بعد عامين ونصف تقريبا, من الصمت الأمريكي المريب تجاه ما يحدث في سوريا, تقرر واشنطن فجأة, بأسباب معلنة وأخري مضمرة, أن تهرول لدك سوريا علي رأس اهلها, لتصبح عراق جديدة, تدعي أنها تهب لنصرة الشعب السوري, كونها لا تستطيع أن تقف صامتة أمام استخدام نظام بشار المزعوم للأسلحة الكيميائية. وكالعادة ينتفض قلب واشنطن الحنون, صاحبة امتياز حق استخدام المعايير المزدوجة بلا خجل, أمام استخدام الغازات الكيميائية ضد المدنيين السوريين, وتتجاهل انها منذ نحو ثلاثة عقود, ساعدت ويسرت للرئيس العراقي, صدام حسين استخدام أسلحة تفوقها ضد الإيرانيين, عندما شعرت أن نتيجية الحرب الضروس بين الجانبين لا تسير وفق رغباتها. لقد أدركت واشنطن مبكرا أن صدام حسين كان يشن واحدة من أشرس الهجمات الكيميائية في التاريخ, أثناء حربه الطويلة مع ايران, ولكنها مع هذا ظلت تقدم له يد العون, ويتضح اليوم وهي تعد لهجوم عسكري وشيك علي سوريا, أنها ربما نسيت أو تناست ما سبق أن كانت علي يقين منه قبل نحو ثلاثة عقود, عندما كان البنتاجون والاستخبارات الأمريكية يعلمان تماما استخدام صدام لغاز الأعصاب السارين الأكثر تدميرا من الأسلحة التي يعتقد أن دمشق قد استخدمتها, ولكنها مع هذا لم تفعل أي شيء لوقف هذه الهجمات, ويبدو أيضا أن هذه الحقيقة, قد تم تجاهلها تماما من قبل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري, الذي ظل يردد بكل حماس ان الضربة التي ستوجه الي سوريا, هي من أجل ردع أي من تسول له نفسه استخدام الأسلحة الكيميائية... مستقبلا. لقد نفي المسئولون الأمريكيون لسنوات طويلة أنهم كانوا علي علم باستخدام صدام لمثل هذه الأسلحة, لكن العقيد المتقاعد من القوات الجوية الأمريكية, ريك فرانكونا, والذي كان ملحقا عسكريا في بغداد خلال هجمات1988, يعطي سردا مختلفا تماما للأحداث, وذلك وفق تقرير حصري مثير للجدل, نشرته مجلة فورن بوليسي الامريكية. يقول الرجل ببساطة لم يخبرنا العراقيون وقتها أبدا أنهم يعتزمون استخدام غاز الأعصاب ضد إيران, الواقع أنهم لم يحتاجوا لإخبارنا, فقد كنا نعلم بالفعل. ووفقا لوثائق, رفع عنها السرية مؤخرا, من وكالة الاستخبارات الأمريكية, فلقد كان لدي الولاياتالمتحدة أدلة دامغة علي هجمات العراق الكيميائية بدءا من عام.1983 لكن علي النقيض مما نراه من حماس هستيري من الإدارة الأمريكية اليوم, للتدخل العسكري في سوريا بسبب الهجمات الكيميائية المزعومة, فقد تعاملت الولاياتالمتحدة ببرود شديد ووفق حساباتها الخاصة منذ نحو ثلاثين عاما, حيال علمها باستخدام جيش صدام وعلي نطاق واسع الأسلحة الكيميائية ضد أعدائه الايرانيين, وضد شعبه, وقتها قررت إدارة ريجان انه من الأفضل أن تترك الهجمات تتواصل لانها ستغير مجري الحرب. في ذلك الوقت كانت إيران, تحاول جاهدة جمع أي أدلة تشير إلي الهجمات الكيميائية العراقية عليها, بهدف تقديمها إلي الأممالمتحدة, لكنها لم تصل ابدا الي هذه الادلة, التي كانت تملكها وقتها, وفق الوثائق المفرج عنها حديثا, واشنطن, حيث تكشف تلك الوثائق عمق معرفة الولاياتالمتحدة بكيفية وتوقيت استخدام الجيش العراقي لهذه الأسلحة, بل وتكشف أيضا عن أن المسئولين الأمريكيين كانوا يتابعون وبانتظام نطاق الهجمات بغاز الاعصاب, فيما يعد اعترافا امريكيا رسميا بالتواطؤ علي أبشع هجمات بالأسلحة الكيميائية استخدمت في التاريخ الحديث. وفقا للوثائق فقد تم إخبار كبار المسئولين في وكالة الاستخبارات الأمريكية, وعلي رأسهم مدير الاستخبارات المركزية, وليام