وأما الرجل فهو فقيه القرن السابع الهجري الكبير نجم الدين الطوفي الحنبلي; الذي تروي عنه المصادر أن ميلاده كان بالعراق. وأنه قد سكن الشام ومصر, ومات بفلسطين( وبما يعنيه ذلك من أن تفكيره الفقهي قد تحدد بالشروط المنفتحة التي عرفتها مراكز الحضارة الكبري في عالم الإسلام), وأنه أقبل علي قراءة الحديث, وشرح الأربعين للنووي, واختصر الترمذي وروضة الموفق علي طريقة ابن الحاجب, وكتب علي المقامات شرحا, وشرح مختصر التبريزي في الفقه علي مذهب الشافعي( وبما يعنيه ذلك من تضلعه في الحديث والفقه والأصول واللغة; وعلي النحو الذي يستحيل معه اتهام الرجل في علمه). وأما تفكير الرجل, الذي لا يمكن تصور إلا أن يكون موضوعا لتكفير الجهال فيما لو نطق به أحدهم الآن, فإنه يدور حول مركزية المصلحة في بناء ما يتعلق بفقه المعاملات الإنسانية( في مجالاتها السياسية والاجتماعية والإدارية والقضائية وغيرها); وإلي الحد الذي يقوم فيه, ليس فقط بإخراج كل ما يتعلق بهذه المعاملات من مجال النصوص, بل وكذا تقديم المصلحة علي النص في حال تعارضهما. وهكذا فإنه ينطلق من التمييز بين ما يسميه العبادات والمقدرات التي يكون التعويل فيها علي النصوص والإجماع وبين المعاملات والعادات التي تقوم علي مبدأ رعاية المصلحة بالأساس. وإذ يجعل من هذا المبدأ الأصل الذي تقوم عليه تلك المعاملات, فإنه يقطع بوجوب تقديم رعاية المصلحة علي النص والإجماع في حال تعلقهما بالمعاملات. وهو يقيم حجته علي أنه إن وافقها النص والإجماع وغيرها من أدلة الشرع, فلا كلام, وإن خالفها دليل شرعي وفق بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه( أي النص والإجماع), وتقديمها( أي المصلحة) بطريق البيان. ويؤسس الرجل هذا التقديم للمصلحة علي النص علي الأولوية شبه المطلقة للمصلحة التي تجعلها تعلو علي النص والإجماع. فإنه مما يدل علي تقديم رعاية المصلحة علي النصوص والإجماع علي الوجه الذي ذكرناه وجوه:( أحدها) أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصالح, فهي إذن محل وفاق. والإجماع محل الخلاف, والتمسك بما اتفقوا عليه أولي من التمسك بما اختلفوا فيه و(الوجه الثاني) أن النصوص مختلفة متعارضة, فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعا, ورعاية المصلحة أمر متفق( عليه) في نفسه, لا يختلف فيه, فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعا, فكان اتباعه أولي, وقد قال الله عز وجل: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا. وهكذا يبلغ الأمر بالطوفي إلي حد قراءة المصلحة علي أنها حبل الله الذي يلزم الاعتصام به. وإذ يدرك الطوفي أن ثمة من قد يعترض علي طريقته في التفكير, فإنه يورد الحجة التي يمكن الاعتراض بها عليه, ليرد عليها. وتتلخص حجة الخصم في أن هذه الطريقة التي سلكها الطوفي في رعاية المصلحة, إما أن تكون خطأ, فلا يلتفت أحد إليها, أو تكون صوابا. وفي حال كونها صوابا, فإما أن ينحصر الصواب أو الحق فيها, أو لا ينحصر. فإن انحصر الصواب فيها, لزم أن الأمة من أول الإسلام إلي حين ظهور هذه الطريقة علي خطأ; إذ لم يقل بها أحد منهم( قبل الطوفي). وإن لم ينحصر فهي( مجرد) طريقة جائزة من الطرق. وفي هذه الحالة فإن طريق الأئمة التي اتفقت الأمة علي اتباعها يكون أولي بالمتابعة, لقوله عليه السلام: اتبعوا السواد الأعظم, فإن من شذ شذ في النار. ويلخص الطوفي رده علي هذه الدعوي في القول بأن طريقته في رعاية المصلحة ليست خطأ لما ذكرنا عليها من البرهان, ولا الصواب منحصر فيها قطعا, بل ظن واجتهاد. وذلك يوجب المصير إليها, والأخذ بها. حيث الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها. وإذا قيل بأن صحة طريقة رعاية المصلحة تحيل إلي فساد طرق الأئمة السابقة عليها, فإن الطوفي يرد بأن ذلك يعني أن لا يقول أي أحد بقول أو طريقة جديدة لكي لا يكون الخطأ من نصيب كل ما قيل قبله. ويصل أخيرا إلي القول بأن السواد الأعظم الواجب اتباعه هو الحجة والدليل الواضح, وإلا لزم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم; لأن العامة أكثر, وهو السواد الأعظم; وبما يعنيه ذلك من تقديم حجة العقل علي حجة الجمهور والإجماع التي تمثل مركز الثقل في الثقافة السائدة في الإسلام. ولعل ذلك يتفق مع ما يؤكده الطوفي من أن العقل هو الوجه الذي تتقرر منه المصالح في معاملات الناس. ومن هنا ما يقرره من إنا اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها, دون العبادات وشبهها, لأن العبادات حق للشارع( الله) خاص به, ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا, وزمانا ومكانا, إلا إذا امتثل( العبد) ما رسم له الله, وفعل ما يعلم أنه يرضيه. وبالطبع فإن ذلك يعني أن كل ما يتعلق بمعاملات الناس, من قواعد الضبط السياسي والاجتماعي, هي مما يتقرر بالعقل بحسب دواعي المصلحة; وليست مما يتقرر بالنص- أو حتي الإجماع- أبدا. بل إنه, وحتي علي فرض أن يكون للنص مدخل في تقرير تلك القواعد, فإن العقل يظل حاضرا من خلال ما يلعبه من دور جوهري في توجيه دلالة النص; أو حتي تعطيله. وبالطبع فإن للمرء أن يتصور أنه لو عاد فقيه القرن السابع الحنبلي إلي الدعوة لطريقته في هذا الزمان, فإن مصيره لن يختلف أبدا عن مصير المسيح الذي بعثه ديستوفسكي ليبشر بموعظته فيإسبانيا علي عهد محاكم التفتيش, فقام كهنة كنيستها بصلبه من جديد, لأن رسالة الحب التي يكرز بها تتعارض مع ما لا يعرفون سواه من الكراهية والتعصب. لمزيد من مقالات د.على مبروك