لقد استقر في التاريخ المصري, خاصة منذ الثمانينيات وحتي اللحظة الحالية, أن صياغة قانون حديث ومحترم للجمعيات الأهلية, يمثل إشكالية, حيث يصحبه جدل شديد بين عدة أطراف, تفتقد الثقة فيما بينها, والكل يشكك في الكل. في واقع الأمر, فإن صياغة قانون الجمعيات الأهلية والمعارك التي تدور حوله أحيانا- لا تمثل أي مشكلة تستحق ضياع الوقت والجهد والمال, ولا تستحق تمويلا أجنبيا وخبراء أجانب لصياغة التشريع... المطلوب فقط لجنة خبراء محدودة العدد من المصريين الذين تتوافر لهم المعرفة بالمعايير الدولية من جهة, وبالخبرة المصرية المتراكمة من جهة أخري, والتي عليها أن تكون واعية تماما للمتغيرات العالمية بهذا الشأن, وواعية للبيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, في مصرنا العزيزة. دعونا نغلق ملف العبث والمهاترات التي صاحبت صياغة مشروع القانون في مجلس الشوري غير المأسوف عليه, والذي استهدف تمكين جماعة الإخوان بالأساس, بدءا من مسميات جديدة ليس لها مثيل في المنطقة العربية والعالم. دعونا أيضا ننسي المناقشات الهزلية حول تعريف الجمعيات الأهلية, وإدماج كيانات شبابية وهمية في التعريف, لننسي أيضا التصريحات الرسمية التي تستهزئ بعلمنا وعقولنا من جانب رئيس اللجنة التي كانت معنية بالتشريع بمجلس الشوري غير المأسوف عليه- والذي يبشرنا بكل فخر أننا إزاء نقلة نوعية في أداء العمل الأهلي. إذن نحن نغلق ملف العبث بتاريخ وسمعة الجمعيات الأهلية في مصر, ونتسلح بلجنة خبراء وطنية خالصة, ونتسلح بالعلم والمعرفة, وهو ما يتمثل فيما يلي: المعايير العالمية المتوافق حولها والمعروفة للجميع, والتي تحترم حقوق المبادرات الأهلية, وتوفر لها الحماية القانونية, والبيئة المناسبة للعمل( منها تبسيط إجراءات التسجيل والإشهار, حق الجمعيات في إدارة وتسيير شئونها, فتح باب النشاط, توفير مزايا ضريبية, احترام استقلالية المنظمات الأهلية طالما أنها تحترم القانون, حل المنظمة بيد القضاء... وغير ذلك) توافر متطلبات تمييز الشخصية القانونية للكيانات والمبادرات الأهلية, وأبرزها توافر تنظيم له واقع مؤسسي, يتبني أهدافا محددة ولائحة عمل, وعدد معين كحد أدني من الأفراد يمثل المنظمة, والمجال الجغرافي, الفئات المستهدفة. تطبيق مبادئ أو معايير محددة تحدد لنا مجال ظاهرة الجمعيات الأهلية, وحتي يتم التمييز بينها وبين كيانات أخري, مثل الأحزاب السياسية, أو الجمعيات التعاونية, أو مراكز الشباب, أو جمعيات الإسكان, أو المؤسسات ذات السمة الدينية, إلي جانب تحديد مفهوم عدم تسييس نشاط الجمعيات بكل دقة في مقابل الحقوق والمزايا والبيئة السياسية والاجتماعية المهيأة لعمل المنظمات التطوعية الإرادية, هناك واجبات إزاء الدولة والمجتمع عليها الالتزام بها وفقا للقانون, أهمها: الانفتاح والشفافية والنزاهة وتحقيق مصداقية سعيها للنفع العام أو الصالح العام, وتجنب تضارب المصالح, والالتزام بالأنشطة التي تبتعد بها عن تحقيق مصالح اقتصادية خاصة. لكن يبقي أمام اللجنة الوطنية المعنية بصياغة تشريع جديد للجمعيات الأهلية, عدة إشكاليات مهم الاعتراف بها وحسمها في ضوء الخبرات العالمية والنماذج المقارنة بين التشريعات, وهي تتمثل في الإشكاليات الخمس التالية: الإشكالية الأولي والتي كانت دوما محل صراع وجدل بين الحكومة والجمعيات الأهلية( خاصة المنظمات الحقوقية) تتمثل في قضية التمويل الخارجي, من المهم بداية التوافق حول قيم النزاهة والشفافية والمحاسبية لدي الأطراف التي تتلقي التمويل, وهذه القيم يتم تحويلها إلي آليات محددة لضبط المسار. وإذا كان هناك حق معترف به للمؤسسات المانحة بخصوص المحاسبة