حتي يتم استرداد أموال مصر المنهوبة و التي تفوق بكثير حجم أية معونات تتلقاها مصر من الخارج, هناك حاجة لتصور محدد وعملي لموضوع المساعدات هذا والذي يعود إلي جدول أعمال الجمعيات والمحللين المصريين وبصورة ملحة, بين منتقد ومؤيد. وعودة لموضوع المساعدات بهذا التكرار منطقي, خاصة أن الإدمان المصري علي المساعدات واضح, وكذلك الإدمان علي انتقادها, ولكن رغم مركزية هذا الموضوع, فالحجم الحقيقي لهذه المساعدات وخاصة كيفية التصرف فيها يشوبه كثير من الغموض. خذ مثلا المساعدات من دولة واحدة فقط, الولاياتالمتحدة, ومن فترة حديثة نسبيا, أي منذ سنة1978 كانت هذه المساعدات جزءا لا يتجزأ من عملية كامب ديفيد لعقد سلام بين مصر وإسرائيل. وقد أصر الرئيس السادات بناء علي نصيحة معاونيه علي الربط بين المساعدات المصرية والمساعدات الموجهة لإسرائيل, حتي يضمن استمرارية هذه المساعدات وعدم تلاعب الكونجرس الأمريكي ذي النفوذ الصهيوني الواضح, وهكذا أصبحت مصر ثاني دولة بعد إسرائيل في تلقي المساعدات الأمريكية, وقد بلغت هذه المساعدات منذ ذلك التاريخ أكثر من60 بليون دولار, لا نعرف عن كيفية توزيعها وانفاقها الكثير. نعرف الآن أن غالبيتها أي13 بليون دولار عسكرية بينما استمر تخفيض الجزء المدني أو الاقتصادي ليصل حاليا إلي250 مليون دولار, أي أقل من20% من المبلغ العسكري, ولا يصل المبلغ الكلي أي1055 مليون دولار حتي إلي05% من الناتج المحلي الاجمالي لمصر, ماذا يمنع دولة مثل مصر إذن من إعلان الاستغناء عن هذه المعونة, ولو حتي علي مراحل؟ وهل من الممكن انشاء علاقات قريبة من الندية مع واشنطن مع اقتناع جزء من الشارع الأمريكي أن واقع الضرائب الأمريكي بيوكل المصريين؟ السبب الرئيسي في استمرار هذا الوضع المهين هو إدمان النخبة السياسية والاقتصادية المصرية علي استمرارية المساعدات أمريكية أو غير أمريكية وفشلها في ايجاد البدائل. لقد ساهمنا نحن وكنا طلابا للاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية مع زملائنا من العالم الثالث في السبعينيات في مثل هذا الإدمان, كانت حجتنا أن دولنا عانت وقاست الكثير من جراء النهب الاستعماري, وبالتالي لها حق في هذه المساعدات كتعويض ولو جزئي عن السرقة التي كانت ضحية لها. ولكن لا يمكن استمرارية ترديد هذه المقولة الآن بعد أكثر من50 عاما علي موجة الاستقلال الوطني. سبب رئيسي آخر كنا نردده لنقلل حجم الكرامة المجروحة هو أول الدول النامية هي مثل الصناعات الناشئة التي لها الحق, كل الحق, في نوع من الحماية والدعم حتي تستطيع الوقوف علي قدميها, وكنا نشعر بالرضا أن حتي أكبر مروضي نظرية التجارة الحرة وحرية السوق يقبلون هذا المنطق, ويدعمون منح المساعدات لهذه الدول الناشئة, كان هذا يريحنا نفسيا, ولكننا نعرف الآن أن المساعدات في مراحل النشأة والنمو المبكرة, والمفروض أنها ظرفية أو مؤقتة أصبحت الآن شبه منطق تفكير.. أصبحت داء