تدهورت في أيام قلائل تلك العلاقة الوطيدة التي نمت في أعوام طوال بين مصر وتركيا, إذ سحب كل بلد سفيره لدي الآخر, مع تخفيض مستوي التمثيل الدبلوماسي إلي مرتبة القائم بالأعمال. غير أن هذه التطورات, وإن أتت سريعة فإنها كانت متوقعة علي خلفية التوتر الشديد بين البلدين منذ سقوط حكم الإخوان في الثلاثين من يونيو, والتحفظ التركي المعلن إزاء الحكومة الإنتقالية في مصر, حيث كان موقف رئيس الوزراء التركي مما يجري علي الساحة المصرية, هو الأعنف عالميا, سواء بإصراره علي توصيف ما جري ب( الإنقلاب), أو باستضافة بلاده لاجتماع التنظيم الدولي للإخوان لمناقشة كيفية الرد علي هذا الإنقلاب!. وما يجعل من محاولة فهم موقف هذا الرجل أمرا صعبا كونه من أكثر العالمين لحقيقة أن ما كانت جماعة الإخوان تسعي إلي إقامته في مصر إنما هو دولة مرشدية تشبه الدولة الإيرانية, تقوم جماعة الفقهاء فيها بمراقبة القوانين التشريعية بحكم المادة219 من الدستور المعطل, وتكون الشريعة فيها وليس الأمة, مصدرا للسلطات ولو علي سبيل إرضاء حلفائهم السلفيين, بقدر ما تبعد عن الدولة التركية ونموذجها المنفتح, تلك الدولة التي كان أردوغان نفسه قد اعتبرها علمانية, وإن كان هو نفسه حاكما مسلما لها, وهو التعبير الإصطلاحي الذي عرضه لهجوم الجماعة وأنصارها إبان زيارته لمصر رغم احتفائهم المبدئي به, الأمر الذي يثير أحد افتراضين أساسيين: إما أن أردوجان لا يفهم مغزي تجربته الذاتية أصلا. وإما أنه لم يدرك كنه التجربة الإخوانية في مصر, حيث التباين العميق بين العدالة والتنمية وبين الحرية والعدالة, سواء علي صعيد التكوين السياسي أو علي صعيد التمثل القيمي, والمشروعية التاريخية, فالنجاح في أداء دور ما ينبع من محوريته بأكثر مما ينبع من براعة من يمثله. ولعل المعضلة الوجودية لإخوان مصر تتمثل في افتقاد هذا الدور, فهم لا يملكون هامشا واضحا للتجديد والإضافة إلي البنية الثقافية السائدة, حيث ترسخت دولة مدنية, تتبني علمانية معتدلة توقر الإسلام وتحترم الأديان فعلا, وذلك علي النقيض من الحركة الإسلامية التركية التي واجهت علمانية أصولية نوعا, لم تكتفي بفصل الدين عن المجال العام, بل حاصرته في المجال الخاص نفسه, فكان لديها مشكلة يتوجب التصدي لها وسؤال تسعي للإجابة عنه. لقد قام الإسلاميون عموما والإخوان خصوصا, بهجاء جمال عبد الناصر باعتباره( أتاتورك مصر), عدو الإسلام, ولم يكن الرجل سوي مسلما عاديا, كرس لتدين منفتح هيمن علي الطبقة الوسطي المصرية التي اتسعت في عهده, لتصبغ بروحها الوطنية المصرية المعاصرة. كما كان نظاما السادات ومبارك أقرب إلي تركيا الأردوجانية منه إلي تركيا الكمالية علي الصعيد الإيديولوجي, وإن لم يكن علي صعيد الإنجاز السياسي الاقتصادي. وهكذا لم يكن للإحياء الإسلامي في مصر مبرر ثقافي تاريخي حقيقي, ولا يمكن فهمه إلا في سياق أزمة الحداثة وانسدادات السياسة, والارتدادات المتولدة عنهما. وهكذا تبدو تجربة الإخوان أقرب ثقافيا لتجربة الرفاه التي