (فيديو)    ارتفاع الذهب اليوم الخميس.. تعرف على الأسعار بعد الزيادة    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    "سنحولها إلى الجهات الرقابية".. الزمالك يكشف مفاجأة في قضية بوطيب وتحركات لحل الأزمة    وزير الرياضة يتفقد استعدادات مصر لاستضافة بطولة الجودو الأفريقية    جدول ترتيب الدوري الإنجليزي بعد خسارة ليفربول وفوز مانشستر يونايتد    كاراجر: محمد صلاح ظهر ظلا لنفسه هذا الموسم    خبر في الجول – الأهلي يتقدم بشكوى ضد لاعب الاتحاد السكندري لاحتساب دوري 2003 لصالحه    بعد خسارة الأهلي ضد أويلرز الأوغندي.. موقف مجموعة النيل ببطولة ال«BAL»    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    الأرصاد تُحذر من حالة الطقس المتوقعة اليوم الخميس: درجات الحرارة تصل ل43    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    شراكة مصرية إماراتية لتوطين صناعة السيارات الكهربائية والتقليدية    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أخبار الفن|طلاق الفنان أحمد جمال من زوجته سارة قمر.. وشريف منير يروّج ل«السرب».. وهذه الصور الأولى من زفاف ابنة بدرية طلبة    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    في حفل تأبين أشرف عبدالغفور .. أشرف زكي: فقدنا فنانا رسم تاريخه بالذهب    اختيارات النقاد.. بعد سيطرة الكوميديا ما هى الأفلام الأنسب لموسم العيد؟    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    خال الفتاة ضحية انقلاب سيارة زفاف صديقتها: راحت تفرح رجعت على القبر    أحمد موسى: مصر قدمت تضحيات كبيرة من أجل إعادة أرض سيناء إلى الوطن    إجازات شهر مايو .. مفاجأة للطلاب والموظفين و11 يومًا مدفوعة الأجر    في الموجة الحارة.. هل تناول مشروب ساخن يبرد جسمك؟    طريقة عمل الكبسة السعودي باللحم..لذيذة وستبهر ضيوفك    حكم تصوير المنتج وإعلانه عبر مواقع التواصل قبل تملكه    أمين الفتوى: التاجر الصدوق مع الشهداء.. ومحتكر السلع خبيث    تجديد اعتماد كلية الدراسات الإسلامية والعربية ب«أزهر الاسكندرية»    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    خالد الجندي: الاستعاذة بالله تكون من شياطين الإنس والجن (فيديو)    متحدث «الصحة» : هؤلاء ممنوعون من الخروج من المنزل أثناء الموجة الحارة (فيديو)    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    تضامن الغربية: الكشف على 146 مريضا من غير القادرين بقرية بمركز بسيون    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الله الجبور يكتب من ذاكرة الزمن الفلسطينى: شجرة الجميز
نشر في شباب مصر يوم 12 - 12 - 2010


قصه قصيرة
ذاكرة الزمن الفلسطيني
للكاتب الأستاذ / عبد الله الجبور
إهداء
أهدي هذه القصة للزميل المهندس/ أبو وازن شبير
لدوره في تعرفي على بطل القصة ومتابعة مراحل إنجازها.
كما اهديها لأهل الشهيد/ محمود عيسى البطاط
شهيد الحرية في معتقل شطه.
واهديها أيضا إلى جميع قوى السلام و مؤسسات المجتمع المدني.
عبد الله الجبور
01/08/2004م
تقديم
رفيق السهرة رجل عادي... ليس قائداً سياسياً... ولا مقاتلاً ثورياً... عمل طيلة حياته مزارعاً... عشق الأرض والشجر... آمن بالغيب والقدر... أحب الناس كما أحب العشب والقمر.
لم يتركه الزمن لحاله... جرجره هنا وهناك... وضعوه تحت المجهر... راقبوا حركته وأفعاله... صادروا أحلامه.
رغم بلوغه السابعة والسبعين... امتلك إرادة أكبر من المعاناة... واحتفظ بابتسامة تعالت على المأساة.
شربنا الشاي معاً في منزله الريفي قبل أن تنقلنا عربة (كاروه) إلى شجرة الجميز المحببة إلى نفسه... جلسنا هناك على الأرض وكانت الشمس قد مالت نحو الغروب... أمامنا وعلى بعد حوالي كيلومتر واحد كانت تطل علينا إحدى المستوطنات بعيون وقحة... بدا لي أنه اعتاد الجلوس في هذا المكان كلما شعر بالحنين إلى بيته هناك... إلى ذكريات الصبا في الأرض المحتلة عام 1948م... يحاكيها وتحاكيه مع الهواء القادم من الشرق.
لفت انتباهي وجود قبر تحت شجرة الجميز... جلس بالقرب منه... قرأ الفاتحة ثم رفع يديه إلى السماء طالباً الرحمة و الغفران.
في ذلك المكان... يحلو السهر مع المشهد الخلاب للطبيعة... و الجو الصيفي الدافئ... أمضينا الليلة حتى الفجر بصحبة ذكرياته التي تدافعت من كل الاتجاهات... تنطق على لسانه مسيرة المعاناة الطويلة.
عبد الله الجبور
أقبل شهر يونيو 1967م حاملاً حرارة فصل الصيف، وقرع طبول الحرب... تحركات ميدانية متلاحقة... تصريحات متوعدة هنا وهناك... أختلط لدى الناس شعور القلق بالخوف والأمل... اشتم البعض رائحة النصر محمولة مع الرياح القادمة من الجنوب... واستطلع البعض بشائر العودة إلى ارض الوطن مرسومة على وجه القمر الصاعد من الشرق.
