منذ30 يونيو الماضي والباحث في حالة اشتباك علي أكثر من مستوي. الأول مع باحثين أجانب وعرب ينظرون الي مصر بنظارة شمسية واقية تكون مدعاة للأناقة أكثر من كونها توضح الصورة بجلاء. والمستوي الثاني مرتبط بهؤلاء الذين لهم انتماءاتهم الاخوانية والمناصرين لهم والذين يرون ما حدث خروجا عن الشرعية. والأخير مرتبط بالأفكار المتداولة في وسائل الإعلام, وبالأخص الأجنبية حول الذي يحدث. فهؤلاء يطلون علي الواقع في مصر من برج عاجي ويتبعون منهج الوصفة التي توضع لعمل طعام ما. واذا اعتبرنا مجازا أن الديمقراطية هي الطعام, فان الوصفة الغربية لها أن الانتخابات هي التي تأتي بالحكام, وأنها مبدأ أساسي من مبادئها. ومن هنا تحول كل ما يحدث في مصر من مشكلات مرتبط بالانتخابات التي لم تعدمها مصر لا في السابق لأيام الثورة ولا حتي في الفترة التي بعدها والتي شهدت خمس انتخابات ولم يحدث تقدم او تطور بل تفاقمت الظروف نحو الأسوأ. إذن فما هي الإشكالية الحقيقية الموجودة في مجتمع شهد بحق ثورتين بينهما موجات ثورية ومظاهرات لم تنقطع في ثلاث سنوات ؟ ويجب هنا إقرار إشكالية يبدو أنها لم تختبر في عقل, الباحثين الأجانب ولا حتي الكثير من المدافعين عن الديمقراطية التي تعتبر مظلومة بجهلهم لحقيقتها. وهي أن الهدف الأساسي للثورة في مصر إذا نحينا مبادئها الثلاثة التي رفعت في أيامها الأولي كان رفض عملية التوريث بشكل أساسي. أما من يطالب بتحقيق كل ما نادت به الثورة في الفور والحال في ظل ظروف المجتمع المصري بعد تجربة الثلاث سنوات فهو هنا يسير في دائرة مفرغة, لأنه لا يمكن أن تنقل مجتمعا ذي ثقافة تقليدية وعنده أزمات اقتصادية في يوم وليلة لنموذج مثالي للديمقراطية. ولم يحد المجتمع المصري في30 يونيو عن النهج السابق, فهو ثار علي الإخوان في سنة لما استوعب أن ما يحدث ليس فقط توريث مصر لهم وإنما أيضا تفكيك أسس الدولة في سلوك يتناقض مع أي فكرة للديمقراطية التي تشترط فيمن ياتي بأدواتها أن يحافظ علي مؤسساتها. وإذا تجاوزنا ذلك ووضعنا ما حدث لمرسي شبيها للذي حدث لمبارك, وقرأنا ذلك من خلال الإشكالية الأكبر انه من المستحيل ان تنهض الديمقراطية في مجتمع تقليدي مثل مصر بالشكل الموجودة عليه في المجتمعات المتقدمة لان هناك شروطا أولية يجب أن تتحقق لتؤتي الديمقراطية ثمارها. أبرزها, أن الذي من المفروض أنه يحكم يكون لديه أولا شرعية الانجاز لمجتمع يعاني من أزمات اقتصادية ناتجة عن تعثر عجلة الإنتاج لفترة ما بعد ثورة شعبية. وثانيا, يجب ان تكون لديه القدرة ان يصالح هذا المجتمع أيضا بترميم ما أحدثته السنوات الثلاث من افتقاد الأمن وفوضي الشارع محاربة الإرهاب التي باتت واقعا عمليا حتي الآن. وثالثا, ضرورة البدء في عملية إصلاح وبناء المؤسسات بشكل يمهدها للانتقال للديمقراطية عن طريق دستور وطني يعبر عن المواطنة المصرية دون تمييز بين فئات المجتمع. والإسراع في عملية اكتمال خريطة الطريق المتفق عليها بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. ورابعا, أهمية المحافظة علي كيان الدول ومؤسساتها وروحها في الوعي الجمعي للمصريين. فالاختلاف بين الرؤية الغربية( إعلام ونخبة) لما يحدث في مصر وبين الواقع انهم لا يشعرون بشكل ملموس بقيمة وجود الدولة ككيان محايد عنهم لاعتيادهم علي ذلك وتعودهم الذهاب الي صناديق الانتخابات لتغيير الحكومات واختيار الحكام. لو جرب هؤلاء ان هذه المؤسسات والقانون والدستور الذي هو فوق الجميع والذي عليهم احترامه أصبح لا قيمة له, وأن هناك فئات تتصارع لوضع أسس وقوانين ومؤسسات وفقا لعقيدتها الايديولوجية لأدركوا ان الديمقراطية بالفعل ليست هي صندوق انتخاب. فنحن نعيش هذا الواقع الذي حاول الإخوان أن يغيروه ولحسن الحظ اكتشفنا أن للدولة جذورا ثابتة يمكنها أن تحافظ علي كيانها ووجودها ممثلة في مؤسسات كالقضاء والجيش والإعلام. فهذا الوجود للدولة بشكله المحايد هو الضمانة الحقيقية لنجاح الثورة ونجاح عملية التحول الديمقراطي التي سوف تأخذ سنوات إلي ان تستقر كثقافة داخل المجتمع. فالثورة كفكرة وكفاعلين بداخلها مرتبطة بشكل أساسي بعملية بناء الدولة كمؤسسة كبري تستطيع أن تحتضن الجميع وتكون عاملا مساعدا لتحقيق أهدافهم. وهذا ما اصطلح عليه مفهوم الدول الحديثة كما أكدها فلاسفة القرن الثامن عشر عندما أقروا بأن يتنازل الأفراد عن جزء من حريتهم في سبيل الحفاظ علي هذا الكيان العام الذي بغيابه سوف يكون الضرر كبيرا. والمفارقة نحن كمجتمعات عربية نعيش هذه الأطروحات النظرية بشكل عملي الآن سواء في العراق او في سوريا او في الصومال, فماذا يحدث للبشر في غياب وطن ودولة تحتضنهم الا التشرد والموت والإرهاب. لذلك فأي قيمة نادت بها ثورتا25 يناير و30 يونيو من لا يمكن تحقيقها في ظل غياب هذا الكيان الذي دخل تحت الشعارات الكاذبة والفهم الخاطئ للديمقراطية الي مرحلة تحد حقيقي في مواجهة الإرهاب الذي كان إحدي الأدوات التي يهدد بها الإسلاميون وهم في الحكم, إلا أنه كشف عن وجهه الحقيقي بعد عزل مرسي باستهداف رمزية الدولة باستهداف جنودها بالقتل سواء في الشرطة أو الجيش بشكل يكاد يكون يوميا. ومن هنا فقضيتنا لهؤلاء الذين يثيرون الجدل حول الذي يحدث في مصر, أننا نعم نريد الديمقراطية والحرية والعدالة وكل هذه القيم التي لا يمكن تحقيقها إلا في ظل وجود الدولة ومؤسساتها. لمزيد من مقالات عزمي عاشور