العصر الذهبي لعلم الفيزياء. عبارة شاعت في أوروبا في الفترة من 1919 إلي 1927 وهنا يثار سؤالان بالضرورة: ما معني العصر الذهبي؟ وماذا حدث في تلك الفترة حتي يقال عنها إنها كذلك. جري العرف اليوناني القديم علي تقسيم تاريخ الكون إلي أربعة عصور: العصر الذهبي ويعني عصر الكمال, والعصر الفضي ويعني عصر الملذات الحسية, والعصر البرونزي ويعني عصر البطولة, والعصر الحديدي ويعني عصر الكآبة. وتأسيسا علي هذه القسمة يكون العصر الذهبي للفيزياء هو العصر. الذي اكتملت فيه بلا زيادة أو نقصان, ويكون ما بعده مجرد تطبيقات تكنولوجية مثل صناعة القنبلة الذرية. والسؤال إذن: ماذا حدث للفيزياء حتي يقال عنها إنها دخلت في العصر الذهبي؟ حدثت لها نقلة كيفية, إذ إنها انتقلت من الفيزياء الكلاسيكية إلي الفيزياء النووية. فقد اتسمت الفيزياء الكلاسيكية التي بدأت من القرن الخامس قبل الميلاد وانتهت عند بداية القرن العشرين بأنها لم تغير من تصورها للذرة باعتبارها الجزء الذي لا يتجزأ. وقد بلور هذا التصور الفيلسوف اليوناني ديموقريطس في القرن الخامس قبل الميلاد, إذ ارتأي أن المادة مكونة من ذرات متشابهة وعددها غير متناه وغير قابلة للقسمة, تنحل إليها الأشياء دون أن تنحل هي إلي شيء من الأشياء. وظل هذا الاعتقاد راسخا وسائدا حتي بداية عام 1919 عندما نشر العالم الإنجليزي رذرفورد بحثا في ابريل من نفس ذلك العام جاء فيه امكان انشطار الذرة إلي جسيمات أصغر وأدق. وفي رأيه أن بحثه هذا أهم من اشتعال الحرب العالمية الأولي لأنه يحقق حلم الأقدمين من علماء الكيمياء السحرية التي كانت تسمي السيمياء في إمكان تحويل عنصر إلي عنصر آخر. وهكذا أصبحنا في مواجهة أسلوب جديد في التعامل مع الذرة. وفي 18 يناير 1921 افتتح العالم الفيزيائي الدنماركي نيلزبور معهد الفيزياء النظرية في كوبنهاجن, وبعد ذلك بعام نال جائزة نوبل لأنه ربط الكيمياء بالفيزياء, ومن ثم انتقل المركز العلمي للفيزياء من انجلترا إلي كوبنهاجن. وعلي الرغم من أنها مدينة صغيرة إلا أنها احتضنت ثلاثة وستين من مشاهير علماء الفيزياء. ومع ذلك فقد رحل بور إلي جوتنجن بألمانيا في عام 1922 لإلقاء محاضرة. وأثناء الالقاء صحح له أحد الطلاب خطأ معينا وقع فيه بور إلا أنه لم يغضب بل استجاب لمطلب الطالب في مرافقته أثناء نزهته وسط الجبال. وكان هذا الطالب اسمه فيرنر هيزنبرج الذي قال فيما بعد عن هذه النزهة إنها كانت بداية مستقبله العلمي. والسؤال إذن: من هو هيزنبرج (1901-1979) ؟ هو يهودي من أصل ألماني. نال جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1934 وذلك بسبب اكتشافه مبدأ علاقات اللاتعين في 23 مارس من عام 1927 ومفاده أن الفيزياء الكلاسيكية قد أوهمتنا أنها قادرة علي وصف العالم من غير تدخل من الانسان في حين أن هذا المبدأ يفيد ادخال العامل الذاتي وهو الانسان الصانع للأجهزةالتي نقيس بها موضع الجسيم أو سرعته, ومن ثم فان مقياسنا لن يكون دقيقا. وقد ترتب علي ذلك قول هيزنبرج بأن ما نلاحظه لا يصف الطبيعة في حد ذاتها إنما يصف الطبيعة كما هي بالنسبة إلي الانسان, وبالتالي لم تعد القوانين العلمية مطلقة علي نحو ما ارتأي نيوتن, بل نسبية علي نحو ما ارتأي هيزنبرج. واذا كان تعريفي للعلمانية بأنها التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق فما انتهي إليه هيزنبرج في الاعلان عن مبدأ علاقات اللاتعين قد دلل علي سلامة تعريفي للعلمانية, وبالتالي فإننا اذا تحدثنا عن العصر الذهبي للفيزياء فإننا نتحدث في الوقت نفسه عن العصر الذهبي للعلمانية. المزيد من مقالات مراد وهبة