مساء يوم الثلاثاء الموافق7 يناير2014 انتقل إلي رحمة الله تعالي أستاذ مدرسة الصبر الدكتور كمال محمود المنوفي, ابن قرية تلوانة مركز الباجور محافظة المنوفية, وعميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق.عرفناه وعرفه كثيرون داخل مصر وخارجها أستاذا متميزا للعلوم السياسية, ولكنه كان قبل ذلك ومعه أستاذا لمدرسة للصبر. ومدرسة الصبر في مصر أشمل وأكبر من مدرسة العلوم السياسية ومن أي مدرسة أخري. والصبر في مصر له أقدم وأعرق وأوسع مدرسة ظل المصريون يدخلونها ويتخرجون فيها علي مر الزمن, وبخاصة من أبناء القري. ولم يكن أستاذنا المنوفي واحدا عاديا من أبناء هذه المدرسة, وإنما كان من المتفوقين فيها. وتدرج فيها حتي صار أستاذها منذ أكثر من ثلاثين سنة. فأهم موضوع كتبه في حياته كان عن الثقافة السياسية للفلاحين المصريين. والصبر كان ولا يزال هو قلب هذه الثقافة النابض. وكان الصبر ولا يزال أيضا أهم وأبرز سمات الحياة الشخصية لأستاذنا المنوفي. وكان الصبر كذلك هو وصيته الذهبية لكل تلامذته ومحبيه. وكان يحثنا ونحن طلاب علي الصبر وعدم التعجل في البحث والكتابة. وعندما كنا نستبطئ مرور الوقت ونستعجل الانتهاء من البحث, كان يقول لنا كما يقول آباؤنا الصبر طيب, وبالصبر سيكون عملك أفضل وأنضج. وعندما سبقته زوجته الدكتورة هدي صلاح رحمها الله إلي دار البقاء, تذرع بالصبر علي تربية أولاده ولم يأت لهم بزوجة أب. ولما تمكن منه المرض في منتصف التسعينيات تذرع بالصبر. الدليل الأقدم علي انتمائه لمدرسة الصبر هو كتابه النادر ويكاد يكون اليتيم حتي اليوم عن الصابرين في مصر علي مر الزمن. عن اللاجئين بأحزانهم ورجائهم إلي ساحات الصبر. أقصد الفلاحين. ففي نهاية سبعينيات القرن الماضي حصل أستاذنا المنوفي علي درجة الدكتوراه في موضوع الثقافة السياسية للفلاحين المصريين, ليس فقط وإنما اختار أن يدرس هذه الثقافة دراسة ميدانية علي عينة من فلاحي قريته تلوانة القابعة في وسط دلتا النيل منذ عهد الفراعنة. وفوجئ أهالي قريته بأن كمال افندي الذي كان أول الجمهورية في الثانوية العامة, والذي تخرج في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة لم يذهب كبعض زملائه إلي جامعات الريف المتوحش في كندا وأمريكا ليتغرب فكره فيها; وإنما عاد ليعيش وسط أهل قريته ويجري معهم حوارات متعمقة عن آلامهم وآحلامهم. عن فهمهم للسياسة وعلاقتها بالدين والتدين. عن والحرية والاستبداد. وعن الصبر الذي يمارسونه بلا حدود!. ومن حواراته معهم كتب رائعته عن الثقافة السياسية للفلاحين. وهي في نظري رسالة في أصول ثقافة الصبر المصري. الصبر علي الظلم والقهر والاستبداد والاستعباد والفساد. كتبها أستاذنا المنوفي بلسان عربي مبين. وأشهد ويشهد كل من قرأها أنها تحفة أدبية; كأنها شعر بلغة علمية, أو علم بلغة الأدب والشعر. وكل من يقرأها إلي اليوم يلحظ فيها ظلال لغة القرآن الكريم الذي حفظه المنوفي في صغره, وظل مواظبا علي تلاوته كلما واتته لذلك فرصة. ويلحظ فيها أيضا براعته في رسم ملامح الشقاء المحفورة علي وجوه الفلاحين, وفي تصوير معاني صبرهم الذي لا ينفد وانتظارهم الطويل الطويل لمن يأتي كي ينصفهم. كنت وبعض الأصدقاء خلال السنوات الأخيرة من نظام مبارك نمضي مع الدكتور المنوفي ساعات طوالا في مكتبه بالكلية نستعرض أحوال مصر والمصريين ونخوض كأساتذة علوم سياسة في هموم الوطن وأزماته السياسية والاقتصادية. ذات مرة سألته: ما فائدة انضمامك لعضوية لجنة السياسات بالحزب الوطني؟ قال: أنا لم أنضم, وإنما جاءني من أخبرني بأنني صرت عضوا فيها, ولم أحضر اجتماعاتها مرة واحدة, ولن أحضرها... وده حزب ابن ستين..... سألته: وما المخرج من الأزمة السياسية التي تعاني منها مصر؟. فأجاب وهذه شهادة لله وللتاريخ سمعتها منه لأول مرة في صيف سنة2009 قائلا لا حل مع هذا النظام يقصد نظام مبارك إلا بأن ينزل الناس ويعتصمون في ميدان التحرير, أو في لاظوغلي ويأخذوا معهم أولادهم الصغار عشان يزروطولهم الدنيا حتي ينصلح الحال, أو يسقط النظام, وعليهم أن يتحملوا التضحية. قلت له مداعبا: وأين يذهب الصبر؟. فلم يجبن وآثر الصمت والصبر معا. عرفت أستاذي الراحل كمال المنوفي وأنا طالب في قسم العلوم السياسية قبل ثلاثين عاما. ومذ عرفته كنت كلما لقيته وجدته ضاحكا مستبشرا, صابرا محتسبا. مثالأ في الجدية والالتزام. رأيته في مرات كثيرة عاكفا علي قراءة رسائل طلابه للماجستير أو الدكتوراه وهو يدون ملاحظاته بقلم رصاص علي هوامش الصفحات, ويصوب الأخطاء اللغوية, ويقرأ كل رسالة كلمة كلمة بصبر وطول نفس, حتي يطمئن أنها باتت صالحة للمناقشة ومن ثم للإجازة. ومع جديته وصرامته العلمية كان متسامحا إلي أبعد حد. ودودا مع من يعرف ومن لا يعرف. موطأ الأكناف يألف ويؤلف. وكان بابه مفتوحا أمام الجميع, وفي كل الأوقات حتي في السنوات التي شغل فيها منصب عميد كلية الاقتصاد. ولم يغره هذا المنصب الرفيع كما غر آخرين. وكثيرا ما كان يؤم زواره في الصلاة في مكتبه عندما يحين وقتها. وكان زهده في الدنيا علامة أخري من علامات انتمائه العريق لمدرسة الصبر وأستاذيته لها. ولم ينقطع عن زيارة أهله ومحبيه في قريته تلوانة إلا بعد أن أقعده المرض, وتهيأ للرحيل الأبدي. وبعد حياة حافلة بالجد والعمل, وبعد أن شرق وغرب في البلاد عاد ليواري الثري في قريته ليكون في زمرة الصابرين من أهلها الطيبين الذين أحبوه وأحبهم وورث الصبر منهم, وسجله ببراعة في أهم كتاب كتبه عنهم. لمزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم