اتصل بي هاتفيا أحد أصدقاء الطفولة, أو قل أحد أصدقاء الزمن الجميل, وقد أحسست أن صوته يبدو مهموما واهنا فسألته إن كان قد ألم به مكروه فأجاب بالنفي واستطرد قائلا: لقد تقاعدت منذ عدة شهور وكنت أحسب أن الحياة كما يقولون تبدأ بعد الستين.. إلا أنني.. والكلام لايزال علي لسان صديقي.. أحسست بأنني كنت واهما وتذكرت رائعة شاعرنا الرومانسي الجميل علي محمود طه الجندول حينما يتغني بها عبد الوهاب فيقول: أنا من ضيع في الأوهام عمره/ نسي التاريح أو أنسي ذكره.. قلت له لم كل هذا الشجن وتلك الأوهام وقد عهدتك متفائلا وكيف لا وأنت عاشق للفن محب للحياة, وبالمناسبة فقد كنا نلتقي أنا وصديقي هذا دائما علي طريق الأدب والفن فهو فنان تشكيلي. كثيرا ما كان يعبر عن مشاعره بريشته الرقيقة كما كنت أعبر عنها بقصائدي المتدفقة وكنا نتبادل اللوحات والقصائد والأفكار ونحن لم نزل في أوج صبانا وفي عنفوان شبابنا.. وعود علي بدء رحت أحاصره مرة أخري بأسئلتي علي أقف علي ما ألم به محاولا مساعدته. كان مشحونا بالأسي والغضب وهو يقول تصور أني أنهيت رحلتي العملية بتلك المؤسسة الحكومية الكبيرة ووصلت إلي أعلي الدرجات وقد تخلل هذه الرحلة شيء ليس قليلا من العناء والشقاء والمنافسة والجد والاجتهاد حتي تمت بنجاح بعد أعوام طوال من العطاء المتواصل, وحينما تهيأت لحصد بعض ثمار هذا الكفاح, لأعاود من جديد الجد والاجتهاد مع بداية رحلة جديدة, وجدتني أتقاضي مبلغا شهريا زهيدا لا يرضي به أحد أبنائي مصروفا له. إن ثورة52 يناير قامت علي أكتاف مجموعة من الشباب الواعد من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة, وآه من تلك العدالة التي لا أدري كيف يمكن أن تتحقق بهذه الوسيلة إن هؤلاء الشباب هم أبناء وأحفاد هذه الأجيال التي عانت كثيرا ونقشت بأظافرها الصخر حتي توفر لهم حياة كريمة, بل وقامت بغرس القيم والمبادئ النبيلة في نفوس هؤلاء الأبناء والأحفاد حتي تعلموا كيف يقومون الفساد ويثورون في وجه سلطان جائر وهم لا يزالون دون العشرين أو يتجاوزونها بأعوام قليلة, لقد انتهت تلك المكالمة بين صديقي وبيني وإن كان صداها لا يزال يؤرقني ويؤلمني.. تري كم عدد هؤلاء الذين يعانون مثلما يعاني هذا الصديق ومثلما سوف نعاني غدا؟ مئات الآلاف.. ربما أكثر ليس لدي إحصاء دقيق لأعداد هذه الشريحة المغلوبة علي أمرها والتي أدت دورها في الحياة علي أكمل وجه ومازالت تجابه وتقاوم وتصد تلك النوات المتتابعة من الغلاء القاهر. إن هذا الموضوع لا يمكن أن يندرج تحت بند( المطالب الفئوية).. فأرجو أن يكون هناك مسئول واحد منصف يجيبني بصدق عن هذا التساؤل: كيف يعيش مواطن كان يتقاضي بالأمس القريب عدة آلاف من الجنيهات ثم أمسي وأصبح ليجد نفسه يحصل علي سدس أو سبع هذا المبلغ في الوقت الذي قد يحتاج إلي مضاعفته, بسبب تكاليف العلاج التي تزداد يوما بعد يوم ونفقات الأبناء الذين لا يستطيعون( بنين وبنات) أن يزوجوا أنفسهم في هذا الزمن البخيل أو يحصلوا علي مسكن شبه مناسب.. إلخ أما فيما يتصل بهذا القصور والتقصير نحو تكريم هذه الفئة فإنني أتوجه بحديثي أو بهذه الرسالة إلي حكومة الدكتور كمال الجنزوري مع بدء توليها مسئولية إنقاذ هذه الأمة لماذا لم يحدد علي الأقل الحد الأقصي للأجور حتي الآن وهو المطلب الذي نادي به هؤلاء الشباب ومن خرج معهم لنصرتهم ومن أيدهم دون أن يخرج؟ أليس من قبيل الاستفزاز أن نسمع عن أرقام تتجاوز عدد الستة الأصفار مازالت تمنح لبعض موظفي الدولة برغم أنهم لا يقومون بإنشاء المفاعل الذري( علي سبيل المثال) أسوة بدول أخري كثيرة بالمنطقة. كما لم يساهموا في إيجاد الحلول الناجحة لمشاكل المجتمع المصري المتراكمة منذ سنوات بعيدة. إن هذه الفئة العمرية لا شك أن بها الكثير من المبدعين والموهوبين وأصحاب الخبرات النادرة في المجالات كافة, وإلا لما تم اختيار هذا العدد من الوزراء بالوزارات المتعاقبة وقد تخطي بعضهم السبعين وليس الستين عاما.