عادت قضية احتمال حصول مصر علي قرض ضخم من صندوق النقد الدولي إلي واجهة الأحداث وإلي واجهة الجدال الاقتصادي والسياسي المحلي والعالمي. فقد كشفت وكالة بلومبيرج الإخبارية المالية الأمريكية التي تعد واحدة من كبري الوكالات الإخبارية المالية والاقتصادية في العالم أن مصر قد تمضي قدما في محادثاتها مع صندوق النقد الرامية إلي الحصول علي قرض قد تصل قيمته إلي ثلاثة مليارات ومائتي مليون دولار, وذلك بعد أن تولي الرئيس محمد مرسي مقاليد السلطة التنفيذية في أكبر دولة عربية,. وذلك في وقت تعاني فيه مصر من عجز مالي هائل ومن أسوأ أزمة اقتصادية تعصف بها منذ عقود طويلة بعد أن انكمش اقتصادها خلال العام المنصرم لأول مرة منذ ستينيات القرن الماضي. وذكرت وكالة بلومبيرج أن الرئيس مرسي مازال ينظر في إمكانية الحصول علي هذا القرض وانه سيكون هناك المزيد من المناقشات. شروط الصندوق وكان صندوق النقد الدولي قد اشترط لمنح مصر هذا القرض تحقيق توافق سياسي واسع النطاق حوله وهو الأمر الذي عرقل عملية التوصل إلي اتفاق بشأنه خلال الايام الماضية. كما يشترط الصندوق تحقيق توافق بشأن برنامج محدد وواضح المعالم للإصلاح الاقتصادي في مصر صاحبة ثالث اكبر اقتصاد عربي بعد السعودية والإمارات وصاحبة اكبر اقتصاد في شمال أفريقيا بقيمة ناتج محلي إجمالي يبلغ مائتين وخمسة وثلاثين مليارا وسبعمائة مليون دولار حسب تقديرات صندوق النقد الدولي لعام ألفين واثني عشر ويقول المؤيدون لفكرة الحصول علي قرض من هذه المؤسسة المالية الدولية إن هذا الأمر يشكل مسألة شديدة الأهمية بالنسبة إلي أي مساع ترمي لانتشال مصر من كبوتها المالية الراهنة وذلك ببساطة لإن صندوق النقد الدول لايعطي مالا وحسب وانما يعطي مايمكن وصفه بشهادة حسن سير وسلوك لأي اقتصاد في العالم. ويعني هذا الامر انه إذا تقدمت مصر ببرنامج للإصلاح الاقتصادي للصندوق وحصلت علي موافقة رسمية منه عليه, فان هذه الموافقة ستكون بمثابة شهادة ثقة هائلة في الاقتصاد المصري ستجعل كل الدول المانحة تقبل علي مساعدة الاقتصاد المصري بكل ثقة والعكس بالعكس. معضلة الاقتصاد وتتمثل المعضلة المالية الكبري لاي حكومة مصرية مقبلة في اضطرارها إلي الاقتراض بأسعار فائدة غالبا ماستكون كبيرة لتمويل عجز الميزانية وذلك بعد أن وصلت البنوك المحلية إلي طاقتها القصوي في الإقراض. وحتي الآن فان الجنيه المصري مازال صامدا إذا لم يتراجع إلا بنسبة أربعة في المائة بعد الثورة لكن هذا الأمر قد يتغير جراء تفاقم الوضع سياسيا واقتصادية. فالاقتصاد الكلي للدولة نما بنسبة طفيفة بلغت ثلاثة أعشار في النصف الثاني من عام2011 لكن محلليين يرون أنه انكمش العام الماضي لأول مرة منذ ستينيات القرن الماضي وسط الأزمة التي دخلت فيها البلاد بعد. الثورة التي أطاحت بحكم مبارك في فبراير من عام2011. وتشير التوقعات الي أن الاقتصاد سينمو بنسبة ثلاثة في المائة. تقريبا خلال2012 أي أقل من المتوسط الذي حققه خلال العقد الماضي والبالغ خمسة في المائة. فعلي مدي حوالي16 شهرا منذ انهيار حكم مبارك الذي استمر30 عاما تقلصت معدلات النمو في مصر وتقلصت احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي إلي أقل من النصف, مما أضعف قيمة الجنيه المصري, وأربك الدائنين الخارجيين الذين يستحق علي مصر سداد مليارات الدولارات لهم علي مدي الأشهر المقبلة. وقد تسببت التوترات السياسية في تأخير المساعدات من المؤسسات المالية الدولية وإبعاد المستثمرين الأجانب. وفي الوقت نفسه تضخم العجز في ميزان المدفوعات المصري إلي11 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولي من السنة المالية2011 