ماذا فعل هيزنبرج بهتلر؟ اظن ان صياغة هذا السؤال علي هذا النحو تبدو غريبة, فهيزنبرج احد رعايا هتلر, هتلر هو الديكتاتور العظيم, وهذا اللقب هو عنوان لأول فيلم ناطق للممثل العالمي شارلي شابلن. اخرجه بنفسه وعرضه في نيويورك في سبتمبر 1940, اي بعد عام من اشتعال الحرب العالمية الثانية, وبناء عليه يكون من الصواب ان تأتي صياغة السؤال علي هذا النحو: ماذا فعل هتلر بهيزنبرج؟ ومع ذلك فقد آثرت الصياغة الأولي علي الثانية. والسؤال اذن: لماذا آثرت الصياغة الأولي؟ بسبب رؤية هتلر لهيزنبرج, اذ كان رائدا للجماعة العلمية الدولية في مجال الفيزياء النووية بوجه عام, ورائدا للجماعة العلمية الالمانية بوجه خاص, ولهذا قرر هتلر الاستعانة به في صناعة القنبلة الذرية, علي الرغم من قوله بأن هيزنبرج يهودي ابيض, وان الفيزياء التي يشتغل بها هي فيزياء يهودية لأن معظم مؤسسيها من اليهود, ولهذا ايضا قرر هيزنبرج عدم الهجرة علي الرغم من ان زملاءه اليهود نصحوه بالهجرة, إذ قالوا له ليس في إمكان عالم ملتزم بتماسكه الاكاديمي واحترامه لذاته البقاء في وطن محكوم بفاشست يقتلون, واذا اردت ان يكون لك تأثير فهذا التأثير لن يكون ممكنا إلا اذا هم ارادوه إلا ان هيزنبرج آثر الصمت فازداد امر امتناعه غموضا, بل ان ازدياد الغموض لم يتوقف عند هذا الحد, اذ ارتحل هيزنبرج إلي كوبنهاجن في الفترة من 15 إلي 21 سبتمبر 1941 لزيارة استاذه وصديقه العالم الفيزيائي الدنماركي نيلز بوهو 1885 1962 الذي يعتبر القوة المحركة العظمي لرؤية فلسفية ورياضية للبناء الداخلي للذرة, والغريب في الأمر أن كلا منهما قد نسي ما دار بينهما, ومع ذلك فقد قيل عن هذه الزيارة انها تاريخية, ومن هنا ثمة سؤال لابد أن يثار: هل ثمة مخرج يكون بديلا عن النسيان لاكتشاف ما دار في هذه الزيارة التي قيل عنها انها تاريخية؟ اجيب بعد ان قرأت عدة مؤلفات ويأتي في مقدمتها كتاب صدر عام 1956 عنوانه الرئيسي أكثر اشراقا من الف شمس, وعنوانه الفرعي سيرة ذاتية لعلماء الذرة وكتاب آخر صدر عام 1991 عنوانه الرئيسي ازمنة نيلز بوهر وعنوانه الفرعي في الفيزياء والفلسفة والسياسة. وكتاب ثالث عنوانه الرئيسي حرب هيزنبرج وعنوانه الفرعي سر تاريخ القنبلة الالمانية وانا هنا انتقي عدة وقائع واحاديث من هذه المؤلفات الثلاثة لمحاولة الكشف عن لغز هذه الزيارة التاريخية وذلك في النقاط التالية: راجت شائعة تقول إن الروس سيخطفون هيزنبرج وهو في طريقه لزيارة نيلز بوهر. من هول الصدمة الناشئة مما قيل في هذه الزيارة ان نسي كل منهما ما قيل. وسبب النسيان مردود إلي أن بوهر تشكك في نوايا هيزنبرج الكامنة في هذه الزيارة المتعمدة, وأن هذا التشكك مردود إلي عبارة قالها هيزنبرج وأغضبت بوهر ونسي كل منهما هذه العبارة. وفي التحليل النفسي سبب النسيان مردود إلي كبت حادثة مؤلمة, فما هو هذا المكبوت؟. لقد ذهل بوهر عندما اخبره هيزنبرج انه في الإمكان صناعة القنبلة الذرية وبعد ذلك لم يستمع بوهر إلي ما قاله هيزنبرج, وما قاله هيزنبرج هو تأسيس تحالف دولي الغاية منه منع صناعة القنبلة الذرية. ومما ساعد علي طغيان حالة الذهول عند بوهر مردود إلي انه كان علي يقين من وجود اجهزة تنصت لأن الدنمارك موطن بوهر كانت محتلة من المانيا النازية ومع بداية شهر يونيو من عام 1944 ومع بداية غزو هتلر لأوروبا قيل للمخابرات الالمانية: ان هيزنبرج متفرد في الفيزياء النووية, فاذا كان لديكم مشروع صناعة قنبلة ذرية فعليكم الاستعانة به واذا رفض فعليكم التخلص منه وبعد هذا القول تم تعيين هيزنبرج مسئولا عن صياغة المعادلات الرياضية الخاصة بصناعة القنبلة الذرية فماذا فعل هيزنبرج؟ قال للقيادة العسكرية ان صناعة القنبلة الذرية, ممكنة ولكنها تستغرق سنوات وتكلفتها عالية, وجاء رد هتلر شفاهة وهو عدم اجراء اية صناعة حربية تستغرق اكثر من نصف عام, وقال هيزنبرج هامسا: شكرا لله. وتأسيسا علي ذلك كله يمكن القول إن هيزنبرج امتنع عن الهجرة لكي يمنع هتلر من صناعة القنبلة الذرية. ومع ذلك يبقي سؤال: ما الدافع عند هيزنبرج في منع هتلر من صناعة القنبلة الذرية؟ جواب هذا السؤال في المقال القادم. المزيد من مقالات مراد وهبة