كان من أعظم نعم الله عليّ أني تتلمذت تلمذة حقيقية ومباشرة منذ أوائل التسعينيات وحتى الآن على يد أستاذي وحبيبي الدكتور سيف الدين عبد الفتّاح إسماعيل أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. منذ أوائل التسعينيات وحتى الآن لا زلت أعيش في دروب تلك التلمذة العميقة، أسعد بها وأشرف، وهي دروب ومسارات لا تنتهي، فما نبلغ بابا منها، حتى يفتح الله أبوابا أوسع. ولما لا وأستاذي أنبغ تلاميذ العلامة الراحل الدكتور حامد ربيع رحمه الله، وهو وراث علمه وحافظ تراثه، وناشر فكره. خط متصل من التلقّي والتعلّم منذ المرحلة الجامعية ثم كان هو أستاذي المشرف على رسالتيّ الماجستير والدكتوراه وهي فترة زمنية تمتد حوالي خمسة عشر سنة متصلة لا انقطاع فيها ولا إعلال. والدكتور سيف نسيج وحده، وأمّة وحده، علّمني من مواقفه وأفعاله أكثر مما علمني من دروسه وكلامه، ما إن رأيته إلا وقد وقعت محبته في قلبي. بصير صادق يضرب في كل غنيةٍ بسهم، يدرّس ويحاضر، ويكتب ويؤلف، ويؤسس المشاريع الفكرية والعلمية ولا يحب أن يُرى مكانه، سرّه خيرًا من علانيته، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا، وما شهدنا إلا بما علمنا عن يقين ومعاينة، عن كثب لا عن كُتُب. فهو من جنود السر الأخفياء الاتقياء، يعكف السنين الطوال ينضج المشاريع الفكرية يؤسس لها ويمتن بناءها ويعمّق هياكلها المعرفية ويجمع مادتها من بطون الكتب والدوريات وأمهات المراجع، لا يشعر به أحد ولا يسعى لأحد، لا يرجو من الناس شيئا، اغتنى بالخالق عن المخلوقين، واستغنى عن الماديات بالزهد فيها، ترفّع عن عالم الأشياء وحلّق في مدارات عالم الأفكار يغوص في بحارها، ينسج من لؤلؤها عقود الفكر ومنظوماته وشبكاته، غوّاص ماهر في البحث عن الدرر الكوامن. يحلل عالم الأحداث، يتفكر في الأشباه والنظائر ويدرك الفروق، ويرد الفروع إلى أصولها، مقاصديّ بالسليقة حتى صار عَلَمًا عليها، وصار إنتاجه العلمي والفكري في هذا العلم الشريف: علم مقاصد الشريعة فتوحات ربانية ومنح لدنية. يستشرف المستقبل كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق يختلف الناس على بعض رؤاه لكن لا يختلفون عليه: قيمة علمية وقامة فكرية. بحر لا تكدّره الدلاء. علم وعبقرية وخلق رفيع، يبث الخير في جميع النواحي كوابل طيب أوله في الخير كآخره. فتح الله تعالى بإرشاداته عقلي وعمّق بحواراتي الممتدة معه كثيرا من أفكاري بما كان يلقيه عليّ من مداخل في النظر والاعتبار، وبما كان يدربنا عليه من أدوات في البحث والمناهج، وما أجد وصفا له أصدق من وصف ابن القيم لأستاذه شيخ الإسلام ابن تيمية حينما يقول: حتى أتاح لي الإله بفضله *** من ليس تجزيه يدي ولساني حبر أتى من أرض حرّان فيا *** أهلا بمن جاء من حرّان فالله يجزيه الذي هو أهله *** من جنة المأوى مع الرضوان أخذت يداه يدي وسار فلم يرم *** حتى أراني مطلع الإيمان والحلم والأناة والصبر من أهم السمات الشخصية لأستاذنا وحبيبنا الدكتور سيف، حلم وأناة كنت أحيانا بأثر من حميّة الشباب وفورانه أراهما نوعا من القبول بمقتضيات معادلات مقلوبة وواقع نكد، وكنت أرى أن السكوت فيما يلزم التكلم فيه إقرار، ولكني على أية حال كنت أحترم اختياراته، وأرى لها من أبواب الحق متسعا. وما أعجبت في شخصيته من شيء كقدرته على هضم نفسه بل وأحيانا كثيرة كان لا يرى لنفسه حقا حتى يهضمه، فهو بحق التقي الخفي. أما صبره