تحفل الساحة السياسية بالعديد من التصورات لحل الأزمة القائمة في بلادنا, منها ما يدعو للاستشهاد دفاعا عن الشرعية, و منها ما يدعو لإبادة الإخوان المسلمين و استئصالهم من ساحة العمل السياسي. غير أن ثمة مبادرات تسعي إلي الحل السياسي للأزمة; و من المتوقع في الأيام القادمة تزايد تلك المبادرات عبر الوسطاء المصريين و الإقليميين بل والدوليين. ولو حاولنا استشراف احتمالات نجاح تلك المحاولات في ضوء تراث علم النفس السياسي وجب أن نضع في الاعتبار أن الصراع القائم في بلادنا صراع بين سلطتين تتنازعان الشرعية ولا تعترف أيهما بشرعية السلطة الأخري: سلطة تستند إلي اختيار الشعب للدكتور مرسي رئيسا للبلاد في الانتخابات الأخيرة, وسلطة تستند إلي أنه قد تم عزله وقامت سلطة جديدة بناء علي ثورة شعبية منذ3 يوليو.2013 وينبغي التنبه في هذا المقام إلي خطأ اختزال حل ذلك الصراع في إنهاء اعتصامات أنصار الدكتور مرسي استنادا للشرعية والشريعة معا سواء بالقوة المفرطة أو الناعمة أو حتي بالانسحاب التكتيكي; فعودة المعتصمين إلي منازلهم لا يعني تركهم لأفكارهم في مواقع الاعتصام. إن التوصل إلي حل سياسي للصراع يقتضي قبول أطراف الصراع بما يطلق عليه في علم التفاوض تنازلات قاسية أو قرارات مؤلمة; بما يعني القبول بالتنازل بشكل ما عما سبق لكل طرف أن أعلن أنه خط أحمر لا تفاوض بشأنه مثل المطالبة بعودة الرئيس المعزول لممارسة سلطاته كاملة واعتبار كل ما جري من30 يونيو حتي الآن إنقلابا عسكريا علي الشرعية, في مقابل الإصرار علي أن ما حدث في30 يونيو ثورة شعبية تقتضي استبعاد جماعة الإخوان المسلمين وأنصارهم من ساحة العمل السياسي. إن القبول المتبادل بمثل تلك التنازلات القاسية يتطلب وقتا ليدرك كل طرف أن جماهير الطرف الآخر ليست بالقلة التي لا يؤبه لها ومن ثم فإنه يستحيل إنهاء وجودها ماديا أو فكريا, وأنه يصعب احتفاظ أي طرف بخطوطه القاطعة الحمراء كما هي. ويتطلب تفعيل ذلك القبول المتبادل بأي مبادرة للحل السياسي أن يسبقه إقناع كل طرف لجماهيره بأن التنازلات التي قبل بها لا تمس جوهر المبادئ; و أنها تضمن مكاسب علي المدي البعيد إلي آخره. ولا يبدو لي حتي الآن أن شيئا من ذلك قد تحقق, فما زال كل طرف يختبر قواه; وهي مرحلة ضرورية لكي يعرف الطرفان الحجم النسبي الواقعي للتنازلات المحتملة; وعادة ما تشهد هذه المرحلة تصاعدا لحدة الصراع وارتفاعا لسقف المطالب سعيا من كل طرف لتحسين موقفه في الحل السياسي التفاوضي. وقد لا تستمر تلك الفترة الدامية إلا شهورا أو حتي أياما إذا ما بقي الصراع في حدوده السياسية; و قد تمتد إلي سنوات إذا ما توافرت في المجتمع عوامل الانقسام الجغرافي عرقيا أو دينيا وهو ما لا يبدو متوافرا في مصر. وعلي أي حال فإنه لا يمكن أن يتحقق شيء من ذلك القبول المبدئي المتبادل بأي حل سياسي بأن يجلس كل طرف مع أنصاره ليحدد بنود الحل المقبول, إذ أنه آنذاك إنما يتحدث عن الحل المثالي الذي يكفل له وحده الحفاظ عل خطوطه الحمراء. فالحل المقبول إنما يعني الحل الذي يمكن أن يقبل به الطرف الآخر وهو ما لا يمكن بلوغه عمليا إلا عبر نوع من التواصل مع ذلك الطرف الآخر لاستطلاع نواياه الحقيقية; ولما كان مثل ذلك التواصل يعني بدرجة أو بأخري الاعتراف بشرعية الآخر; فإنه قد يؤدي إلي تبرؤ الجماعة علنا من أولئك الذين أقدموا علي التحاور باسمها مع طرف لا تعترف بشرعيته أصلا. تري كيف إذن تمكنت جماعات متصارعة من القبول بحلول سياسية تتضمن تنازلات قاسية بعد أن خاضت تلك الجماعات صراعات دموية طويلة؟. يشير استقراء وقائع العلم والتاريخ إلي أن نجاح أية مبادرة لا بد أن يسبقه بالضرورة استطلاع إمكانية قبولها من تلك الأطراف ويجري ذلك الاستطلاع عادة عبر ما يعرف بمفاوضات المسار الثاني أو المفاوضات غير الرسمية أو غير المباشرة; والتي قد تتم في حالة احتدام التنافر بين أطراف الصراع عبر وسيط خارجي يرفع عن الأطراف المتصارعة حرج التفاوض المباشر, وعادة ما تكون تفاصيل تلك المفاوضات بعيدة عن العيون; فكافة المبادرات التي كتب لها النجاح لم تكن تعلن تفاصيلها إلا بعد التوصل إلي اتفاق مبدئي حول إطارها; ولم يحدث قط أن نجحت مبادرة جري إعلانها دون تفاهم مسبق مهما كانت نوايا أصحابها ودوافعهم, ولم يعرف التاريخ قط تفاوضا جديا جري تحت الأضواء الكاشفة التي تدفع كل طرف للتمسك بخطوطه الحمراء. وفي حال نجاح مثل تلك المفاوضات غير المباشرة لا ينفرد بالإعلان عنها أحد أطراف الصراع ولا مجموعة محسوبة بشكل ما علي أي من تلك الأطراف مهما كانت نزاهة تلك المجموعة و تجردها; بل يصدر الإعلان عن ممثلين لطرفي الصراع أو عن طرف ثالث يرتضيه طرفا الصراع, ليبدأ بعد ذلك الحوار حول التفاصيل. الطريق إذن يبدو طويلا- ولا أقول مسدودا- أمام التوصل إلي حل مقبول للصراع; ولكن ليس من سبيل سوي التوصل إلي ذلك الحل في النهاية. لمزيد من مقالات د. قدري حفني