عشنا معاً في فلسطين قرونا طويلة... شعب واحد... أفراح وأعياد مشتركة... وما أن بدأت أمواج الغرباء تتدفق من وراء البحر... تقطعت الأوصال... تفرق الأقارب والجيران... إلى أين يشدوا الرحال و الموت يتخطفهم في السهول والجبال.
فرض الإخوة علينا الانتظار... حلفوا لنا بأغلظ الأيمان... وشرف السلطان... بالحلال والحرام... أننا في أمان ... ولن يطيب لهم حال... ولن يهدأ لهم بال قبل أن ( يعود العجل إلى بطن أمه )... وكل ما هو مطلوب منا... شوية صبر.
مشاهد متكدسة في غرف الذاكرة... عام اللجوء... مقهى القرية... المذياع الكبير الحجم... يعمل على بطارية سائلة... كل ليلة نداوم هناك... نجلس على الأرض... نسمع أخبار القاهرة وعمان... الأناشيد الوطنية و القومية... نطفو على سطح الأوهام... نحلم بالفرج القريب... طوفان يعم المنطقة... يعيد للبحر نفاياته... نهلل و نكبر لسفن العودة وهي ترسو على قمم جبال الجليل.
يجلس الشاعر الشعبي على منصة مرتفعه في صدارة المقهى... متربعا على أريكة من الخشب... يرشف كوب الشاي ببطء... يبرم بإصبعية شاربين كثيفين أكلا معظم فمه-وابتلع رأسه طربوش تركي تدلت منة شرشوبة متأرجحة... يحضن ربابة مصنوعة من جلد الحمير-وأوتار من سبابه الخيل... يحكي بصوت جهوري ملحمة عنترة بن شداد... ينشد شعرا... يعزف لحنا... اهتزت له أوتار قلوبنا... انتفخت أوداجنا... واجهنا التحدي بحرق المزيد من لفافات التبغ البلدي... كل واحد منا يتخيل نفسه فارساً... وكثيراً ما حدثت مشادات بين متعصب لهذا الفارس أو ذاك.
بالقرب مني يجلس أستاذ مدرسه... الجميع في واد وهو في واد أخر... عيناه شاردتان نحو الأفق... يقضي جزء من المساء في القهوة بعد قضاء نهاره في استقبال الأطفال تحت سقف عٌرش من الحطب و سعف النخيل... يعلمهم اللغة و الدين و العلوم والرياضيات... وجدت نفسي انتقل إلى جانبه قاطعا عليه تأملاته.
أستاذي العزيز... ما لنا و تلك القصص القديمة... نعيش كارثة لا سابق لها.
الكارثة التي ألمّت بنا ليست نهاية التاريخ.
اشعر بصعوبة في استيعاب ما تقول... أنني معجب بهدوئك وتفاؤلك.
انشدا الناس لتلك القصص الشعبية مؤشر لخيارات قادمة.
مخيمات لجوء مبعثره يحلمون بفارس يطل عليهم من خلف الأفق !
الفارس وحده لا يحل المشكلة.
حملنا تقيل ومقدرتنا ضعيفة وعزوتنا مُتعَبة.
حركه الواقع كفيله بتغير كل ما هو قائم.
الأقوياء وحدهم من يوجهون حركة الواقع.
عادت طبول الحرب تقرع من جديد...سحقا للمذياع اللعين... لا يريح أعصابنا... أخباره متضاربة... كأنه بتأمر علينا... ننتظر شيئاً ما كل إشراقه شمس...شيء كشفت عنه شمس الخامس من حزيران 1967م... ألقت بضوئها على واقع كارثي جديد.
تلاشت رائحة النصر، وتبددت بشائر العودة... وخابت قراءة المنجمين... الصدمة أذهلت الناس... أدخلت الجميع في منطق اللامعقول... هائمين في كل اتجاه... فصل جديد من المعاناة... الكل يبحث دون جدوى عن مكان أمن يلجأ إليه... قرأنا سورة الفيل والطير الأبابيل دون تركيز... عشنا يوم الحشر قبل الممات... لا أحد ينفع أحد... لا صديق ولا رفيق... لا أخوة و لا أخوات.
وسط الغبار والجو العابق برائحة البارود وقع نظري على رجل أشعث أغبر يجرجر ساقين لا تقويان على حمله...تتدلى من على كتفة قربة ماء.
أستاذي ... أراك متعبا وكأنك تبحث عن شيء ما.
أبحت عن طفل قد يحتاج إلى شربه ماء.
هذا المشهد ليس جديد علينا... سبق وان تكرر مرتين.
احرص على البقاء... المشوار طويل.
عادت بي الذاكرة إلي ما قبل عدة سنوات... حرب 1956م... أبرياء موتى بلا قبور... كان القتل مبرمجاً وسهلاً... بلا حسيب ولا رقيب... نبات التين الشوكي الوحيد الذي احتضنني وأعمى عني عيون الذئاب المنفلتة.
انعدمت الخيارات... بات الحرص على البقاء هو الأصوب... قررت مغادرة قطاع غزة مؤقتا إلى الضفة الغربية.
