علمانية تركيا ومخاطر إقصاء الآخر د. حسن أبوطالب أثناء انعقاد مؤتمر الحوار المصري التركي الاول بالقاهرة في فبراير2007, بين مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ومنتدي ابانت التركي, وبينما كان في القاعة اكثر من350 مشاركا من المصريين والأتراك, وقفت متحدثة تركية تعبر عن إعجابها بالتطور الديموقراطي في بلادها, وكيف ان هذه الديموقراطية التركية لا تستقيم دون علمانية صريحة تقصي الدين تماما عن كل شئون الدولة والمجتمع وتلتزم بكل دقة تعاليم الاب المؤسس كمال اتاتورك. وكانت المفارقة ان متحدثة تركية أخري من بين الحضور طلبت الكلمة للتعقيب الفوري علي حديث زميلتها بنت بلدها, فقالت في كلمات حماسية أن الديموقراطية في بلادها عرجاء, ولا تصلح ان توصف بالديموقراطية أصلا, لأن ما يحدث في تركيا قائم أساسا علي التمييز بين ابناء المجتمع التركي, واشارت إلي نفسها وعدد من زميلاتها اللائي يغطين رؤوسهن بما نعرفه نحن في مصر بالايشارب او غطاء الرأس الخفيف, وقالت هؤلاء ممنوعات بحكم الديموقراطية التركية من استكمال دراستهن داخل بلدهن, وأضطررن للقدوم إلي مصر التي فتحت لهن ابواب الجامعات والكليات العليا ولم تكترث لحجابهن او لملابسهن. فالديموقراطية الحقيقية هي التي لا تمنع احدا من استكمال دراسته متي شاء, ولا تضع قيودا علي طريقة لبس الافراد, ولا تفرق بين طالبة تريد ان تغطي شعرها وأخري تترفع عن ذلك. فهذه ليست ديمقراطية, بل تمييز فج وعلمانية زائفة تصادر حقوق الأفراد. وعند هذه النقطة صفق الحاضرون في القاعة تقديرا لمعاناة هؤلاء الفتيات التركيات الباحثات عن العلم في بلاد خارجية, حيث تعذر عليهن العلم في ربوع بلادهن نتيجة تطبيق اقصائي مفرط لمعني العلمانية. هذه الواقعة التي جرت علي أرض مصر قبل أكثر من عام تلخص إلي حد كبير الحوار الدائر في تركيا الآن حول التعديل الدستوري الذي أقره البرلمان في التاسع من فبراير الماضي وسمح بدخول الفتيات اللاتي يغطين رؤسهن بالحجاب الخفيف الجامعات التركية. وهو التعديل الذي يعارضه العلمانيون ويرون فيه تدميرا لأسس العلمانية في تركيا التي أسسها كمال اتاتورك ويصونها الدستور. كما تلخص الواقعة ايضا طبيعة منطق كل طرف في مواجهة الآخر. فمن يسمون أنفسهم بالعلمانيين' الأتاتوركيين' يرون الأمر من زاوية اقصاء الآخر ونفيه تماما, وليس الدفاع عن حقه في الوجود وفي ممارسة معتقداته بحرية كما تقر ذلك الديموقراطيات الكلاسيكية ذائعة الصيت. وفي منطق التجربة التركية الراهن فإن الآخر المعني هنا هم الاسلاميون بالمقاييس التركية, أي حزب العدالة والتنمية الذي حقق من الاصلاحات والتغييرات القانونية والاجتماعية ما عجزت عنه كل الاحزاب العلمانية التركية في الثلاثين عاما الماضية. فهؤلاء الاتاتوركيون يرون العلمانية بمثابة مقدس يضعون هم التفسير الوحيد له وبما لا يجوز تغييره أو تطويره. ولا يهم هنا اسس الديموقراطية نفسها التي تعترف بقيادة الاكثرية وبحقها في ان تطبق مفاهيمها طالما حصلت علي تأييد المجتمع دون تزوير او غش. وفي المقابل بحق الاقلية في الوجود وبالسعي السلمي المنهجي للعودة إلي السلطة, لكن دون ان تفرض رأيها علي الاغلبية بطرق ملتوية وغير ديموقراطية. وعلي الجانب الاخر هناك معسكر حزب العدالة والتنمية والذين يرون أنفسهم صيغة أخري من العلمانية, ولكنها ليست إقصائية, ومن ثم فهي تعمل علي تجسيد الحريات والحقوق الشخصية, وتنظر إلي الملبس بما في ذلك وضع غطاء علي الرأس بمثابة حرية شخصية أصيلة لا تتعارض مع أسس الدولة العلمانية و لا تعني أسلمة للمجتمع كما يروج' الاتاتوركيون' أنفسهم. ذلك أن المجتمع التركي مجتمع مسلم بطبيعته, فكيف تتم أسلمته؟ مثل هذا الحوار العام لم يتوقف طوال الأعوام الثلاثة الماضية, ويبدو أنه مرشح للاستمرار لأعوام أخري مديدة ما دام هناك في النخبة التركية من لا يعترف بطبيعة الديموقراطية وما تتيحه من حقوق للاغلبية. مثل هؤلاء المنتشرون في القضاء والجامعات وفي الجيش التركي وفي الاعلام يعدون مسئولين عن تلك الهزة التي ستشهدها تركيا طوال عام مقبل, نتيجة قرار مدعي عام محكمة التمييز قبل أربعة أيام الطلب من المحكمة الدستورية حظر حزب العدالة والتنمية باعتباره يطبق خطة اسلامية تناهض علمانية الدولة, ومنع قيادييه من ممارسة العمل السياسي لمدة خمس سنوات بما في ذلك رئيس الدولة ورئيس الوزراء و69 من الشخصيات القيادية الأخري في الحزب. واقع الأمر, فإن خطوة المدعي العام التركي تثير قضايا عديدة وإشكاليات سياسية وقانونية شديدة التعقيد والغرابة في آن واحد. فمن ناحية فإن اللجوء إلي القضاء لحسم مسائل سياسية يعد خيار الضعفاء لا سيما إذا كان المطلوب هو محو حزب من الخريطة السياسية يتمتع بأغلبية كبيرة تقترب من نصف عدد المجتمع وحصل عليها دون تزوير او تدليس, وانما بإرادة شعبية حرة نتيجة قناعات ومصالح عريضة تشكلت بين الناس من جهة والحزب من جهة اخري. وإذا ما تصورنا إصدار حكم قضائي بحل حزب يتمتع بشعبية تقارب نصف المجتمع, فأين يذهب هؤلاء ومن يمثلهم ويدافع عن حقوقهم وقناعاتهم؟, وهل سيكون عليهم الصبر والصمت وهم يرون حزبهم وقد حظر دون وجه حق؟ فبعض التأمل يصل إلي نتيجة أن مسألة حظر الحزب لن تمر بسهولة, وإن مرت فسوف تكون خسائرها السياسية والاقتصادية أكبر مما يتصوره أحد. والحق أن الخسارة حدثت فعلا بمجرد الاقدام علي هذه الخطوة غير المحسوبة. ومن جانب ثان فرغم أن حسم هذه القضية يتطلب ما يقرب من عام كامل, وسوف يشهد دفاع حزب العدالة والتنمية عن نفسه في مواجهة الاتهام بكونه إسلاميا متخفيا في لباس علماني خادع, كما سيقدم علي احداث تغييرات في الدستور عبر البرلمان تقيد صلاحيات المدعي العام وتحظر الغاء الاحزاب مستقبلا, فإن هناك ضررا معنويا كبيرا لحق بالتجربة الديموقراطية التركية. لان طلب المدعي العام اثبت ان مؤسسة القضاء في تركيا لا تعترف بالحقائق السياسية الموجودة في الشارع وفي ثنايا المجتمع, بل تعمد إلي قولبة المجتمع والسياسة والاحزاب في نمط معين تراه الاحق بالحياة وبالوجود. وهنا تبدو مسألة الفصل بين السلطات, والتي هي جوهر نجاح النظم الديموقراطية, لم يعد لها وجود, فالقضاء يريد أن يهيمن علي الحياة السياسية وفقا لقناعات قضاته الكبار والذين يعتبرون انفسهم حماة العلمانية بلا منازع, وبما يعني ان القضاء التركي هو ضد الفصل بين السلطات, الذي يعد مبدأ اصيلا للنظم الديموقراطية. ومن جانب ثالث فإن قضية حظر حزب العدالة والتنمية لمجرد إقراره عبر الاغلبية البرلمانية الصحيحة تعديلا دستوريا يبيح تعلم الفتيات اللاتي يرتدين غطاء للرأس في الجامعات دون اي قيد, يعني أن الصراع الحقيقي ليس بين العلمانيين والإسلاميين, بقدر ما هو بين هؤلاء العلمانيين الاتاتوركيين دعاة التمييز والعنصرية السياسية وبين المجتمع التركي نفسه علي اختلاف ما فيه من مشارب سياسية. والثابت هنا أن الفتيات اللاتي تركن التعليم الجامعي بسب إصرارهن علي ارتداء غطاء الرأس لا يمثلن نسبة كبيرة من عدد الفتيات اللاتي أكملن تعليمهن الجامعي, وإذا ما قدر لهن دخول الجامعات التركية فلن يشكلن نسبة كبيرة, حيث يقدرها البعض في حدها الأدني1.5%, وفي حدها الاقصي5% من اجمالي عدد الطالبات الجامعيات. وهي نسبة لا تزيد عن كونها رمزية, وليس من شأنها ان تخرب هيكل الدولة العلماني أو تقوض أسس الجمهورية كما يدعي العلمانيون ذوو النزعة الاقصائية. عن صحيفة الاهرام المصرية 19/3/2008