فرض حديث المصالحات نفسه علي الساحة المصرية خلال المرحلة الماضية, بشكل بدا انه محاولة للقفز علي نتائج ومتغيرات فرضتها ثورة30 يونيو, وانه يصيغ مبادرات تتعامل مع واقع انقلابي وليس حركة جماهيرية رافضة لحكم الإخوان المسلمين. هذه المفارقة أو النتيجة التي سعي البعض لفرضها كواقع من خلال طرحه لمبادرات تبدو أنها إصلاحية وتسعي لتجاوز المأزق السياسي وتحقيق التوافق الوطني هي في حقيقة الأمر محاولات لتلخيص الأزمة في مشكلة عزل الدكتور مرسي رغم احتوائها للكثير من المطالب والمقترحات, وبالتالي تركزت محاورها علي الجوانب السياسية, وفقا لرؤية مفادها إعادة الأوضاع لسابقها وتغيير بعض الأشخاص وبعض الإجراءات. في المقابل, بدا رفض هذه المبادرات والتحفظ عليها لدي الكثيرين مرتبطا بأهمية مراعاة العديد من الاعتبارات أو الشروط منها: محاسبة ومحاكمة قيادات الإخوان والرئيس المعزول, ووضع شروط لاستيعاب جماعة الإخوان المسلمين في العملية السياسية, متناسين أن الكلمة لهذه القيادات الذين يريدون محاكمتهم, ومتناسين أن هدف الجماعة هو المحافظة علي التنظيم داخليا ودوليا, ومتناسين حالة الاستقطاب والتجذر المجتمعي الذي نجح الأخوان ومؤيدوهم في صبغها علي الكثير من التفاعلات المجتمعية قبل السياسية. ولذا بدا حديث المصالحات من جانب بعض السياسيين والنخبة الراهنة أكثر ميلا لتجاوز حركة الجماهير, لاسيما وان عامل الوقت بدا حاسما, كما بدا ترتيب الأوضاع وتحديد الأولويات مرتهنا برؤي سياسية وتوازنات تحكمها اللعبة السياسية وقيودها الإقليمية والدولية. بالتالي, ظل حديث المبادرات ودعاوي المصالحة في معظمه مستندا لخطاب عام وأفكار مرفوضة سلفا من جانب احد الأطراف. فالأهداف السياسية التسكينية كانت طاغية, ومحاولة القفز علي الواقع والوصول لمرحلة إدارة العملية السياسية دون تكلفة ودون تحمل مسئولية ظل غالبا, والحرص علي إظهار الحياد وإدارة مفاوضات بين أطراف يختلف علي مضمون الدولة وقيمة المواطنة, دعا البعض لتبني دور الوسيط رغم كونه شريكا. من ثم بدا حديث المصالحات اقرب لحوار الطرشان, فلا احد يسمع ولا احد يريد ان يستوعب لغة الإشارة أو التلميحات التي طرحتها بعض تلك المبادرات او حتي تحدد أولوياتها, ليبدو الامر وكأننا أمام مباراة صفرية يسعي كل طرف لكسب كل شئ أو خسارة كل شئ, وهنا مربط الفرس كما نقول في أمثالنا الشعبية, فالمسألة أعمق من عزل رئيس او حتي تقديم بعض الأشخاص للمحاكمة, فالمسألة أننا أمام مشروع سياسي محلي واقليمي ودولي تم إسقاطه من قبل الجماهير التي رفضت حكم الإخوان في30 يونيو, وتسعي ايضا لبناء دولة ديمقراطية لا تحمل ملامح تسلطية وفساد انتفضت في28 يناير لبنائها. هذه الحقيقة التي كان يجب ان يحتويها حديث المصالحات والمبادرات غابت, ومع غيابها بدا الحديث اقرب لمحاولات مسك العصا من الوسط, او محاولة تأجيل بعض ملامح مشروع الاخوان لمرحلة تالية يمكن ان تتوافر بعض ملامح التمكين مرة أخري, او إصباغ طابع الصراع السياسي والايديولوجي. ولذا فقد تحول الحديث الي جدل نخبوي وسياسي بعيدا عن الجماهير التي نزلت للشوارع وطالبت بإدارة عجلة التحول الديمقراطي, ودفع