طفلتي الوحيدة... برعم قد يسقط قبل أن يتفتح... أحرقت والدتي البخور... قرأت التعويذة... ابتهلت إلى الله بألا يحرمها مني...لم يعد لها ذخر سوايا بعد أن أكلت سنوات اللجوء زهرة عمرها... مشهد لم تقوى زوجتي على استيعابه... تيبست حياتها مبكرا... كل معالمها حروب ولجوء... دماء و فراق... لم تعش حياة الطفولة المدللة ولا الصبا السعيدة... تكسرت الابتسامة على شواطئ شفتيها... اكتفى والدي العجوز بجملة واحدة... نحن في انتظارك.
تزودنا بما نحتاجه من الخبز و الماء... كان عددنا ستة عشر شاباً... حملنا بعض الأسلحة الخفيفة... لعلها تحمينا من شر مفاجئة غير محسوبة.
بزغ ضوء الفجر... اقتربنا من مدينة (بئر السبع)... تمنيت لو كان بالإمكان لعرجت على بيتنا القريب من هنا... أسأله عن حاله وأشكو له حالي... أسأله عن فرن الخبز وحظيرة الدجاج... عن الناي والمحراث... أعانق ذكريات الصبا... أشكو لها الابتسامة المفقودة و المستقبل الضائع.
فوجئنا بثلاث عربات عسكرية... انهمر علينا الرصاص كالمطر... طلبوا من خلال مكبر الصوت تسليم أنفسنا... تبادلنا معهم إطلاق الرصاص... حاولنا الإفلات... كان الحصار محكماً... ليس لدينا خبرة عسكرية... المعركة من جانب واحد... استشهد منا خمسة رفاق... جميعهم مزارعين... طموحاتهم بسيطة... بساطة أبناء الريف... كانوا يحلمون بحياة أسرية آمنة... لم يمنحوهم الفرصة لتحقيق أحلامهم... تركوا جثثهم في العراء.
وضعوا القيود في أيدينا... القوا بنا على وجوهنا داخل إحدى العربات... الضرب متواصل بأكعاب البنادق طيلة الطريق إلى مركز أمن ( بئر السبع ).
ضابط التحقيق القادم من وراء البحر يلوم قائد الدورية.
لو قتلتهم جميعاً لأرحتنا منهم.
اعتقد انه يمكن الاستفادة منهم.
خمسة وعشرون يوماً مع التحقيق... الضرب بالعصي وكابلات الكهرباء... التهمة أننا عصابة من القتلة... القرار سهل... التوقيف حتى وقت غير معلوم... السجن في معتقل ( تلموند ) قرب حيفا.
حرب 1967م فتحت فصلا جديدا للمعاناة... ابتلع الاحتلال غزة و الضفة معا... الذئاب في كل حارة... العدسات الخفية في كل زاوية... زوار الفجر يدخلون البيوت من غير أبوابها... ضاقت بي الأرض... عسى أن يكون النوم في مكان أخر خارج البيت هو القشة التي تنقذني من الغرق.
هلّت ليلة عيد الميلاد... المذياع ينقل الاحتفالات... السعداء وحدهم يتبادلون الرسائل والتهاني والقبلات... انقضى عام 1967م وحل عام جديد... اقبع في المخبأ وحيدا... اقلب الجمرات في موقد الفحم وأتسامر مع الذكريات... الجو ماطر والليل بارد مظلم... سعيد بسماع زخات المطر وصوت الرعد وصفير الرياح... لا فرق عندي بين عام مضى وعام قادم... هناك من يصلي ويغني للمحبة والسلام... وهنا من يتعذب وراء القضبان... وطفل حزين يسأل دون جدوى عن أب لن يراه... وامرأة مفجعة تبحث عن زوج أي قبر احتواه... ورجل هرم يستنشق رائحة قميص ملطخ بدم ابن ليس له سواه... وامرأة عجوز اختل وعيها تزغرد للأحبة وتسأل أين الملتقى... مزيج من الأحاسيس تتزاحم وتتصادم... لم يقطعها سوى نباح كلاب المزرعة... تحذرني من الغرباء القادمين... زوار الفجر... المكان محاصر ولا إمكانية للإفلات.
ألقيت النظرة الأخيرة على موقد الفحم... اعتذرت للذكريات والأحاسيس التي رافقتني طيلة السهرة... تمنيت عليها حمل قبلاتي للأهل... اقتادوني إلى مقر المخابرات موثوق اليدين.
ما اسمك ... ؟
إبراهيم أبو طير
كاذب... أنت إبراهيم أبو النصر
أنا لست من تبحثون عنه
استدعى ضابط التحقيق أحد مساعديه... أمر بإدخال رجل مقنع... واجهني باسمي الحقيقي واسم والدي ووالدتي... عرفته من صوته.
تلقيت صفعة قوية... أمر بإلقائي في الزنزانة... شهر ونصف مع برنامج التعذيب المنتظم... أمامي خيارين... الموت تحت وطأة التعذيب أو الاعتراف بالحقيقة... موتي ليس له قيمة... بقائي حياً يعني نصف الانتصار.
نقلوني معصوب العينين مقيد اليدين إلى سجن ( المجدل ) لاستكمال فترة الحكم السابق... لازال أمامي سبع سنوات عجاف شداد... شداد على الوالدين... أدركتهما الشيخوخة وأنا العصا التي يتوكأن عليها... تعودنا معا تناول طعام الإفطار وشرب قهوة الصباح...الوالد يمازح زوجتي ويلاطف ابنتي... ينادي على أمي بالعجوز ويصر على جلوسها بجانبه.
