الحضارة هي الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة, التي تعبر عن روح هذا المجتمع أو ذاك الشعب وتلك الأمة, وهي تنشأ حينما يستلهم الناس عزما واضحا صادقا لبلوغ التقدم والترقي, وقد عرف العلامة الفرنسي' جورج باستيد' الحضارة باعتبارها الجهد الإنساني الإيجابي لمواجهة ضرورات الطبيعة, تجاوبا مع إرادة التحرر في الإنسان, وتحقيقا لمزيد من اليسر في إرضاء حاجاته ورغباته, وإنقاصا للعناء البشري. فالسلوك الإنساني الذي ينتج الحضارة, هو استجابة لتحدي ظرف من ظروف الطبيعة, يكون هو المثير والدافع والحافز للإنسان كي يتغلب علي ما يواجهه, إلي جانب طبيعة الإنسان نفسها وحاجاته للطعام, والشراب, والأمن. والحضارات الإنسانية سلسلة محكمة متينة الحلقات, يؤثر سابقها في لاحقها, ويتأثر حاضرها بماضيها, وينتفع بعضها من بعض. ولقد تواجدت حضارات مختلفة في الزمان والمكان, وانتفعت من بعضها انتفاعا أدي إلي تقدمها عند الكثير, فالحضارات كحلقات السلسلة الواحدة, التي لا تنفصم الواحدة منها عن الأخري, ولا يمكن أن تكون كل حضارة نشأت بمعزل عن غيرها من الحضارات الأخري. أو أنها لم تتفاعل معها, فالحضارات تأخذ وتعطي, ترث وتورث. لقد ذكر الفيلسوف والمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي أن:' الحضارة عبارة عن حركة وليست وضعا, رحلة وليست مرفأ'. فكما تتغلب الحياة علي الموت بالإنجاب, مثلما يقول ويل ديورانت, في كتابه' دروس من التاريخ', تسلم الحضارة المسنة أو الهرمة تركتها لورثتها عبر السنين و'البحار'. وقامت المهاد الأولي لحضارات الإنسان المعاصرHomoSapiens حول الأنهار منذ الألفين الثامنة والسابعة قبل الميلاد, وظلت مراكز القوة والحضارة العالمية متمركزة حول الأنهار العظمي في بلاد الرافدين بالعراق والنيل بمصر والسند بالهند والجانج بالصين وغيرها للدرجة التي استحقت اسم' الحضارة النهرية'. لكن علي مدي نحو ألفي عام تالية وبالتحديد منذ موقعة سلاميس عام480 ق. م وحتي هزيمة الأسطول الأسباني في موقعة الأرمادا عام1588, صارت مراكز القوة والحضارة العالمية متمركزة حول شواطئ البحر المتوسط, جنوبا وشمالا, شرقا وغربا, بين الفينيقيين والأغريق والرومان والعرب والأتراك والأسبان علي التوالي. ومع بداية حركة الكشوف الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر, بدأ عصر ركوب وتحدي المحيطات, واهتزت سيادة البحر المتوسط في مسيرة ومركزية الحضارة العالمية, إذ انحدرت مدن جنوا وبيزا وفلورنسا والبندقية, وبدأ عصر النهضة في الخفوت, وصعدت أمم ودول الأطلسي, ومدت سيطرتها في النهاية علي نصف مساحة العالم. وكتب الفيلسوف الأيرلندي جورج بركلي في عام1730:' إن اتجاه الإمبراطوريات يتخذ طريقه نحو الغرب', وراجت بين علماء التاريخ والجغرافيا مقولات من قبيل أن حركة الحضارة تسير مع اتجاه حركة الشمس وعكس اتجاه عقارب الساعة. وفي أوائل التسعينات الماضية ذكر المفكر السنغافوري كيشور محبوباني أن' البحر المتوسط هو أوقيانوس الماضي, والمحيط الأطلسي هو أوقيانوس الحاضر, لكن أوقيانوس المستقبل هو المحيط الهادي'. وأصدر