قوي الإصلاح نحو بناء الدولة الديمقراطية المستندة لقاعدة المواطنة والقانون, والداعمة لاقامة دولة العدل والتسامح والكرامة, ودولة الوسطية المصرية التي حققت لها الريادة والحضارة, ودولة المشروع الحضاري الانساني المستندة لرفض التمييز والكراهية وإشاعة الاحتقان المذهبي والطائفي. هذه الأهداف المرتبطة بشكل الدولة المصرية, كان يجب ان تكون محور الحديث والمبادرات, وفي هذا السياق يجب التأكيد أن المصالحة تعني الانحياز لدولة القانون والمواطنة, والبعد عن أنصاف الحلول, والبعد عن حسابات الانتخابات, وان وجهي المصالحة سياسي واجتماعي. فعلي المستوي السياسي, يجب تجاوز حالة الاستقطاب الي حالة الاختلاف ووضع آليات واضحة في الدستور والقوانين والتشريعات تضمن إدارة الخلافات في إطار الدولة وان يكون الاستفتاء المقبل حاسما في بلورته لملامح التحول الديمقراطي من قضايا مثل: تأسيس أحزاب علي أساس ديني من عدمه, دولة القانون والمؤسسات, وقيم المواطنة والشفافية والمحاسبية. أما علي مستوي المصالحة المجتمعية والتي تحتاج لجهد اكبر وفترة زمنية طويلة فلابد من دعم دور المنظمات الأهلية والمدنية في المرحلة المقبلة من خلال تشريعات وقوانين تسهم في تقوية دورها وقدراتها علي إدارة التعددية الموجودة في المجتمع( فمصر ليست مجتمعا تعدديا ولكنها مجتمع بداخله تعدد وتنوع) بعيدا عن الصراعات, وتمكنها من تنظيم أدوارها ومسئوليات في مرحلة البناء وتصحيح مساراتها من الداخل وتحجيم القوي المجتمعية الشاردة وادخالها في مسارات التفاعل المجتمعي تحت راية الدولة, وفي إطار القيم المجتمعية والمدنية التي يرسخها المجتمع كإطار حاكم لتفاعلاته. ولذا كان من الضروري أن يهتم حديث المبادرات والمصالحات بقوي المجتمع وآليات تخفيف حجم الغضب والاحتقان الجماهيري, وتفعيل منظماته الجماهيرية والأهلية لمحاصرة الكثير من المظاهر السلبية والعاكسة لتنامي قضايا ومشكلات في مقدمتها التعصب, وتأجيج الكراهية, وتحقيق العدالة الاجتماعية. فهناك الكثير من العلاقات والتفاعلات المجتمعية يجب ان تحظي باهتمام الباحثين والسياسيين والمهتمين بالشأن العام والقائمين علي إدارة البلاد لمعالجة ما أحدثته من شروخ في قيمة المواطنة وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية. واقتراحي المحدد هنا أن يقوم الأزهر والكنيسة ومنظمات المجتمع المدني والاهلي بتفعيل العديد من المبادرات والآليات الداعمة لتخفيف حدة الاحتقان السياسي, وزيادة الوعي الديني الصحيح, وتبني مشروعات تنموية حقيقية داعمة لعملية تمكين المواطن المصري, وان تمثل كيانات مثل: بيت العائلة في كل محافظة, والمنظمات الأهلية قدرة استيعابية للجماهير وللقوي الثورية تمكنها من تنظيم تفاعلاتها المجتمعية ومواجهة مواطن الخلل الاجتماعي في مناطقها المحيطة بها. فالاهتمام بالمواطن وبناء الإنسان المصري يظل هو الضامن الحقيقي لمواجهة اي انتكاسات او مخاطر تواجه الدولة, وتوفر في الوقت نفسه القدرة علي تصحيح المسارات ومعالجة التشوهات والتحديات التي تعترض عملية بناء الديمقراطية وامتلاك ثقافتها وآلياتها. لمزيد من مقالات أيمن السيد عبد الوهاب