عجاف على ابنتي... تسأل عني... تنتظرني في غيابي... سيطول انتظارها... أخشى عليها من فقدان البسمة وذبول الطلعة.
اذكر كيف جرت محاكمتي مع رفاقي عام 1956م في معتقل ( تلموند )... واجهونا بما كنا نتوقعه:
انتم عصابة من القتلة... دخلتم البلاد دون تصريح... هدفكم قتل الإسرائيليين.
لسنا عصابة من القتلة... نحن مجموعة مسالمة... هدفنا المرور إلى الضفة الغربية.
لماذا غادرتم قطاع غزة...؟
هرباً من مذابح الجيش الإسرائيلي.
كنتم تحملون هذه الأسلحة... أطلقتم النار على الجنود الإسرائيليين.
دفعاً عن النفس.
اختارت لنا المحكمة محامي إسرائيلي... كان القرار جاهزا... السجن تسع سنوات.
هي عدالة القادم من وراء البحر... سخر من حركة التاريخ... احتقر منطق الجغرافيا... استهان برياح الخماسين.
نقلونا إلى سجن ( شطة ) غرب ( بيسان )... موطن أسراب البعوض... الأرض تغلي من لهيب الشمس... حوالي ثلاثمائة معتقل من ( قطاع غزة ) ومن (الضفة الغربية ) و ( فلسطيني الداخل ) بالإضافة إلى اثنين من اليهود.
الإعمال الشاقة برنامج يومي... تكسير الحجارة في المحاجر وتحميلها على العربات...مشاهد مستوحاة من عصر الرق.
انضم إلى أسرة السجن ضيف جديد... شاب وسيم طويل القامة مصري الجنسية... انفتحت له قلوبنا دون مقدمات... جمعنا معه سقف واحد وحلم واحد... جلست بجانبه... تكلم بصوت هادئ:
عرفتني اللعينة... جارتي في مصر... علبة السجائر هي السبب... لا أعرف هل هو الحظ التعس أم سوء التصرف.
دخلت إسرائيل بجواز سفر فرنسي... جرني القدر لشراء علبة سجائر من متجر في أحد شوارع تل أبيب... فاجأتني الفتاه العاملة في المتجر.
آوه... مستر احمد عثمان... الحمد لله على السلامة... وصلت إزاى !!!؟ وأيه اللي جابك هنا !!!؟
من أحمد عثمان... ؟ أنا فرنسي.
آوه حبيبي... أنا متأكدة انك احمد عثمان بشحمه ولحمه... جارنا في مصر... يا سلام ما أحلى مصر... أتمنى أن ارجع هناك.
اتصلت اللعينة فوراً بالشرطة... كنت متماسكاً وهادئاً... أحاطوا بي... سألوني عن هويتي.
أنا فرنسي و لا اعرف ما تقول هذه الفتاة... يبدو أنها مضطربة نفسياً... هذا جواز سفري.
اقترحت اللعينة استدعاء أخيها من المنزل... طلبوا منه النظر إلىّ بدقة و التأكد إذا ما كان قد سبق له مشاهدتي... ظهرت علية علامات الدهشة وصاح
آوه... أحمد عثمان.. !! جارنا في مصر.
تم اعتقالي طرف جهاز الشاباك ... اعترفت بالحقيقة.
بين جدران المعتقل تتساوى الحياة مع الموت... حسابات المخاطرة تبدو هينة... لاحت فكرة الهرب من المعتقل إلى الضفة الغربية... اقتنع بها احمد عثمان وأبدى استعداده للقيام بالدور المطلوب... اقنع المسئول عن الباب الرئيسي ( أحد المعتقلين الذين شارفت فترة اعتقالهم على الانتهاء ) أن يبقيه دون إغلاق بعد إخراج القمامة في المساء... القمامة من مخلفات نبات البوص المستخدم في صناعة الحصر.
خيمت ظلمة الليل... الباب الرئيسي غير مغلق... اقتحمت مجموعتي غرفة الإدارة... السرعة و المفاجأة صدمت المتواجدين بالمكتب... انقلبت الطاولة و تبعثر ما عليها من أسلحة... امسكنا بها وأطلقنا عليهم الرصاص.
مجموعة أخرى اندفعت نحو مخزن الأسلحة وأخرى قامت بقطع سلك الهاتف... أطلقنا سراح اليهوديين بدوافع إنسانية ... لم نتوقع منهما أن يخرجا بسرعة اتجاه المستوطنات القريبة لطلب النجدة... كان للجندي الجالس في برج المراقبة على الباب الرئيسي دوراً كبيراً في إعاقتنا... قتل عدداً منا قبل أن نتمكن منه.
هرع المستوطنون... اشتبكوا معنا... تمكنا من صدهم ... استخدم البعض السلالم التي عثرنا عليها في المخزن للقفز من فوق سور السجن... اندفعنا في مجموعات غير منتظمة تجاه الحدود القريبة منا... وصلت القوات النظامية بعد حوالي ساعة واشتبكت مع بعض المجموعات... اضطر البعض للاختباء وسط مزارع الذرة القريبة... استشهد البعض و ألقى القبض على البعض الاخر... نجح ستة وستون معتقلاً من تجاوز الحدود... لم يقْوَ أحمد عثمان على مواصلة السير بسبب جرحه... تم الإمساك به وإعادته للمعتقل.
