يثير العنوان مقابلة فجة, بين قضية الثورة وقضية المواطنة, وبالطبع ليس المقصود هنا أن الثوار ليسوا مواطنين او ان الحالة الثورية تنتفي عنها صفة المواطنة. ولكن المقصود هنا, هو الاستناد لقاعدة المواطنة عند طرح قضايا التغيير والاصلاح العميق, فلا يكفي رفع شعار الثورة ولا يكفي النظر للتغيير والاصلاح من منظور واحد, فالتوافق علي صيغ الاصلاح وأساليب تحقيقه تأتي في مقدمة متطلبات التغيير الثوري. فالحديث عن المطالب الفئوية دون النظر للصالح العام, ودعاوي منع العمل في المصالح الحكومية, واللجوء الي العنف وقطع الطرق للتعبير عن الغضب او الحصول علي بعض الحقوق, والحديث عن منطق الأغلبية والأقلية وإبراز الطابع الذكوري للمجتمع في تهميش قضايا المرأة, جميعها احاديث تحولت من افكار وتهديدات الي واقع مؤسف تعيشه مصر الثورة. وهنا يجب التفرقة بين دعاوي التغيير بهدف الاصلاح والبناء وبين من يركبون موجة الثورة لتحقيق مكاسب ومطالب فئوية وسياسية وايديولوجية, ورغم أهمية التفرقة والفرز المجتمعي, تبقي العديد من المشاكل المحيطة بعملية البناء والاصلاح, يأتي في مقدمتها: ما أفرزته حالة البطء والركود في اتجاه الحكم الديمقراطي والدفاع عن حقوق المواطنين من تأثيرات سلبية واضحة علي مستوي مشاركة المواطنين في الحياة العامة من ناحية, ومدي إعلاء مفهوم المصالح الشخصية علي المصلحة العامة لدي العديد من شرائح المجتمع من ناحية أخري. فضعف التوافق المجتمعي تجاه منظومة القيم التي يجب أن تسود المجتمع وتحكم علاقاته مع الدولة, فضلا عن عدم تحديد المسئولية المدنية بين المواطنين, وضيق وضعف المجال المدني, الي جانب الأداء الضعيف للحكم الرشيد والمواطنة الفعالة من قببل المجتمع المدني والحكومة والقطاع الخاص, تمثل في مجموعها, قيدا اضافيا علي واقع مشاركة المواطنين حاليا, وتفسر أسباب تشتت الرؤي وتعدد المصالح وعدم تحديد الاولويات في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها مصر. فإن كان الهدف المعلن هو استعادة مصر ووضعها في المكانة التي تستحقها دوليا, فإن إعادة بناء الدولة المصرية كدولة ديمقراطية تستند الي حكم القانون والمؤسسات يقتضي من الجميع أن يكون النهج الثوري محددا برؤية وآليات واضحة تمكنها من تجاوز المرحلة الانتقالية الحالية, التي تعالت فيها دعاوي الحصول علي مكاسب حقوقية, بعضها مشروع وكثير منها محاولة لاستغلال الظروف الداخلية والدولية من خلال ممارسة المزيد من الضغط علي أركان الدولة. فمطالبة بعض الفئات من أبناء النوبة بالتأكيد علي الخصوصية النوبية هو حق يفرضه القبول بالتعددية الثقافية والاجتماعية في أي مجتمع, لكن هذه الخصوصية تظل جزءا من الهوية المصرية الام, لا تستدعي معها مطالبة بعض المتشددين بتبني النهج الانفصالي عن المجتمع الام, او ايجاد وضع استثناء لشريحة من المجتمع تحت دعاوي التعرض للظلم. كما ان المطالب الاخري الخاصة بالعودة الي الموطن الاصلي يجب ان تظل في اطار المشكلات الاجتماعية او المطالب الخاصة ببعض شرائح المجتمع اما محاولة طرحها في اطار سياسي في هذه اللحظة التي قد يراها البعض انها فرصة لممارسة المزيد من الضغط لتحقيق مطالب تاريخية فهو امر يثير الكثير من الحساسيات والحسابات ويضع القضية في اطار يتجاوز كونها قضية اجتماعية ثقافية الي قضية سياسية, ويخرجها من المنظور الحقوقي لفئة من الشعب تري انها تعرضت لبعض الظلم الي توصيفات اخري لا اعتقد ان اهلنا في النوبة يريدونها او يسعون اليها, فتعقيدات