2012 أي أكثر من مثلي مستوياته في العام الماضي. باختصار فان هذه المشكلات تجعل من مسألة حصول مصر علي هذا القرض مسألة غاية في الأهمية خصوصا وان القروض التي تقدمها هذه المؤسسة المالية الدولية عادة ماتكون بفائدة ميسرة أي بفائدة محدودة نسبيا كما يجري تسديدها علي فترات زمنية طويلة. معارضو الاستدانة من الصندوق لكن علي الجانب الآخر هناك من يعارض بشدة لجوء مصر لهذه المؤسسة المالية الدولية التي طالما تسببت روشتتها الاقتصادية والمالية في خراب الكثير من اقتصاديات الدول النامية, والتي طالما اكتوي الشعب المصري بنار شروطها المجحفة بدءا من خصخصة القطاع العام وتسريح مئات الآلاف من وظائفهم ورفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية بما يعنيه ذلك من الدخول في موجات غلاء معيشي حادة بصورة ربما لم يسبق لها مثيل. منذ عقود وتخلي الدولة عن دورها الاجتماعي بشكل يزيد الفقراء فقرا والأغنياء غني في دولة يرزح نحو عشرين في المائة من سكانها تحت خطر الفقر المدقع. الصراع علي السلطة إلا ان خبراء اقتصاديين عالميين توقعوا ان تكون المفاوضات بين مصر وصندوق النقد الدولي بشأن هذا القرض أكثر تعقيدا من ذي قبل جراء ما يوصف بالصراع السياسي الراهن علي السلطة العليا في مصر, كما انه سيكون من الصعوبة بمكان تسويق اي برنامج للاصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي لدي الشعب المصري الذي عاني من تجربة مريرة مع سياسات الصندوق. الاقتصادي السياسي للقروض ورغم ان هذا الكلام ليس جديدا في مجمله إلا ان الجديد في هذه المرة يتمثل فيما اوردته ورقة عن الوضع السياسي الاقتصادي الراهن في مصر نشرتها وكالة بلومبرج الاخبارية الاقتصادية الأمريكية, اعد هذه الورقة فالي ناصر استاذ العلاقات الدولية في كلية القانون والدبلوماسية بجامعة تافتس الأمريكية والمستشار السابق للممثل الأمريكي السابق في افغانستان وباكستان, يقول ناصر ان الولاياتالمتحدة يمكن ان تستغل مسألة قرض صندوق النقد الدولي كورقة ضغط علي المؤسسة العسكرية وذلك عبر دفع الصندوق إلي اشتراط ان تتم خصخصة المشروعات الاقتصادية للجيش المصري, وهو ما قد يعني تقليص النفوذ الاقتصادي للمؤسسة العسكرية, ومن ثم فانه قد يصبح لدي واشنطن ورقتان للضغط علي المؤسسة العسكرية المصرية وهما المعونة العسكرية البالغة قيمتها مليار وثلاثمائة مليون دولار سنويا وقرض صندوق النقد الدولي. اقتصاديات الربيع العربي هذه القضية الشائكة تعكس في المجمل الصعوبات الهائلة التي تعانيها اقتصاديات ما يعرف بدول الربيع العربي في مساعيها الرامية إلي التعافي من التركات الثقيلة التي ورثتها عن الانظمة السياسية السابقة. وتقول وكالة رويترز في تحليل لها في هذا الصدد انه عندما سحبت السعودية سفيرها من القاهرة في اواخر ابريل الماضي ارتفعت عائدات اذون الخزانة المصرية, وانخفضت اسعار الاسهم اذ شعر المستثمرون بالخوف من ان تحرم مصر من مساعدات مالية سعودية بمليارات الدولارات, لكن سرعان ما تمت تسوية هذا الخلاف الدبلوماسي الذي اثارته احتجاجات في شوارع القاهرة علي اعتقال محام مصري في السعودية, وعاد السفير السعودي إلي القاهرة خلال اسبوع, وبعد بضعة ايام اودعت السعودية مليار دولار كوديعة لأجل ثماني سنوات لدي البنك المركزي المصري. غير انه بعد أكثر من عام علي بدء انتفاضات الربيع العربي تظهر هذه الواقعة كيف تواجه الدول التي شهدت هذه التحولات السياسية الهائلة صعوبات في الحصول علي مساعدات مالية واقتصادية تمس الحاجة إليها بشدة لإعادة بناء اقتصاداتها, وتخفيف حدة التوترات الاجتماعية التي تقاسيها. فقد تعهد المجتمع الدولي, ومنه الاقتصادات