لا شك أن عبد الرحمن الجبرتي كان أهم مؤرخي مصر في القرن الثامن عشر, بل إن مؤلفه عجائب الأثار يعد نهاية سلسلة من المؤلفات التاريخية الكبري لمصر في العصور الوسطي بدأت في القرن التاسع الميلادي بالمؤرخ الكبير ابن عبد الحكم, واستمرت علي يد الكندي و المسبحي, والمقريزي, وبن تغربردي, وبن دقماق, وبن الفرات, وبن إياس ليأتي الجبرتي في نهاية القائمة. وقد استن الجبرتي لنفسه منهجا في الكتابة اعتمد فيه الحوليات, بمعني تسجيل الأخبار عبر السنوات, والتراجم التي تأتي تحت عنوان' ذكر من مات في هذ السنة' وتضعنا أمام التسجيل المفصل لسير وقصص حياة أهم الأشخاص التي عاشت في مصر عاما بعد عام. ووقد أولي الجبرتي التراجم اهتماما كبيرا, ومن مراجعتها يمكن أن نحدد بسهولة تصوره عن التراتب الاجتماعي في المجتمع المصري, فقد اختط لنفسه طريقا لا يغيره, إذ يبدأ دائما بتراجم أهل المعرفة من العلماء وأهل التقوي من الشيوخ, ثم يلي ذلك الأمراء والحكام لينتهي ببعض من نال حظوة اجتماعية من التجار, وأخيرا وفي حالات نادرة كان يترجم لبعض من موظفي للدولة. لست أظن أن الجبرتي وضع هذا الترتيب اعتباطا, وهو ترتيب يعكس تصور الجبرتي وأهل عصره لأهمية موقع المعرفة والعلم في الحياة, ففي ترتيبه يضع المعرفة والتقوي في أعلي سلم القيم يليها السلطة ثم المال وفي النادر تأتي الكفاءة المهنية. والمعرفة كما كان يعنيها الجبرتي هي تلك التي كانت سائدة في عصره, وهي تمثل خلاصة ما قدمته العصور الوسطي من معرفة. وأنا أستخدم تعبير العصور الوسطي بمعناه الزمني, أي العصر الفاصل بين العصور الكلاسيكية والعصر الحديث. فالعصور الوسطي في الشرق العربي والإسلامي كانت مختلفة عنها في أوروبا والغرب. فبينما كانت في الغرب عصور ظلام كانت في الشرق عصر معرفة وعلم. فنحن نعرف أن العلم والمعرفة إزدهرا في العالم الإسلامي منذ القرن الثامن وحتي نهاية القرن الثالث عشر, وقد اشتهر في هذه الفترة مجموعة كبيرة من العلماء في الرياضيات والهندسة والطب والفيزياء والفلك, والشئ الملاحظ في هذه الفترة أن مصر لم تقدم الكثير من العلماء من أبنائها, غير أنها أعطت أسماء هامة مثل الدميري الذي كتب في علم الحيوان والجلدكي السيميائي الشهير, وبن رضوان الطبيب. والصحيح أن في هذه الفترة عاش بعض من أهم علماء العصور الوسطي في مصر مثل الحسن بن الهيثم و بن خلدون, إلا أن الانتاج الكبير الذي قامت به مصر تمثل في المكتبة التاريخية والمؤرخين الذين ذكرناهم أنفا. وعلي كل حال فإن العلم والمعرفة لم يستمرا, فمن الواضح, ولأسباب شتي, أن العصر الذهبي للعلم العربي قد انتهي مع نهاية القرن الرابع عشر, ومنذ ذلك التاريخ بدأ نضوب العلم العربي, بل إنك علي مدي القرون التالية لا تجد من العلماء من يوازي أبو بكر الرازي أو ابن سينا, فقد اختفي الإبداع العلمي, واختفت بعض أعمال المؤلفين الأوائل, بل إن بعضهم نسي تماما, وعلي مدي السنين والقرون رسخ في ذهن النخبة المتعلمة في بلادنا أن هذه البقايا هي كل العلم وكل الحكمة. كانت هذه البقايا هي ما ورثه الجبرتي وكانت تلك وسيلته لقياس علم ومعرفة معاصريه, وهي معرفة نزعت إلي تقديس ما هو منقول, وشرح ما هو مشروح, ووضع الحواشي علي المتون, وتلخيص وتجريد ما هو مطول, وتصنيف ما هو مبعثر, واختفت بالكلية كل محاولة جريئة لنقد ما هو موروث. فبينما كان لابن الهيثم من العلم والجرأة أن ينقد التصور الفلكي لبطلميوس في القرن الحادي عشر, وهو الأمر الذي لم يقدم عليه أحد إلا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر, لا نجد ذكرا لابن الهيثم في الإجازات والقراءات والشروحات والكتابات الوفيرة جدا التي يذكرها الجبرتي لأعظم علماء مصر في القرن الثامن عشر. ومن ثم لم يكن غريبا ان يجعل من والده أهم علماء عصره, فوالده الشيخ حسن الجبرتي كان عالما أزهريا وقطبا صوفيا وفلكيا ماهرا, وهو في الإجمال عالم مطلع علي معارف عصره ومتمكن من علوم الأولين. وعندي أن هذه هي صفات المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي نفسه والتي بسببها كان انبهاره الشديد بما أتي به الفرنسون إلي مصر من علم جديد ومعرفة جديدة وأدوات علمية وأساليب إدارية لم يعتادها, وبسببها أيضا كان ارتيابه من أصحابها.