المشهد في السودان واتخاذ قضية التدخل الانساني سبيلا للتدخل في شئون الدول من جانب المجتمع الدولي, لاتجعل المنظور الحقوقي بريئا مما تحدثه الممارسات الدولية من توظيف للقضايا الحقوقية سياسيا. وهو ما ينطبق علي بعض شرائح اقباط المهجر التي تري ان استدعاء الخارج وتقسيم المجتمع هو السبيل لمواجهة ما تشهده بعض شرائح المجتمع من المسيحيين في مصر من تمييز, كما أنه السبيل لمواجهة تنامي دور تيار الاسلام السياسي, والسبيل لتحقيق المواطنة والشعور بالامان والاطمئنان. وتمتد هذه المخاطر وليس المطالب الي تبني بعض المتشددين الاسلاميين لدعاوي الاعلان عن امارة اسلامية في سيناء, وهو خطر يتجاوز في سلبياته وتداعياته حتي علي مستوي الترديد الاعلامي الشعور بالتمييز والانعزال كما يطرحه بعض النوبيين او المسيحيين من شعب مصر الي محاولة ايجاد دولة داخل الدولة. هذه المخاطر التي تهدد مصر في المرحلة الراهنة بمستوياتها السابقة, تحت منطق الحصول علي الحقوق الأساسية للإنسان المصري, تفترض أيضا أن يعي الجميع متطلبات المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر حاليا, وفي مقدمتها الانفلات الامني, وضعف الجهاز الشرطي, وغياب المؤسسات المنتخبة, وتشهد أيضا العديد من اشكال ضعف الثقة بين المواطن والمؤسسات القائمة السياسية والبيروقراطية, وتشهد كذلك حالة من التشابك السياسي بين الأحزاب والقوي السياسية التي تبحث عن موضع قدم في الساحة السياسية المصرية. والحقيقة انه مع استبعاد منطق المؤامرة التي نجد بعض ملامحها فإن المطالبة بحق المواطنة هو حق أصيل, وإن لم تحققه الثورة فإنها لن تكون ثورة وإنما مجرد حركة تغيير سياسي, وبالتالي لا يجب النظر الي هذه الدعاوي المتطرفة والتي تمس اركان الدولة من منظور حقوقي, ولكن يجب مواجهتها مجتمعيا ومن قبل قوي المجتمع المدني باعلاء قيمة مسئولية المواطن تجاه وطنه, فأخلاق وقيم التحرير التي برزت وبدت حاكمة لمشهد الثورة علي مدار ثمانية عشر يوما, يجب ألا تكون حالة استثنائية, بل ينبغي أن تتحول لنمط حاكم لتفاعلات المواطنين وأنماط السلوك فيما بينهم, وأن تصبح ركيزة تبني عليها مؤسسات الدولة, وذلك حتي يمكن تجاوز تأثيرات المشهد الراهن التي تهدد الثورة وتمس هيبة الدولة. وهنا يمكن الاشارة تحديدا لقيمة المواطنة, وما شكلته من إطار حاكم للعديد من القيم الاخري, مثل: التسامح, والحوار, والمسئولية الاجتماعية, والقبول بالتعددية. كما أن تحقيق المواطنة يعني في الحقيقة امتلاك أو التمتع بالحقوق الأساسية, وتحمل المسئوليات والواجبات تجاه الدولة, والسعي نحو تحسين حياة كل المواطنين وتعزيز الصالح العام. بهذا المعني يجب الوقوف علي مفارقة اجتذاب العمل السياسي للعديد من التيارات والقوي السياسية الجديدة أو الشبابية وهو أمر مفهوم ومتوقع بعد انقطاع طويل عن العمل السياسي ولكن ما هو غير مقبول هو انكماش المجال المدني بعد الثورة, وضعف المبادرات والأدوار والفرص الداعمة للعمل المدني والساعية لإيجاد مسئولية مدنية تتولاها منظمات المجتمع المدني. يلعب من خلالها المواطن دورا كبيرا في ترسيخ الممارسات التعاونية للمشاركة, ويتدرب من خلالها أيضا علي الممارسة الديمقراطية في إدارة شئون الحياة, وفي تعزيز فرص الحكم الديمقراطي. وإن كانت تشابكات الصورة الراهنة تشير الي العديد من مخاطر المساس بأركان الدولة المصرية وهيبتها, فإنها في المقابل تقتضي التفكير والعمل علي وضع أسس صلبة تجمع المصريين كافة علي قاعدة المواطنة.