محبوباني, في عام2008, كتابه' نصف الكرة الآسيوي الجديد: الانتقال القسري للهيمنة العالمية إلي الشرق'. وألمح المفكر اليساري الأميركي البارز نعوم تشومسكي مرارا إلي أن النظام العالمي الجديد, سينمو علي ضفاف المحيط الباسيفيكي, وسيقذف بأوروبا, التي قادت الحضارة الغربية علي مدي القرون الخمسة الماضية, إلي أعماق المحيط الأطلسي. وفي العام2008 كتب المؤرخ الأميركي بول كينيدي أن التوازنات الاقتصادية الدولية, ومن بعدها التوازنات العسكرية الدولية تتحول حاليا من الغرب باتجاه آسيا, وهو أمر لا يمكن أن ينكره سوي الحمقي. واستغرقت عملية انتقال مركز القوة والحضارة العالمية من البحر المتوسط إلي المحيط الأطلسي حوالي ثلاثة قرون, فيما لم تتجاوز عملية الانتقال ذاتها من المحيط الأطلسي إلي المحيط الباسيفيكي سوي نصف هذه المدة, أي150 عاما, فقبل نحو30 عاما كان مركز ثقل الاقتصاد العالمي يقع غربي لندن وربما كان في وسط المحيط الأطلسي تحديدا, بين الولاياتالمتحدة وأوروبا, لكن خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة, انتقل هذا المركز من المحيط الأطلسي إلي المحيط الباسيفيكي بين الولاياتالمتحدة من جانب واليابان والصين والهند من جانب آخر. وفي يونيو2010 ألقي كيشور محبوباني كلمة أمام' أكاديمية الدبلوماسية العالمية' في باريس, قال فيها:' إن نهضة آسيا انطلقت من اليابان, لتشمل القارة بكاملها, الأقرب فالأقرب. وقد بلغت الآن غرب آسيا, وبواسطة دول الخليج, سيمتد إلي العالم العربي', واعتبر التقرير السنوي لعام2011 الذي يصدره المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية, أن كل المؤشرات التي رصدت خلال عامي2009 و2010 تؤكد ميلاد عالم متعدد الأقطاب بفعل انحسار نفوذ الولاياتالمتحدة والدول الغربية عموما, وظهور قوي عالمية جديدة كالصين والهند والبرازيل وتركيا. إذ تميزت بداية القرن الحادي والعشرين بظهور تعدد وتباين غير مسبوق في مراكز القوة الدولية, فمنذ فجر العصر الحديث ظل الأوروبيون( الغربيون), يديرون العالم. هذه السيطرة كانت عبارة عن دورة تاريخية من خمسة قرون تصل إلي نهايتها الآن. وبذلك ستعود الحضارة إلي نقطة انطلاقها الأولي, فشبه الجزيرة العربية(واليمن التاريخية تحديدا) هي مهد الحضارة المكتوبة والتوحيد الديني,' فالإيمان(التوحيد) يمان والحكمة(النبوة) يمانية', وبالإمكان قراءة عمل مارتن برنال' أثينا السوداء' للتعرف علي الجذور الحقيقية للحضارة المعاصرة. وقد لا يكون الأمر مجرد مصادفة أن تبزغ حضارات: مصر(الفرعونية) والعراق(البابلية والآشورية), وسوريا( الأوغاريتية) وغرب إيران( عيلام) وحضارة شمال غرب الهند القديمة, في توقيت متزامن تقريبا, فهذا التزامن يقطع بأن مصدرها واحد تقريبا. فهذه الحضارات تشكل قوسا أو هلالا يحيط بجزيرة العرب من الشمال والشمال الغربي والشرق والجنوب الشرقي. وإذا كانت حضارات الجزيرة العربية القديمة, والمندثرة, قد شدت الرحال إلي جوارها, فإن ذلك جاء بفعل التغيرات المناخية طويلة المدي( عملية الجفاف تحديدا) والتي تستغرق في العادة آلاف السنين. لمزيد من مقالات احمد دياب