الغربية الكبيرة ودول الخليج العربية المصدرة للنفط بمساعدات بعشرات المليارات من الدولارات خلال العام الماضي, لكن لم تسلم سوي نسبة ضئيلة منها فقط حتي الآن, وفي بعض الحالات يبدو ان المماحكات السياسية, أو السياسات الاقتصادية أو الضغوط علي الميزانية تعطل أو توقف تدفق اموال المساعدات. خطة مارشال: وتقول مؤسسات مالية غربية انه ليس هناك ما يطلق عليه خطة مارشال لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا وذلك في اشارة إلي خطة المساعدات الاقتصادية الأمريكية التي ساعدت أوروبا علي الانتعاش بعد الحرب العالمية الثانية. واضافت هذه المؤسسات المالية ان الدول العربية الغنية بالموارد توجه دعمها المالي مباشرة لدول الربيع العربي المحتاجة للمساعدات استنادا إلي مصالحها الاقتصادية واستراتيجياتها السياسية. فخلال قمة عقدت في مايو من العام الماضي في فرنسا, تعهد زعماء مجموعة الدول الثماني بمساعدات بقيمة نحو اربعين مليار دولار اغلبها علي شكل قروض منخفضة التكلفة لمصر وتونس علي مدي فترة زمنية لم تحدد, وكان من المقرر ان تقدم مساعدات بقيمة عشرة مليارات من دول الثماني, وعشرة مليارات من دول الخليج الغنية وعشرين مليارا من مؤسسات دولية مثل البنك الدولي. وفي سبتمبر من نفس ذلك العام, زادت مجموعة الثماني تعهداتها إلي مثليها تقريبا واضافت المغرب والاردن لقائمة الدول المتلقية للمساعدات. ومن ناحية أخري قررت دول الخليج الغنية العام الماضي تأسيس صندوق برأسمال يبلغ عشرين مليار دولار لتقديم منح للبحرين وعمان بعشرة مليارات دولار لكل منها علي مدي عشر سنوات لتمويل برامج تنمية وبرامج اجتماعية. ولدي الدول المانحة اسباب سياسية قوية للتعهد بهذه المساعدات, فإذا لم تتمكن اقتصادات دول الربيع العربي من تحقيق نمو كاف وتوفير فرص عمل فستتفاقم الاضطرابات السياسية هناك وقد تمتد إلي دول اخري وتشمل المنطقة بأسرها. وعود اغلبها في الهواء وحتي الآن كان تدفق الأموال للدول المحتاجة لهذه المساعدات أقل بكثير من توقعات هذه الدول. فقد تلقت قروضا ومنحا متناثرة, وبما لايكفي لحل مشكلات حادة في الميزانيات وموازين المدفوعات في دول الربيع العربي. وتشي تقديرات غربية بأن نحو خمسة عشر مليار دولار فقط من ستين مليار دولار تم التعهد بها لدول الربيع العربي هي التي صرفت بالفعل حتي الان. وكانت مصر علي سبيل المثال تأمل العام الماضي في الحصول علي مساعدات تزيد علي عشرة مليار دولار لدعم احتياطياتها بالعملة الأجنبية التي تراجعت بحدة وسد عجز الميزانية ولكنها لم تتلق سوي نصف هذا المبلغ تقريبا. ومازالت المحادثات المتعلقة بقرض من صنودق النقد الدولي لم تحسم. كما كشفت البحرين النقاب عن أن العشرين مليار دولار التي تعهدت بها الدول الغنية المجاورة لها لم تصرف حتي الان وإن كانت مازالت تنتظر دفعة أولية قريبا. كارثة محتملة ويقول بعض الخبراء الاقتصاديين إن المجتمع الدولي يواجه خطر كارثة قد تحل بالاقتصاديات التي تواجه صعوبات في شمال افريقيا إذا لم يبذل المزيد لمساعدتها. فعلي سبيل المثال أوضح اتحاد المصارف العربية أن الافتقار لخطة شاملة طويلة الأجل لاقتصادات الربيع العربي قد يؤدي إلي عواقب خطيرة وستكون له العديد من الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية منها امكانية انتكاسة الوضع إلي أسوأ مما كان عليه من قبل. وأحد أسباب تباطؤ المانحين في تقديم الأموال التي تعهدوا بها يرجع لدول الربيع العربي ذاتها في رأي كثيرين فالحكومات المشتتة بسبب التحولات السياسية المحلية والانتقال المضطرب إلي الديمقراطية لم تتمكن من التعهد بسياسات اقتصادية تقنع المانحين بأن