العلامات الإشارية للحدود مجرد أكوام حجارة في كل مسافة معينة... تجاوزناها تجاه مدينة ( جنين )... خرج الأهالي لاستقبالنا في أول قرية... هنئونا بالسلامة... قدموا لنا الطعام... ابلغوا الشرطة الأردنية مع بزوغ الفجر.
مدينة المجدل عزيزة على قلبي... اذكرها مركزا لصناعة المنسوجات قبل عام 48... يميزها ألان هذا المعتقل... تحوم فوقه أسراب الغربان... تفوح منة رائحة الموت... أشكال التعذيب لا أول لها ولا أخر... بعضها قديم و بعضها حديث... المصباح الكهربائي المسلط على رأسي حرمني من النوم و أحلام اليقظة.
كنت الخيار لكل من يرغب في اختبار رجولته... لا رسائل ولا صليب احمر... أتخيل ابنتي أمامي... أتلمسها واقبلها... أحاكي النسيم.
أمانة عليك قبل حبيبتي من الوجنتين
و بالحنية لاعب شعرها و الشفتين
أي شيء جنى ذلك المقنع... تطوع بالكشف عن حقيقتي...!! قتله أقاربه... غسلوا عاره بدمه... كان ضحية طبيعية لوضع غير طبيعي.
أربعة أشهر في سجن ( المجدل ) نقلوني بعدها إلى سجن ( كفاريونا ) شمال شرق حيفا... عرضوا على مغادرة السجن إلى الأردن... رفضت العرض وفضلت البقاء في السجن على الوطن البديل... وطن بلا معنى.
كثيرا ما حلقت بخيالي في سماء المحيط العربي... هروبي من سجن شطه قبل عشر سنوات أزاح عن عيني غشاوة الأوهام وألقى على وجهي لعنه الحقيقة.
بمجرد أن وقع نظري على الشرطة الأردنية و العقال و الكوفية العربية غمرتني فرحة عارمة... ملعونة تلك الحواجز المقدسة التي فرقت بيننا... لم أتمالك نفسي وأنا اغني ( صُبوا القهوة وزيدوها هيل... صبوها للنشامى عالظهور الخيل)... انتهى المشوار الصعب... أصبحنا في أحضان أخوتنا العرب... إقامتنا بالضرورة محجوزة في أحد الفنادق... أيام و نعود بعدها للأهل معززين مكرمين... سأحدثهم بكل فخر عن كرم الضيافة و الحفاوة البالغة.
قامت الشرطة الأردنية في البداية باستلام ما لدينا من أسلحة... اقتادونا بعدها إلى سجن مدينة ( جنين )... اجروا عملية تحقيق مع كل فرد منا على حده.
شعرت بأنني تسرعت في التفاؤل... اخبرونا باحتمال إعادتنا إلى إسرائيل التزاماً باتفاقية ثنائية بين الحكومتين تشمل إعادة الهاربين... ليس أمامنا خيار سوى الانتظار... غابت عن ذاكرتي أغنية ( صبوا القهوة... ) واستعصت علىَّ ملامحها.
اقتادونا في اليوم التالي إلى سجن ( نابلس )... عبر المساجين عن سعادتهم بقدومنا بعدما عرفوا قصتنا... أبلغوها لكل زائر من أقربائهم... انتشر بين الأهالي خبر احتمال إعادتنا إلى إسرائيل... الأصوات الاحتجاجية عرقلت ما كان يدبر في ليل.
من الصعب التميز ما بين المعتقلين ... صفوه من الشباب المثقفة... أهل نسب و حسب.
يا أخا العرب .. لا اعتقد أن مكانكم هنا ... ماذا يجري!!!
رياح الهزيمة.
أبحت عن إجابة... لا اعتقد أنها قدرا.
انه الخلل ... عاش معنا وتعايشنا معه... أنجبنا منه خلفه مشوهه... نصبت نفسها أولياء علينا ... ارتبطت مع أولاد سايكس وبنات بيكو في شراكه مشبوهة.
خُيل إلي أنني مازلت في سجن شطه ... وما المشاهد السابقة إلا مجرد أضغاث أحلام... نفس الأسلاك الشائكة ... نفس إيقاع أقدام العسكر... نفس المعتقلين... شيء واحد مختلف ... قطعه قماش ترفرف في الهواء يسمونها علماً.
لم تفارقني الهواجس... وضعوا القيود في أيدينا... كل اثنان معا في قيد واحد.
اقتادونا إلى عمان... حجزوا الأفراد الحاملين للجنسية الأردنية... صدر قرار بإرسال الغزازوة إلي سجن الجفر الصحراوي... لم يكن بوسعي إلا أن ارفع نظري بصمت إلى السماء... أعوذ بالله من لعنة الجغرافيا والشيطان الرجيم.
أربع عربات (لاند روفر) جاهزة بمسؤولية ضابط أردني من رجال البادية... كانت العربات تتوقف كل فترة للراحة وخفض حرارة المحركات... الضابط لا يعرف القراءة... حصل على الرتبة العسكرية نتيجة خبرته الطويلة في اقتفاء الأثر... كان شهماً لدية مخزوناً من النخوة... استفسر عن جريمتنا.
ايش بلاكو ؟!
هربنا من المعتقل الإسرائيلي... قتلنا عدداً من حراس السجن.
طلب من احد السائقين قراءة الملفات... كان يهز برأسه.
ودهم يودوكوا على ( الجفر ) !! و الله مانتوا من رجال الجفر... انتو ترفعوا الراس... و الله غير اكسر الأوامر... انتو تروحوا لمدينة فيها دكاترة.
