الانقسام الحاد القائم الآن بين ما يسمي بتيار الإسلام السياسي والمتعاطفين معه, وبين تيار الليبراليين أو العلمانيين يمكن وصفه وتشخصيه علي أكثر من وجه. فمن الممكن تفسير هذا الانقسام باختلاف ظروف النشأة ونوع التربية, أو اختلاف نوع الثقافة التي يتعرض لها كل فريق, ومدي اتصاله بالثقافة الغربية, أو اختلاف المزاج, أو اختلاف الظروف الاقتصادية, بل وقد يري فيه البعض صورة من صور الصراع الطبقي.. الخ. قد يكون في كل من هذه التفسيرات جزء من الحقيقة, ولكن أريد الآن أن أضيف تشخيصا آخر, وهو النظر إلي هذا الانقسام علي أنه صراع بين فريق يؤكد علي ضرورة التمسك' بالهوية' وفريق يدعو إلي التزام' العقلانية'. يجب علي أولا أن أوضح ما أقصده بالهوية والعقلانية من الممكن أن نفهم' الهوية بمعني الصفات التي تميز شخصا عن غيره أو أمة عن غيرها, سواء تعلقت هذه الصفات بالعقيدة, أو المزاج والميول, أو التفصيلات المتعلقة بالفنون ووسائل التعبير عن النفس, أو أنماط السلوك الاجتماعي التي تميز العلاقات العائلية ومركز المرأة. الخ. أما' العقلانية' فأقصد بها: تحكيم العقل دون غيره في التمييز بين الصواب والخطأ, بين ما يجوز فعله أولا يجوز. وفي اختيار التنظيم السياسي والاجتماعي الأنسب, والسياسة الاقتصادية الواجبة الإتباع, دون التقيد بالأفكار الشائعة لمجرد أنها شائعة, أو بما جري العمل به لمجرد أنه المألوف, أو بأفكار وأقوال الزعماء والعظماء لمجرد أنهم محبوبون, أو بأفكار وأقوال السلف لمجرد أنه كان سلفا صالحا. دعنا نتفق علي أنه ليس هناك ثبات مطلق لا في الهوية ولا فيما يعتبر عقلانيا, فالهوية تتغير بالضرورة مع مرور الزمن واختلاف الظروف, لأن الناس مضطرون, شاءوا أم أبوا, إلي التفاعل( بدرجة كبيرة أو صغيرة) مع الظروف الجديدة, وأن يطوعوا سلوكهم بما يتفق معها, فيتغير نمط سلوكهم بتغير الظروف, بل وليس غريبا أن يختلف تفسيرهم لمبادئ عقيدتهم طبقا لتغير ظروف حياتهم, وإن بقيت العقيدة نفسها ثابتة. نعم, أن الهوية لا تتغير بسهولة, فهي بطيئة التغير بطبعها, وقد تمر مئات( وربما آلاف) السنين دون أن تتغير بعض جوانبها( فمثلا نلاحظ ثبات بعض عادات المصريين منذ الفراعنة) ولكن من الخطأ أن نتصور أن الهوية لا تتغير أبدا, أو أنها تستطيع مقاومة أثر مرور الزمن وتغير الظروف مهما كانت قوة هذه الظروف الحديثة, كالإتصال بالأمم الأخري أو الانعزال عنها, أو تغير الأحوال الاقتصادية إلي الأفضل أو الأسوأ, أو تغير التركيب الطبقي مع تغير الأحوال الاقتصادية أو نتيجة للاتصال بغيرها من الأمم.. الخ. نعم, لابد أن بعض الصفات المميزة للأمة سوف تقاوم تغير الظروف ولكن بعض الصفات الأخري لابد بالضرورة أن تنحسر أمام الظروف الجديدة. شئ مماثل يمكن أن نقوله عن' العقلانية' الإنسان منذ بداية تاريخه يحكم العقل بدرجة أو أخري في شئون حياته, والعقل يتقدم ويبني علي ما سبق أن أنجزه, إنجازات جديدة ولكن إلي جانب التقدم العقلي المستمر, يتغير أيضا نوع الأسئلة التي يطرحها الإنسان علي عقله باحثا عن إجابة عليها, كما تتغير هذه الأسئلة أيضا بتغير الظروف. قد تظل الإجابات القديمة صحيحة, ولكن أسئلة جديدة تفرض علي العقل ضرورة البحث عن إجابات جديدة ومن ثم فما تؤدي إليه' العقلانية' في زمن معين وظروف معينة, قد لا يكون هو نفسه' العقلاني' في زمن آخر وظروف أخري. دعنا نتفق أيضا علي أن هناك جاذبية واضحة ومزايا لاتنكر للتمسك بكلا الأمرين: الهوية والعقلانية. فمن الضعف أن يستهين المرء بمزايا الولاء من جانب أفراد أي أمة, لما يميز هذه الأمة عن غيرها, أي التمسك بهويتهم, وعدم التفكر للعقيدة السائدة أو الخروج علي ما ألفه الناس وأحبوه وأتفقوا عليه. إن التمسك بالهوية قد لا يكون ضروريا فقط لتجنب التوتر الاجتماعي بين أفراد الأمة الواحدة, بل قد يكون ضروريا للمحافظة علي الأمة واستمرارها. كذلك من الذي يستطيع أن ينكر مزايا تحكيم العقل وتغليبه علي الاعتقاد في الخزعبلات والخرافات فيما يعرض للأمة من مشكلات, وأن ينكر مزايا التجرؤ علي تحدي القديم والمألوف إذا تعارض هذا القديم مع مصالح الأمة ومطالب رقيها؟ احترام الهوية مطلوب إذن, وكذلك العقلانية. ولكن التعريفين اللذين قدمتهما لكل من الهوية والعقلانية جديران بأن يكشفا لنا احتمال الصدام. إن من صميم احترام الهوية التمسك بالمألوف, في حين أن العقلانية كثيرا ما تفرض, في الظروف الجديدة, الخروج علي هذا المألوف. التمسك بالهوية ينطوي علي احترام القديم, والعقلانية كثيرا ما تفرض التمرد علي هذا القديم. ما موقع فكرة' التقدم' أو' التخلف' من هذا التوتر الحتمي بين التمسك بالهوية والتمسك بالعقلانية؟ إن للتقدم تعريفات كثيرة, من بينها التوسع في تطبيق التفكير العقلاني علي أنماط السلوك والتنظيم الاجتماعي. الأمة تعتبر أكثر تقدما من غيرها, إذا كانت قد سبقت غيرها في تحكيم العقل في تنظيم شئونها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فتخضعها لتطورات العلم والتكنولوجيا, كي تتيح لأفرادها مستوي معيشة أفضل بجهد أقل. لابد أن يقترن هذا التقدم بتغير ما في' الهوية' إذ لابد أن تتخلي هذه الأمة عن بعض القديم لإفساح المجال لأساليب جديدة في أنماط الحياة والسلوك والتفكير. ولابد أن يكون لهذا التغير ثمن تدفعه الأمة يتمثل فيما يفرضه علي أصحاب الهوية من معاناة نتيجة التخلي عن بعض المألوف. والأرجح أن تكون هذه المعاناة أشد لدي بعض شرائح الأمة من غيرها. كل هذا يبدو لي وكأنه بديهي. ولكن من المهم الآن أن نلاحظ كم هي سعيدة الحظ تلك الأمم التي حققت التقدم الحضاري قبل غيرها, وكم هي سيئة الحظ تلك الأمم' المقلدة' التي تنقل عن غيرها نتائج( أو مظاهر) هذا التقدم, دون أن تبتعد عنها بنفسها. إن الأمم الرائدة في مضمار التقدم الحضاري تدفع ثمنا أقل بكثير في صورة التخلي عن المألوف, بينما تدفع الأمم المقلدة أو التابعة ثمنا فادحا يتمثل في التخلي المأساوي عن جانب بعد آخر من هويتها. تفسير ذلك أن التغير الذي يلحق بالهوية لدي الأمم الرائدة, يتم ببطء, وينتشر طوعا, بل أن الذي يقدم فكرة جديدة يقدمها عادة مصبوغة أو ملونة بهوية أمته, والذي يقوم بإنتاج سلعة جديدة, إنما يقدمها من وحي تراث أمته, ويعطيها اسما مستمدا من لغتها, ويروج لها بأساليب تتفق مع ميول هذه الأمة ومزاجها وطموحاتها. أما التقدم الذي تحرزه الأمم المقلدة والتابعة, فيجئ ومعه جزء من هوية أمم أخري, ويقترن باستخدام لغات أجنبية وغير مألوفة, وبعادات وأمزجة وطموحات الأمة التي ابتدعت مظاهر التقدم ابتداء. كما أن هذا التقدم المستعار يحدث عادة فجأة ويجري فرضه فرضا, ويتم بسرعة ودون رحمة, تحقيقا لأهداف غير نبيلة في الغالب, فلا تبالي الأمة التي تفرضه بحجم ما يحدثه هذا التقدم من معاناة, حتي ليحق للمرء أن يتساءل عما إذا كان هذا الذي يحدث يستحق وصف' التقدم' علي الإطلاق. إن الأمثلة التي يمكن تقديمها علي هذه المعاناة, التي تصيب الأمم التابعة في مضمار التقدم الحضاري, كثيرة ويصعب حصرها, ولكن لاشك عندي في أن الأمة العربية قد دفعت ولا تزال تدفع ثمنا باهظا لها, لأنها كانت ولا تزال من بين هذه الأمم التابعة في مضمار الحضارة الحديثة وليست رائدة فيها. بل وكثيرا ما يخطر لي أن معاناتنا الحالية في مصر, والتي تتخذ شكل الصراع الدائر الآن بين أنصار التمسك بالهوية وأنصار إعلاء شأن العقلانية هي مجرد حلقة في سلسلة طويلة من التضحيات التي بدأت منذ اتصالنا بالحضارة الغربية الحديثة. لمزيد من مقالات د. جلال أمين