فلا أدل عليه من صبره الجميل على تلميذ مثلي متمرد بطبعه، نقّاد بحسّه، لا يسلم قياده الفكري لأحد مهما علا، يعمل عقله وفكره بلا حدٍ ولا منتهى، شعاره كم ترك الأول للآخر، وربما كان في النهر ما لم يكن في البحر، والعلم ساحل لا حد لشطآنه ولكل زمن أداوته ومناهجه ورؤاه. جبل الله أستاذنا وحبيبنا الدكتور سيف على تواضع جم يخجلنا نحن تلاميذه ومحبوه، وهو تواضع صادق وحقيقي يعرفه كل من تعامل معه أو اقترب من عالمه، ففي أثناء مناقشته لرسالة الدكتوراه التي تقدمت بها الدكتورة هبة رءوف يقول في أولها: "إننا اليوم نشهد مولد منظرة في رسالة تعبر عن جهد تنظيري غاية في الأهمية، وعلامة بارزة ومهمة في تاريخ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. فقد أرهقني أنا شخصيًّا المعمار المسبوك للرسالة والجرعة التنظيرية الدسمة التي أضافت إلى معنى العلوم السياسية، حيث استطاعت الباحثة رغم كثرة المراجع أن تهيمن على مادتها قبل أن تهيمن على قرائها". وفي نهاية المناقشة يقول: "حُق لهبة أن تفخر بعملها فقد جَمَعَت فأوعَت، ونَقَدَت فأحسَنت، وحلّلت فأمعنت، ونظّمت فأحسنت، ونظّرت فتمكّنت، وأظنها في رسالتها تعلّمت وعلّمت.. وأنا ممن تعلموا". زادك الله رفعة وتواضعا. لم ينتم الدكتور سيف الدين عبد الفتاح إلى حزب من الأحزاب السياسية أو إلى جماعة من الجماعات، كان دائما ما يؤكد على أن بوصلته "الأمة" بمجموعها ويحب مصر، مصر الناس والوطن، يشفق على حاضرها ويجزع على مستقبلها ومهموم بحال أهلها. لا يحب أن يحسب على تيار بعينه أو جماعة بعينها شعاره من استنصحنا نصحنا له، وما أستشارنا أشرنا عليه. فبذل النصيحة من الدين لأئمة المسلمين وعامتهم. وأستاذنا الدكتور سيف نموذج لعالم مجتهد قائم على ثغرة الفكر السياسي الإسلامي، فرسالته للدكتوراه: "التجديد السياسي والواقع العربي: رؤية إسلامية" هي تجربة عملية على تطبيق أداوت ومناهج في البحث كانت في وقتها من علامات النبوغ، حتى قال أحد الأساتذة المناقشين: "عادة نناقش طالب الدكتوراه حتى نعرف إن كنا أمام مشروع باحث أم لا، أما في هذه الرسالة فنحن أمام مشروع مفكّر". وصدقت النبوءة وإن كانت علامات صدقها ذاتية من أول يوم فهو صاحب قلم نبيل وعقل وقّاد وصياغات محكمة، ورؤية شاملة تضبط كل الأمور بميزان المقاصد. والدكتور سيف وإن تأخر زمانه فهو نموذج عملي وحي لمقولة ابن مالك في مقدمة كتابه التسهيل: "وإذا كانت العلوم منحا إلهية ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عجز عن اداركه بعض المتقدمين، نعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف". وإنما يتفاضل الناس بالاجتهاد والدؤوب وحسن الارتياد، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن واصل السير حريّ به أن يصل. وأخيرا: ليست هذه الكلمات من باب المدح الذي يقطع أعناق الرجال، وإنما من هي باب معرفة أقدار الرجال وإنزال الناس منازلهم، ومعرفة ما لعلمائنا من حقوق، وأستاذنا الحبيب علمه وفكره أوسع بكثير مما يظن القرّاء، وهي ليست تعريفا به فالمعرّف لا يُعرّف، وإنما هي عرفان بالفضل لأهله ونسبة الحق إلى ذويه، ما جاوزت فيها الحق، وما عدوت فيها الصدق، وهو الذي علمني شرطي الكلام: الصدق والعدل. أما المدح فلا توفيه الكلمات حقه عليّ ولكن أقول كما قال الشاعر: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها *** عقود مدح، فما أرضى لكم كلمي