أمر بتغيير اتجاه سير العربات إلى ( معان )... وصلنا قبل غروب الشمس بقليل ونزلنا ضيوفا على السجن.
أربعة أشهر...لا فرج يلوح في الأفق... أعلنا الإضراب عن الطعام... ازدادت حالتنا الصحية سوءا... حضر الضابط قائد المنطقة بعد أسبوع... طلب منا إنهاء الإضراب مقابل وعد بمقابلة جلالة الملك وإيجاد حل سريع للمشكلة.
عاد بعد ثلاثة أيام حاملاً مكرمة جلالة الملك بالموافقة على إعادتنا إلى قطاع غزة.
نقلونا إلى مدينة ( العقبة ) ضيوفاً على مخفر الشرطة... تم تجهيز ثلاثة قوارب انطلقت بنا بعد غروب الشمس باتجاه ساحل سيناء المصرية.
تجربة مرة خلصتني من أوهام كانت تبدو لي مقدسة... كان حالي كقطعة خشب طاقية على سطح مستنقع... تجهل الكثير عما في العمق... تجربة جعلتني أفضل البقاء في سجن ( كفاريونا ) على الوطن البديل.
كرروا المحاولة أكثر من مرة دون جدوى... نقلوني بعدها إلى سجن( بئر السبع )... كنت أفاجأ بزيارة مجموعات من الشباب والشابات الصهاينة... يريدون التفرج على من استطاع الهرب من سجن ( شطة )... كأنهم يتفرجون على أحد الوحوش في حديقة الحيوان... لم يكن بمقدرتي إلا أن أتحمل ألفاظهم البذيئة ونظراتهم العنصرية.
مازلت اذكر أحد رجال الدين اليهود... ذا الملامح الشرقية... قابلته في باحة معتقل ( تلموند )... بادرته بالتحية:
أنا فلسطيني مسلم من ذرية سيدنا إبراهيم... وأنت يهودي من ذرية سيدنا إبراهيم... أيهما اقرب إليك ...؟ أنا أم مدير السجن اليهودي البولندي؟
ابتسم وقال... أنت.
لماذا... ؟
انه من يهود الخزر وليس من ذرية إبراهيم
لم أتوقع تلك الإجابة... لا زالت هناك شمعة مضيئة في تلك التركيبة الاجتماعية.
انقضت السنوات السبع ... مرحله جديدة من حياتي تنتظرني لا أدرك معالمها... سأجد فرصه كي اجري وراء حلم لم يفارقني... جميع الاحتمالات واردة... قد لا تتم عملية الإفراج... قد يجري ترحيلي بالقوة إلى الحدود الأردنية.
اعرف أن لنا أخوه وجيران خلف السد... من الصعب عليّ معاتبتهم... عتبي عليك يا بحر... عشره طيلة الحياة... كثيرا ما أحببناك ضيف الشرف في أعيادنا وأساطيرنا... دمت مصدر إلهامنا وخيالنا... نستمتع يوميا بتابعة عروستنا الذهبية وقت الغروب تزفها حوريات الشفق الأرجواني حتى ترتمي بين أحضانك... عتبي عليك يا بحر... فسحت لهم الطريق وسهلت لهم المرور... داسوا بأحذيتهم على رمال الشاطئ... أكلوا من التمرة المحرم... اعتقدوا أنهم فوق الغضب و توهموا أن يشفع لهم النسب.
انطلقت بنا القوارب تشق عباب البحر... بلا سارية ولا علم... اقل حجما من قوارب طارق بن زياد... وجهتها شاطئ سيناء والعودة بسرعة كي لا تقع في المحظور.
لم يفلح البحر في تخفيف شعوري بالقهر... أتكلم لغة الضاد وقد عز على القوم توفير حائط استند إليها.
ساعات مثقلة بكل شي عدا الفرحة... خيمت علينا ظلمت الليل ومشاعر الانتماء إلي امة مهزومة.
لا بد من الجلوس على الشاطئ الهادي حتى بزوغ الفجر... لا احد في انتظارنا... ربما لسنا بتلك الأهمية.
اتجهنا عبر الوادي ناحية الغرب... الجبال شاهقة و السماء صافية... رؤية البشر من الأشياء النادرة.
خرج علينا كالسهم رجل بادية فوق بعير هجين... كأن الأرض انشقت عنة... أدركنا من خلف الجبل.
يا ولد ... انتو الربع اللي جو من العقبة ... ؟
إيه والله
حياكم الله , وين وجهتكم ؟
اقرب موقع للدولة
هيا ... تبعوني
أشرفنا على موقع عسكري تابع لحرس الحدود... عدة خيمات وبضعة جمال بارخة... استقبلونا بحرارة أخوية... غسلنا وجوهنا... قدموا لنا مشروب الحلبة.
يا ميت أهلا وسهلاً ... الحمد لله على السلامة ... انتو شرفتونا... دلوقت حنتصل بالاسلكي ( جهاز يدوي قديم )
كل شيء يشير إلى بساطة الحال وضعف الإمكانيات... يتعاقب الليل و النهار بلا جديد... نهار حار يعقبه ليل لا يعكر هدوئه سوى عواء الحيوانات المفترسة... من على رمال هذه الصحراء كثيرا ما تهب علينا عواصف حاملة معها كل مالا نتوقع.
