شتان بين الأمس والحاضر, فمنذ سنوات إقتربت من العقد ونصف, هاج البرلمان التركي, الذي بدا وكأنه استيقظ علي مصاب جلل, ففي قلب قاعته الرئيسية, حدث هرج ومرج عارمان, تزعمه أعضاء حزب الفضيلة آنذاك, ورغم أنهم كانوا قلة, إلا إنهم تحدوا التعليمات, وصاحوا مغتبطين مهللين يصفقون بحرارة بالغة, ويلوحون بعلامات النصر ترحيبا بزميلة لهم كسرت التابو وأخذت مقعدا لها وهي محجبة. في المقابل أصيب غالبية النواب, بالوجوم والغيظ, بيد أنه خرجت من أفواههم جملا زاعقة وعبارات ساخطة, ومن شرفات الضيوف هب الجنرالات أصحاب البيزات والنياشين جميعا, من مقاعدهم التي طالما تزينت بهم, تاركين المكان برمته في سابقة هي الأولي في عمر جمهوريتهم العتيدة, التي أقسموا بحماية مبادئها, وفي البؤرة منها فصل الدين عن الدولة, متوعدين بدحر السهام الغادرة التي أرادت النيل من الدولة الكمالية نسبة إلي مؤسسها كمال أتاتورك, وقد كان لهم ما أرادوا. وعلي عجل, كتب رئيس الحكومة آنذاك الراحل بولنت إجيفيت بعض سطور نارية جعلته يخلع رداء الهدوء والسكينة اللذين تميز بهما معتليا المنصة شاجبا سلوك النائبة مروة كواكجي التي دخلت القاعة مرتدية غطاء الراس غير عابئة بالقانون والقواعد المستقرة في هذا الشأن, وتم إسقاط عضويتها عنها ليس ذلك فحسب, بل حرمانها من المواطنة, أما الحزب الذي تنتمي إليه فكان مصيره الإغلاق. والآن, دخلت نائبات أربع, صحن المجلس الوطني الكبير, وقد ارتدين التوربان أو ما وصفونه ب تاج المرأة, فقد قررن بعد عودتهن من الحج, تزيين رءوسهن بالحجاب, ودون زعيق جارح أو صخب, ونقيضا للماضي كانت التهئنة الحارة من نصيبهن والتي لم تقتصر علي زميلاتهن وزملائهم في العدالة والتنمية الحاكم, بل من بقية النواب, حتي حزب الشعب الجمهوري المعارض ورغم اعتراضه علي مبدأ تغيير قانون القيافة, فإنه قال عنهن إنهن أخواتنا كما أن النساء اللاتي لا يرتدين الحجاب أيضا أخواتنا أما الحركة القومية اليميني المحافظ ومعه السلام والديمقراطية الكردي في الاصل كانا مؤيدين للخطوة المباركة. ورغم كل هذه المظاهر فإنها لم تستطع أن تبدد غصة في حلوق آخرين النساء منهم قبل الرجال, فتبا, هكذا احتجت برلمانية, رافضة مسايرة معزوفة التملق والمزايدة علي المشاعر الدينية, ومضت موجهة حديثها للفرحين بغطاء الرأس لقد إختزلتم قضايانا في قطعة من القماش المزركش, فأين كنتم من قمع الشرطة لمتظاهرات تقسيم' في إشارة إلي موجة الإحتجاجات التي إندلعت مطلع يونيو الماضي في إسطنبول ومعظم مدن الأناضول رفضا لسياسات رجب طيب اردوغان. والشارع المهموم بجملة من القضايا الحيايتة كان فيه من أبدي امتعاضه, فوفقا لادبيات سيارة, فالحاصل لن يكون سوي بداية لطريق حتما سينتهي ليشمل الموظفات في الجيش والشرطة والقضاء اللاتي إستثنين مؤقتا من قرار السماح بالحجاب, إضافة إلي' جملة من الخطوات المستقبلية التي من شأنها تهديد أسس العلمانية'. إعلام الخارج مرئي ومقروء, بدوره حرص علي رصد تداعيات ما تموج به هضبة الاناضول من تغييرات تعيد هيكلة ما كان يعتقد بأنه من الثوابت, ولعل أفضل توصيف للحال التي تعيشها تركيا اليوم جاء علي لسان المتخصصة في العلوم السياسية آسيا باراك عندما أكدت إن' بلادها تمر بأزمة هوية بين العلمانية والعودة إلي الجذور الإسلامية, وبالتالي, فإنها تناضل علي جبهتين متقابلتين من دون أن يكون هناك مستقبل واضح, الأمر الذي يقلق مختلف فئات المجتمع' محذرة من أن أن تصل الأمور بين أردوغان الذي يضع موضوع الحجاب ضمن إطار الإصلاحات الديمقراطية, والعلمانيين الذين يجدون أن مبادئهم تنتهك بفعل القرارات التي يتخذها رئيس الوزراء, إلي مستوي جديد من المواجهة, ما يهدد الدولة بأكملها, ومن ثم فالاشكال المركزي المطروح الآن: هل يمكن العلمانيين أن يبقوا اعتراضهم سلميا بعدما سلب منهم النشيد الوطني الذي كان ينشده الطلاب يوميا, ويذكر فيه أتاتورك والطريق الذي رسمه لدولتهم. ولم يكن الأمر مصادفة, فالمؤسسة العسكرية التي قاومت كثيرا النزوع الديني والإتجاهات التي كانت تصفها بالارتجاعية أي الرجعية تبدو في اللحظة الراهنة, وكأنها تعيش الخريف فقد سلب منها الكثير, وأمام محاولات تجريفها شهدت ومازالت موجات من الاستقالات بين صفوف ضباطها, بالتزامن مع مخاوف متزايدة حيال الاتجاهات الاستبدادية لاردوغان ورغم تمتع الأخير وحزبه بشعبية لا يستهان بها, غير أن شرائح مهمة علمانيون وشباب, بات يحدوهم شكوك في ما يعتبرونه أجندة للتدين وتشكيل المجتمع التركي بحسب العقائد التي لا يشتركون فيها, ف حزب العدالة والتنمية أبقي علي ورقة الحجاب مدة11 عاما من دون أن يقوم بشيء حيالها, ولكن اليوم عندما لم تبق لديه أي أوراق رابحة أراد أن يستغلها في الانتخابات المحلية التي ستجري مارس القادم.