بدلا من أن تكون دواء. قد لا تستطيع مصر في وضعها الاقتصادي الحالي أخذ السبق وإعلان الاستغناء عن المساعدات ذات التوجه الأحادي, أي من الدائن إلي المدين. ولكن تستطيع النخبة الاقتصادية ذو الكفاءة والتي تحكم الآن أن تضع لبنة تصور للمساعدات كجزء من سياسة عامة للتنمية وأن تكون هذه المساعدات مؤقتة وتدلنا تجارب الآخرين علي نجاح مثل هذا المنهج في العلاقة بين الولاياتالمتحدة وأوروبا غداة الحرب العالمية الثانية. كما نعرف, أدت الحرب العالمية الثانية إلي تدمير شبه كامل لمعظم أوروبا, ليس فقط تدمير المنازل أو المصانع, بل خاصة البنية التحتية, وكان الرد الأمريكي علي هذا الدمار في أوروبا هو خطة مارشال, لم تكن هذه الخطة إحسانا من واشنطن, ولكن كان لها هدف سياسي واضح وهو منع الشيوعية من الانتشار من شرق أوروبا إلي غربها, ولكن المهم أن الدول الأوروبية استثمرت خطة مارشال هذه لبناء نفسها حتي نراها الآن وقد أصبحت منافسة للولايات المتحدة, ولا ينطبق هذا علي ألمانيا أو فرنسا فقط, بل نري نفس النتيجة بالنسبة لليابان أو كوريا الجنوبية. المنهج الأساسي أن هذه الدول استثمرت المساعدات ليس كقوت يومي ولكن كجزء من خطة تنمية, وقد تكون التجربة مع المساعدات السوفيتية وبناء السد العالي في الستينيات قريبة من هذا المنهج. البداية الحقيقية إذن هو تغيير التركيبة الذهنية سجينة الإدمان, والتفكير في المساعدات أجنبية أو عربية كحالة مؤقتة لمريض في غرفة الانعاش لمساعدته علي التعافي. فالكلام عن أن هناك مساعدات غير مشروطة مهما كان مصدرها هو كاذب, وحتي إذا كانت الشروط غير معلنة أو واضحة, فعلاقة المساعدة نفسها غير صحية للدولة, لأنها تؤسس علاقة غير متساوية بين دائن ومدين, ولو حتي عن طريق رد الجميل. وفي الحالة المصرية الراهنة إذن وعدم قدرتها علي الاستغناء عن المساعدات فورا, هناك سبيلان يكمل كل منهما الآخر في تخطيط سياسي محكم, أي برنامج عمل: 1 أن تكون هذه المساعدات مؤقتة, أي أن مصر نفسها تأخذ المبادرة في تحديد مدتها وتعلن هذا صراحة لمقدمي المساعدة, هناك إذن ضرورة لبرنامج زمني. 2 أن هذه المساعدات ما هي إلا جزء من سياسة تنموية واضحة المعالم, يتم حصر حجمها من البداية وتوزيع سبل انفاقها طبقا لاحتياجات برنامج تقوم مصر نفسها بالتخطيط له وتنفيذه فالمبالغ المعروضة علي مصر حاليا من المصادر العربية, الغربية والدولية هي ضخمة فعلا وقد تكون أساس برنامج مارشال تحدده القاهرة نفسها وليس غيرها. وفي الواقع قد يضمن هذا التخطيط الجدي احترام الآخرين للقاهرة واحترامنا نحن لإنفسنا. ألم يكن شعار المصريين في ثورة يناير وحتي قبلها علي مر العصور الكرامة؟ مشكلة المساعدات وحلولها ليس في واشنطن, بروكسل أو الرياض, ولكن في القاهرة. ولنتذكر المثل الصيني: إذا رأيت جعانا, لا تعطيه سمكة بل علمه الصيد. الأساس إذن هو الاعتماد علي النفس وزمام المبادرة. لمزيد من مقالات د.بهجت قرني