اعدوا وحبة العشاء... عجينه من الدقيق على شكل قرص... ألقوها وسط جمر الحطب... وما أن صارت خبزا حصل كل منا على قطعة ... تنبهت لدي حاسة الشم واستقبلت رائحة خبز الصاج القادمة من بعيد ... من طرف الأهل ... المشهد ذاته ... زوجتي تقلب الفطيرة وأمي تمدها بالحطب ونحن بالقرب منهما ننتظر الخبز الساخن ... و( الحال من بعضه ).
فتح الخط مع جهاز اللاسلكي ... طلبوا الإشارة... رد عليهم مسئول الموقع:
جمل جمل جمل
وصلنا مساجين عرب ... هربوا من إسرائيل ... الجماعة مرهقين.
احتفظوا بهم لغاية ما نصلكم بكرة .
وصلت الموقع أربع عربات جيب ظهر اليوم التالي... برفقتهم طبيب وميكانيكي... ومعهم كمية من الدقيق والحلبة والسكر.
استلموا الأمانة... تحركت بنا القافلة قبل غروب الشمس... توقفنا مع بزوغ الفجر لأخذ قسط من الراحة.
حلق بي الخيال أتأمل الجبال الشاهقة... هناك موسى كلم ربه... بودي لو اصعد الجبل... وارفع الصوت... لا أريد مائدة تنزل من السماء و لا عيون ماء... لا املك عصى أتوكأ عليها... لا اطمع في شق البحر و لا هلاك الظالمين... اطمع في الاستجابة لدعاء المستضعفين.
واصلت القافلة تقطع المسالك الوعرة... اهتزت طبلة أذني بصوت أذان الظهر... معسكرا لشركة بترول ألمانية قريبة من مدينة السويس... استقبلونا بلطف... قدموا لنا الطعام... طبق لكل فرد عليه كمية من الأرز وقطعة لحم وسلاطة مع ثمرة برتقال ... شربنا الشاي... وزعوا علينا بعض الخبز وعلب السردين والحلاوة الطحينية.
واصلنا التحرك بمحاذاة شرق القناة السويس... أشرفنا على ضواحي المدينة... نزلنا في مقر الضيافة... معسكر مهجور... فترة الإقامة مرهونة بحضور الطبيب المختص بالأمراض المعدية.
أمضينا الليلة الأولى على اَََلأسِرَّة الحديدية... خلال وقت قصير كنا في سبات عميق... في الصباح كان جلدي مغطى بالبقع الحمراء... أعلنا الحرب على البق... جمعنا الأسرة وألقيناها في الحطب المشتعل.
حكايتنا قديمه مع البق... عمرها عشره أعوام... عام النكبة... تحالف البق مع قوى الشر... ظهر فجأة في مخيمات اللجوء وسبب لنا الكثير من الأذى... هب الجمع لمكافحته والقضاء عليه.
جاء في اليوم التالي من يخبرنا أن حظنا وِحِشْ... الطبيب المختص في إجازة... لابد من الانتظار حوالي أسبوع !!!
نقلونا إلى مدينة (العريش)... قضينا الليلة حتى الصباح... دخلنا قطاع غزة ظهرا بعد عامين في المعتقلات الإسرائيلية.
سلكت السيارة طريقا ترابيا... نبات التين ألشوكي على الجانبيين... أطفال حفاة يلعبون بكرة من الخيش... فتاة تحمل جرة ماء على رأسها... امرأة عجوز تجر قدميها خلف حمار محمل بالحطب.
صراع الحياة مع الواقع التعس يغذيه حلم متجدد... لا تملك هذه العجوز سوى صور جميله في الذاكرة لوطن مغتصب... وذكريات حب تركتها هناك وديعة في أحشاء التربة... و أخاديد حفرها الزمن على قدميها باتت موطنا لعذابات واقع لا يرحم عزيز قوم... ربما لم يكتب لها القدر أن تعيش فجرا جديد.
أتابع مشهدا أنا جزء منه... مخيلتي مشدودة ما بين مستقبل لا معالم له وواقع ثقيل غير قادر على حملة... اقلب الأوراق المبعثرة... أرتبها تم أعيد ترتيبها... اكتشف في كل محاوله أنها غير متسلسلة.
تفاجأ الأهل بعد فقدان الأمل... وقعت زوجتي مغشيا عليها... ألقت ابنتي بنفسيها بين ذراعي... دخلت عامها الرابع... بدأت خطواتها الأولى تتلمس حاضنة أمنة... تنكرت لها أعشاب البر كما لم تجد قبولا لدي طحالب البحر.
انطلقت الزغاريد... هرع الأحبة من كل مكان... أقام والدي الموائد للأقارب والأصدقاء ابتهاجا بعودتي سالما... على مدى ثلاث ليالٍ أقام الشباب والشابات رقصة الدبكة الشعبية... تراث شعبي هو كل ما تبقى لنا... عادت غزه لحضن الإدارة المصرية ... ارتسمت الابتسامة على وجوه الأطفال.
أعيش ألان واقعا مختلفا... الاحتلال جاثما على صدورنا... مازلتُ قابعا خلف قضبان سجن ( بئر السبع ) رغم انتهاء فترة الحكم... عثروا الأهل على محام اعتمد على صديقة له تعمل سكرتيرة في رئاسة الدولة... تمكن من الحصول على قرار الإفراج.
جاء من يستدعيني للمقابلة في المكتب ... استبشرت خيراً... وجدت بانتظاري أحد ضباط المخابرات.
لأول مره اجلس وجها لوجه أمام المغتصب القادم من وراء البحر... تقلبت بداخلي مواجع و عذابات ربع قرن.
أحببت أن أبارك لك... سيتم الإفراج عنك ويمكنك الاستفادة من تجربتك... من الأفضل أن تعلموا أطفالكم الحب و السلام وليس الحقد والعدوان.
لو سألني طفلي ... أين بيتي وأرضى ؟ بماذا أجيبه ؟
أنا تركت بيتي في العراق وبدأت هنا حياة جديدة
حياتك الجديدة قامت على حسابي
يمكنك أن تبدأ حياة جديدة في أي مكان في العالم
وطني بات محرما علىّ !
هذه أرضنا... ارض الميعاد... هكذا قال الرب.
هل حدد لكم الرب مساحة ارض الميعاد... طولها وعرضها وحدودها ؟؟
كل شبر نستطيع الوصول إليه.
ألم يوصيكم الرب شيئا بسكان هذه الأرض... ؟
نحن شعب الله المختار
نحن أيضا من ذرية إبراهيم
مجرد وجودكم كان خطأ من الرب.
في الماضي عاشت القبائل اليهودية مع القبائل الأخرى في الجزيرة العربية... بيئة واحدة... ارتبطوا بعلاقات اجتماعية واقتصادية... الأسماء متشابهة... الم تكن تلك القبائل عربية تعتنق الديانة اليهودية؟؟
الديانة اليهودية بالنسبة لنا دين وقومية
نجحتم في تحويل الأسطورة إلى واقع على الأرض.
نجاح المشروع يعنى حقيقة الأسطورة... انتم كثيرا ما تحلمون.. هذا شيء مقلق... افتح عقلك... تنتظرك حياة حلوة.
مقابل ماذا... ؟
أن تثق بنا وتتعاون معنا.
يا سيادة الضابط المحترم... أنا مجرد رجل مزارع... طموحي بسيط و محدود... العودة إلى أرضي وبيتي.
أنت رجل غبي... لم تتعلم شيا مفيدا من تجربتك... ستشعر يوما ما بالندم... انصرف من أمامي.
غمرني حزن عميق... ثقافة غيبية تمكنت من جرف الكثيرين... قلبت لهم الحقيقة دون خجل... قدمت الشرير قديسا والجلاد ضحية...ماذا لو نعيش جميعا معا بأمان كما في الماضي... آلم يسمعوا بالمثل الصيني القائل ( مجنونة هي الجزيرة التي تعادي المحيط ) !!! ... إذا استمر الحال على هذا المنوال ستنهار السدود ويعم الطوفان وتعود الطبيعة من جديد إلى سيرتها الأولى.
اقبل عيد الفطر حاملا البشرى التي طالما انتظرتها... ابلغني الحارس بان اجمع حوائجي... كنت ممزقا بين فراقي لرفاق السجن وبين لقائي بالأهل... عشرة طويلة... من يدرى قد أعود إليهم يوما ما.
أخذت أجرجر قدماي حتى مكتب الإدارة ثم الباب الخارجي لأجد الأهل بانتظاري.
لفت انتباهي غياب الوالد... اعتقدت أن الشيخوخة حالت دون قدومه... اخبروني بوفاته منذ عام سبق... ركبنا سيارة الأجرة حتى اقتربنا من المنزل... صممت على التوجه أولا إلى المقبرة... وقفت أمام قبره... قرأت له الفاتحة وطلبت له الرحمة... كان يحلم دائما بالعودة إلى بيته هناك... لازالت رائحة عرقه في أحشاء تربة الوطن... خمسة وعشرون عاما من حياته أمضاها ما بين الصلاة وصحبة المذياع... لم يفلح اليأس يوما ما في الإطباق على وجهه... تعلمت منه الصبر والتفاؤل.
أمام القبر انفتحت بوابات الذاكرة... اغتصبوا كل شيء... واجهنا قسوة العيش... اعتمدنا على الإعشاب نطبخ الخبيزة والرجلة والحمصيص... اللون الأخضر هو الدائم على المائدة... كل ذلك وبيتنا هناك على مرأى النظر... لا حواجز بيننا سوى الأسلاك الشائكة والمستوطنات اللعينة ورصاص جنود الاحتلال.
لم تصبر والدتي كثيرا على فراق أبى... نالت منها الشيخوخة... كان ملك الموت يحوم حول البيت... خيم الضباب على المنطقة وجعلها تبدو حزينة... أرسلتْ في طلبي... جلستُ أمامها وقبلتُ يدها... أحسستُ أنها ترغب في وداعي... أمسكتْ بيدي والدمعة تبلل عينيها
صوت والدك يناديني ... وأنا مشتاقة له
إن شاء الله بعد عمر طويل ... أنت بخير والحمد لله
استلم الأمانة وحافظ عليها ... ومن بعدك لابنتك ... مفتاح بيتنا هناك ... البيت الذي شهد فرحة زواجنا... ثوب الزفاف أبقيته هناك... داخل الصندوق الخشبي...تركته كي أعود إليه... ثوب جميل... مطرز باليد... قدمه هدية لعروسنا الفلسطينية... اشهد أن لا اله إلا الله وأن محمد رسول الله.
غَرُبت عيناها ومال رأسها... صعدت روحها الطاهرة... لاح على وجهها ابتسامة خفيفة سخرت من كل أشرار العالم.
تظلل قبرها شجرة الجميز... الشجرة التي لجأنا إليها عام 1948م... غادرت الدنيا وبقيت فصول المعاناة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.