الأموال ستنفق بشكل جيد. فعلي سبيل المثال, يقول صندوق النقد الدولي إن مصر يتعين عليها من أجل الحصول علي قرض منه إصلاح سياساتها الاقتصادية بدرجة أكبر, وإيجاد مصادر أخري للإيرادات وتحقيق توافق وطني للحصول علي القرض. عوائق أخري ومن العوائق الأخري أمام المساعدات أن طلبها يأتي في وقت أزمة مالية عالمية. وأصبح وفاء حكومات أوروبا والولاياتالمتحدة التي تفتقر للسيولة بتعهداتها أكثر صعوبة. وللالتفاف علي هذه المشكلة يمكن اللجوء إلي تقديم ضمانات قروض بدلا من مساعدات مباشرة. فقد أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية في شهر ابريل الماضي إنها ستقدم لتونس ضمانات قروض بمئات الملايين من الدولارات لمساعدتها علي الاقتراض من الأسواق العالمية. وفي حال تمكن تونس من سداد ما اقترضته من أموال بدون أن تمس الضمانات فستتمكن واشنطن من تقديم المساعدة دون أن تنفق المال. لكن الأسواق العالمية أضعف من أن تقدم الكثير من الأموال التي تحتاجها هذه الدول بهذا الشكل, لذلك فإن تعطل القروض والمنح من الغرب أصبح مدمرا. ويقول اتحاد المصارف العربية في هذا الصدد تأتي الدعوات إلي خطة علي غرار خطة مارشال في وقت تشهد فيه الاقتصادات والنظم المالية في الولاياتالمتحدة وأوروبا أزمة ديون وهي ليست في وضع يؤهلها لتقديم التمويل المطلوب لمثل هذه الخطة. وبالنسبة لدول الخليج فإن المسألة لاتتعلق بميزانياتها فأسعار النفط المرتفعة علي مدي العام الماضي تركت الحكومات بفوائض سيولة كبيرة. لكن محللين يقولون إن الاعتبارات السياسية ربما تجعل دولا مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة أكثر حذرا فيما يتعلق بتقديم المساعدات. فقد تري دول الخليج المحافظة أن فوز جماعات إسلامية في الانتخابات في مصر وتونس والمغرب يشكل تهديدا فكريا ودبلوماسيا. وتقول وكاله رويترز إنه ورغم أن دول الخليج لديها حافز قوي لتقديم المساعدات لاقتصادات الربيع العربي لمنع اقتصاداتها من الانهيار, فإن لديها دافعا لتعطيل المساعدات وإبطائها للحفاظ علي نفوذ سياسي علي الدول المتلقية. وأوضح اتحاد المصارف العربية أنه بسبب استمرار الاضرابات السياسية في بعض الدول بدأت الدول العربية والغربية المانحة في إعادة تقييم تعهداتها بشأن المساعدات. وأضاف لا أحد مستعدا لضخ أموال في نظام يخلق خلافات جوهرية مع المانح فهذا قد يكون له اثر عكسي ويبطل الغرض من مثل هذه المساعدات. فعلي سبيل المثال أعلنت الإمارات قبل نحو عام أنها ستقدم ثلاثة مليارات دولار لمصر لكن وكالة رويترز نقلت عن مصدر مصري مطلع طلب عدم الكشف عن هويته قوله إن الأموال لم تحول بسبب حساسيات دبلوماسية. وصرح مسئول إماراتي بارز في أواخر العام الماضي بإن حكومته مازالت تبحث آليات الدفع. وبما أن المساعدات بين الحكومات لم تحقق نجاحا واضحا في حل المشكلات في اقتصادات الربيع العربي يعتقد العديد من المحللين أنه يتعين ان يشارك القطاع الخاص بدرجة أكبر. دور القطاع الخاص وتقول مؤسسة التمويل الدولية لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا إن المؤسسة وهي ذراع تابعة للبنك الدولي استثمرت ثلاثة مليارات دولار في المنطقة منذ بدء انتفاضات الربيع العربي. وبدلا من تسليم مبالغ كبيرة من المال للحكومات ركزت المؤسسة علي تقديم قروض واستثمارات في الاسهم وخدمات استشارية لشركات خاصة مع تركيز خاص علي المشروعات المتوسطة والصغيرة التي توفر فرص عمل. وفي نهاية الأمر يقول المحللون إن دول الربيع العربي ستحتاج لإيجاد السبل لجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة لسد الفجوة الناتجة عن عدم تلقي المساعدات الأجنبية.