كيسي, الذي كان صديقا مقربا من الرئيس رونالد ريغان, عن مكان وجود محطات الأسلحة الكيميائية العراقية, كما علم بأن العراق تحاول يائسة تأمين ما يكفي من غاز الخردل, بصفقة مع إيطاليا من اجل التسريع بإنتاج قذائف وقنابل معبأة بعناصر كيميائية, لتستخدمها ضد القوات الايرانية وضد مدنيين. وفي مارس1984, أفادت وكالة الاستخبارات المركزية أن العراق بدأت استخدام غاز الأعصاب في قاعدة البصرة ومن المرجح ان توظفه في هجمات كبري في أواخر خريف هذا العام. كان قد تم حظر استخدام الأسلحة الكيميائية في الحروب بموجب بروتوكول جنيف لعام1925, والذي لم توقع عليه العراق, في حين وقعت عليه الولاياتالمتحدة عام1975, وهو يلزمها بالاعتراف ايضا بامتلاك اي ادلة تدين استخدام دولة أخري للأسلحة الكيميائية, وهو ما كانت تملكه الولاياتالمتحدة ولم تقدمه لإيران عندما كانت تحاول يائسة إثبات ذلك أمام الأممالمتحدة, كما انها انتهكت البروتكول بعدم ابلاغها الاممالمتحدة بما لديها من معلومات. بل انها وفقا للمعلومات الجديدة التي قدمها العقيد فرانكونا, في عام1988, وخلال الأيام الأخيرة من الحرب العراقية-الإيرانية, علمت الولاياتالمتحدة من خلال صور التقطتها عبر الأقمار الصناعية, بان إيران علي وشك احراز تقدم استراتيجي مهم لصالحها في الحرب, من خلال استغلال ثغرة في الدفاعات العراقية جنوب شرق البصرة, وعندها قدم مسئولين في اجهزة الاستخبارات الامريكية صورا وخرائط لمواقع تقدم قوات إيرانية نحو مدينة البصرة, فضلا عن مواقع المرافق اللوجستية الإيرانية وتفاصيل الدفاعات الإيرانية, وهي تدرك تماما ان الجيش العراقي سوف يستخدم غازي الخردل والسارين في هجومه علي القوات الايرانية, وهو ما تم بالفعل خلال اربع هجمات كبري قامت بها القوات العراقية في بداية عام1988, اعتمادا علي صور وخرائط الأقمار الصناعية الأمريكية, وهي التي جاءت في تقرير شديد السرية للسي اي ايه, عنوانه علي أبواب البصرة, قدم في اواخر عام1987, وحذر في نهايته من أن إيران لديها فرص كبيرة لكسب الحرب, واختراق الدفاعات العراقية والاستيلاء علي البصرة, وحذر التقرير من انه اذا سقطت البصرة, فسوف ينهار الجيش العراقي, وسوف تكسب إيران الحرب, وقد قرأ ريجان التقرير, وكتب ملاحظة في الهامش موجهة الي وزير الدفاع وقتها فرانك كارلوتشي نصها:الانتصار الايراني غير مقبول. في وقت لاحق تم اتخاذا قرار علي أعلي مستوي من الحكومة الامريكية, باعطاء الاستخبارات العراقية هذه المعلومات مفصلة, وبها تمكنت العراق من شن هجماتها الاخيرة تحديدا, التي امالت ميزان القوي لصالحها, مما اجبر ايران في نهاية المطاف علي الجلوس الي طاولة المفاوضات. لكنها كانت سياسة صريحة من ريجان لضمان فوز العراق في الحرب, بأي ثمن, حتي لو كان آلاف الضحايا من الإيرانيين, الذين قتلوا بغازات الأعصاب خلال الأشهر الأخيرة من الحرب, ثم في شهر مارس من عام1988 اطلقت القوات العراقية غاز الاسرين علي قرية حلبجة الكردية شمال العراق, وبعدها بشهر استخدمت العراق قذائف مدفعية معبأة بغاز السارين ضد تجمعات القوات الإيرانية علي شبه جزيرة الفاو جنوب شرق البصرة, ووفق شهادة فراتكونا فقد كانت واشنطن سعيدة جدا بالنتائج التي أكدت عجز القوات الإيرانية علي مواصلة النجاح. ووفقا لشهادة عدد من المسئولين الأمريكيين اليوم فإن هذه الهجمات الكيميائية التي استخدمها الجيش العراقي, خلال تلك الفترة لا يقارن باي حال بما حدث في خارج دمشق منذ ايام, لكن دائما تظل لواشنطن حسابات اخري.