ومراجعة الإنفاق, بل وفي كثير من الأحيان تقييم الأداء, ففي المقابل هناك حق للحكومة( الجهة الإدارية المعنية) في توفير معلومات لها عن مصادر التمويل والإنفاق... يمكن الاستفادة من خبرات دولية تفرض علي المنظمات الأهلية إخطار الحكومة بالمصدر, وطبيعة الإنفاق, والمشروعات, علي أن يتم التحويل أو الدعم المالي لحساب محدد, وفي أحد البنوك القومية, بشكل مستقل حتي يمكن العودة إليه في حالة ارتباطه بمشاكل تمس النزاهة أو الأمن القومي. الإشكالية الثانية التي يجب التصدي لها بقوة عند صياغة التشريع المصري للجمعيات الأهلية, تتعلق بحالة الخلط بين العمل السياسي والعمل الخيري تحديدا... ففي العامين الماضيين وحتي هذه اللحظة, كان العمل الخيري هو الغطاء السياسي للحصول علي دعم الحشود والموالين للتيارات الإسلامية, خاصة في الوجه القبلي وهي حالة استغلال فاضح لحالة الفقراء... يكفي هنا الإشارة إلي أن مراجعة الكاتبة للجمعيات الأهلية التي تم تسجيلها بعد ثورة يناير في مصر, كشفت عن أن4600 جمعية جديدة تم تسجيلها, أكثر من نصف هذا العدد جمعيات تابعة للإخوان والتيارات السلفية, وتركزت في الوجه القبلي. إن الإشكالية السابقة ترتبط بشكل مباشر بغياب التوثيق الدوري المنضبط, لحسابات الجمعيات الأهلية, والخيرية خاصة, التي لا يتوافر لها أو عنها تقارير وبيانات موثقة عن إنفاقها, ومصادر تمويلها, والفئات المستفيدة... ومن ثم يصبح القانون في هذه الحالة, هو الآلية الرئيسية... بمعني توفير نص قانوني يلزم كل الجمعيات- الخيرية والتنموية والحقوقية- بالتوثيق الالكتروني لكل مجالات نشاطها وتمويلها وإنفاقها والفئات المستفيدة, وتلتزم الجمعيات سنويا بتوفير هذه البيانات لجهة رسمية. إن اللجنة الوطنية المكلفة بإعداد مشروع قانون جديد للجمعيات والمؤسسات الأهلية, عليها أن تفكر بشكل مختلف يخرج عن الصندوق التقليدي الذي اعتادت عليه القوانين السابقة.. مهم طرح السؤال التالي بكل شجاعة: ما القيمة المضافة التي يصنعها الاتحاد العام للجمعيات الأهلية؟ إن الاتحاد العام للجمعيات الأهلية هو صيغة قديمة تقليدية لا تتناسب في عام2013 مع الاتجاهات العالمية ومع الاتجاهات العربية. هي صيغة لا وجود لها في العالم أو في المنطقة العربية. مهم تقييم دور الاتحاد العام والنظر في هدر الموارد المادية والبشرية القائمة, وتعيين رئيس للاتحاد العام للجمعيات, ونسبة من الأعضاء, بقرار رئيس الجمهورية. هناك بدائل عالمية ممتازة مطروحة أمامنا, من أبرزها صيغة المجلس الطوعي وتضم قدرات وكفاءات وحكماء متطوعين لمتابعة مسار المنظمات التطوعية, وعلاقتها بالدولة من جانب وبالمجتمع من جانب آخر.. أهم أدوارها وفقا للخبرات العالمية التحكيم والمراقبة وبناء القدرات للمنظمات التطوعية. في اعتقادي كباحثة ناشطة ومتابعة للشأن العام والعمل التطوعي, إن صيغة الاتحاد العام للجمعيات لابد من إلغائها, وليكن السؤال الرئيسي أمام اللجنة الوطنية المعنية بإصدار مشروع قانون الجمعيات هو هل هناك قيمة مضافة للاتحاد تحققت؟ الأمر الأخير الذي لابد وأن يتوجه إليه مشروع قانون الجمعيات, هو علاقة تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصال الاجتماعي بالجمعيات الأهلية..فالسنوات الأخيرة طرحت مبادرات أهلية متعددة وجيدة لخدمة المجتمع, بعيدا عن العمل السياسي, وعن التعبئة لأصوات الفقراء في الانتخابات والمواقف السياسية. ومن ثم فإن قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية, عليه أن يصل إلي صيغة تستقطب مبادرات الشباب عبر المجتمع المدني الافتراضي وتتبناها وتدعمها علي أرض الواقع. لمزيد من مقالات د. أماني قنديل