كانت قبل نحو العقدين, وليس إلي تجربة أردوجان الآن, ولو أمعن الرجل نظره لوجد أنه نموذجه الثقافي التوازني أقرب إلي مصر التي كانت قبل25 يناير, وربما بعد30 يونيو, ما كان يفرض عليه أن يكون أكثر المرحبين بما جري في الثالث من يوليو لو كان يرغب حقا في تأسيس علاقة استراتيجية تقوم علي قربي ثقافية مع مصر. أما هذا القدر من الرفض المتشنج لخريطة طريقها فلا يمكن فهمه إلا في ضوء مداخل ثلاث أساسية: المدخل الأول يتعلق بأزمته الداخلية الراهنة مع معارضيه خصوصا منذ أزمة ميدان تقسيم وخشيته من الإلهام المصري, ويرتبط بذلك أزمته النفسية العميقة تجاه النزعة الانقلابية للجيش التركي, وهي نزعة غير موجودة لدي الجيش المصري, الذي هب إنقاذا للدولة المصرية من التحلل, لا إنقاذا لايديولوجيا معينة من الفشل كالجيش التركي, فإذا كان الأخير قد حضر مرارا لرعاية العلمانية الأتاتوركية, فإن الأول قد استحضر دوما لرعاية الوطنية المصرية, والفارق هنا حاسم وكبير, ومن ثم يبدو الموقف التركي الراهن من مصر أقرب إلي موقف حزب منه إلي موقف دولة, وكذلك موقف شخص له تركيبته النفسية الخاصة به. والمدخل الثاني يتعلق بتوجهاته المستقبلية, إذ ربما كان الرجل بصدد عملية تحول من الدولة العلمانية التي حكمها, إلي دولة أخري أقل علمانية, يمكن وصفها ب( الإسلامية), ونسبة الحزب الحاكم فيها إلي نمط من( الإخوانية), وإدراجه في سياق الإسلام السياسي. وهو أمر يبدو من الصعب تخيله لأن البيئة السياسية التي يعمل فيها الرجل لن تسمح له بذلك, فهو لم ينجح إلا بالوصول إلي نقطة التوازن الحرج بين التيارين العلماني والإسلامي, وما إن يتجاوز هذا الحد إلا وكان سقوطه مرجحا, وهو الموقف الذي يخشاه منذ أزمة تقسيم, التي كشفت عن احتقان مكتوم لدي العلمانين, ولابد أن الرجل علي قدر من الذكاء يسمح له باستيعاب تلك الحقيقة. والمدخل الثالث يتعلق بطموحات تركيا في الإقليم, إذ ربما كان الرجل سعيدا بدخول مصر إلي نفق الإسلام السياسي, لتبقي عضوا نشيطا في تحالفاته, وتابعا حقيقيا لتوجهاته, أي أنه أراد أن يدير( ضعف مصر) علي الطريقة الأمريكية مثلا, بدلا من الإستثمار في قوتها كحليف استراتيجي لها, وشريك حضاري لشعبها. غير أن هذا الفهم نفسه يبدو قاصرا سواء لأن مصر, تحت الحكم الإخواني, كانت تسير في اتجاه تفجير نفسها باحتضان شبكات إرهاب كانت الدولة المرشدية نفسها سوف تضطر ولو بعد وقت لمواجهتها ما كان سيجعل من مصر عبئا كبيرا عليها. أو لأنها كانت تسير باتجاه يناقض عمقها العربي ومجالها الحيوي خصوصا في الخليج, وهو اتجاه لا يمكن أن تسير فيه مصر طويلا لاعتبارات ثقافية وانسانية مركبة إلي حد التعقيد, كما أنه لا يخدم المصالح التركية نفسها علي المدي البعيد, والتي تعتبر القاهرة مدخلا إلي العالم العربي, علي نحو يجعل من ضعفها خصما من قيمتها الإستراتيجية, حتي لتركيا نفسها, الأمر الذي يكشف عن قصر نظر استراتيجي كبير لدي أردوجان وحزبه ونخبة حكمه الحالية. لمزيد من مقالات صلاح سالم