محافظ القليوبية ومفتي الديار المصرية يفتتحان فعاليات الملتقى البيئي الثاني للتنمية المستدامة    جامعة مصر للمعلوماتية تتعاون مع شركة اديبون لتدريب طلبة الهندسة بإسبانيا    المياه أغرقت الشوارع.. كسر في خط مياه رئيسي بالدقهلية    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    شعبة المصدرين: أوروبا تتجه للاعتماد على مصر في تلبية احتياجاتها الغذائية والصناعية بسبب توتر الأوضاع الدولية    الهلال الأحمر الفلسطينى يثمن جهود مصر فى دعم غزة منذ بداية العدوان    الطب البيطري بسوهاج يتفقد مجزر البلينا للتأكد من سلامة وجودة اللحوم المذبوحة    كسر فى خط مياه بمدينة المنصورة يغرق الشوارع وفصل الكهرباء عن المنطقة.. صور    حلمي عبد الباقي وسعد الصغير وطارق عبد الحليم في انتخابات التجديد النصفى لمجلس عضوية نقابة الموسيقيين    أكرم القصاص: جهود مصر لإغاثة غزة تواجه حملة تشويه رغم نجاحاتها الدولية    هيئة الإسعاف: نقل 30368 طفلا مبتسرا بشكل آمن النصف الأول من العام الحالي    رئيس هيئة الرقابة الصحية يستقبل ممثلى "منظمة دعم أداء النظم الصحية والابتكار    مقتل وإصابة خمسة أشخاص في إطلاق نار بولاية نيفادا الأمريكية    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات في باكستان إلى 281 قتيلًا    وسائل إعلام فلسطينية: مقتل 20 شخصا من طالبي المساعدات في قطاع غزة منذ فجر اليوم    اليوم.. مصر تحتفل ب "عيد الرياضة" لأول مرة    «يا عم حرام عليك».. شوبير يدافع عن محمد صلاح بعد زيارة المعبد البوذي    حقيقة مفاوضات النصر مع كوكوريلا    بمشاركة وزير السياحة.. البابا تواضروس يفتتح معرض لوجوس للمؤسسات الخدمية والثقافية    وزير العمل يشيد بإنشاء 38 محكمة عمالية ومكاتب قانونية مجانية    «الداخلية»: ضبط 27 قضية مخدرات في حملات أمنية على أسوان ودمياط وأسيوط    بالفيديو.. الأرصاد تكشف موعد انكسار موجة الطقس الحارة    حبس 3 أشخاص في واقعة العثور علي جثه طفل داخل شرفه عقار بالإسكندرية    البورصة المصرية تربح 3.2 مليار جنيه في ختام تعاملات الثلاثاء    منال عوض: تمويل 16 مشروعا للتنمية بمصر ب500 مليون دولار    «أحط فلوسي في البنك ولا لأ؟».. الفوائد تشعل الجدل بين حلال وحرام والأزهر يحسم    واجب وطني.. محافظ بورسعيد يناشد المواطنين المشاركة بانتخابات مجلس الشيوخ    رئيس الوزراء الفلسطيني: نطالب وفود مؤتمر حل الدولتين بمزيد من الضغط الدولي    وزير الصحة: إصدار 28 ألف قرار علاج على نفقة الدولة ل مرضى «التصلب المتعدد» سنويًا    في هذا الموعد.. «راغب ونانسي» يحييان حفلًا غنائيًا ضخمًا في لبنان    انطلاق تصوير فيلم «ريد فلاج» بطولة أحمد حاتم    ليلة استثنائية مع الهضبة في العلمين والتذاكر متاحة على 5 فئات    تدريبات خاصة ل"فتوح والجفالي" بفرمان من مدرب الزمالك    معلومات الوزراء يستعرض أبرز التقارير الدولية حول سوق المعادن الحرجة    وزير الدفاع يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية    موسوي: إسرائيل كشفت عن وجهها الوحشي بانتهاكها كافة الأعراف الدولية    6 مشروبات تناولها قبل النوم لإنقاص الوزن بسرعة    تجديد الشراكة العلمية بين مصر والصين في مجال مكافحة الأمراض المتوطنة    أوقاف الفيوم تنظم ندوة حول "قضية الغُرم" بالتعاون مع مؤسسة مصر الخير    رئيس الوزراء: الحرف اليدوية أولوية وطنية.. واستراتيجية جديدة لتحقيق طفرة حتى 2030    «التضامن» توافق على إشهار جمعيتين في محافظة البحيرة    نتنياهو يقترح خطة عمل جديدة لغزة.. ماذا تتضمن؟    مقتل 16 شخصا وإصابة 35 في غارات روسية جنوب شرق أوكرانيا    نقيب المهندسين ل طلاب الثانوية العامة: احذروا من الالتحاق بمعاهد غير معتمدة.. لن نقيد خريجيها    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    القبض على رمضان صبحى فى مطار القاهرة أثناء العودة من تركيا    سميرة صدقي: والدي قام بتربيتي كأنني رجل.. وجلست في مراكز عرفية لحل المشاكل (فيديو)    "بقميص الزمالك".. 15 صورة لرقص شيكابالا في حفل زفاف شقيقته    «هيدوس على النادي ويخلع زي وسام».. نجم الزمالك السابق ينصح بعدم التعاقد مع حامد حمدان    يوسف معاطي: سعاد حسني لم تمت موتة عادية.. وهنيدي أخف دم كوميديان    رئيس الإسماعيلي يعلق على أزمات النادي المتكررة    الاَن.. الحدود الدنيا وأماكن معامل التنسيق الإلكتروني للمرحلة الأولى 2025 في جميع المحافظات    ياسر الشهراني يعود إلى القادسية بعد نهاية رحلته مع الهلال    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    5 أبراج «معاهم مفاتيح النجاح».. موهوبون تُفتح لهم الأبواب ويصعدون بثبات نحو القمة    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة السورية ومسارات التدويل .. (13-1).. « الكمائن» و « الهررة»
نشر في الأيام المصرية يوم 20 - 03 - 2013


د. أكرم حجازي
... وكأن قيادات « المركز» كانت تنتظر الثورة السورية على أحر من الجمر كي تلتفت إلى أخطر لحظة يمر فيها النظام الدولي. إذ ما من سابقة استطاعت أن تحشر النظام الدولي في زاوية الخطر والتهديد، منذ نشأته بعد الحربين الأولى والثانية، كما فعلت الثورة السورية ولمّا تزل حتى هذه اللحظة. بل يمكن القول بكل ثقة أنه ما من لحظة إذلال ضربت « المركز» في عمقه العصبي كما تضربه وقائع وجغرافيا الثورة السورية. ومع أنها فرضت عليه أن يخوض صراعا طاحنا على النفوذ بين شقيه الشرقي والغربي، إلا أنه ما من خيار أمام « المركز» إلا أن يحرص كل الحرص على تأمين استقرار نظامه الدولي وسلامة أمنه من جديد، عبر: (1) إحكام الحصار على الثورة للحيلولة دون الوقوع بأي فراغ للسلطة، و (2) تهيئة ميادينها، مبدئيا، لاقتتال داخلي في مراحل لاحقة إنْ عجز عن فرض الحل الذي يريد، بحيث تبقى سوريا هي التي تدفع الثمن وليس النظام الدولي.
ما من شك أن نظاما دوليا جديدا في طور التشكل، طوعا أو كرها، على ظهر الثورة السورية. وما من شك أيضا أن كل القوى الدولية والإقليمية، المعنية بالصيغة الجديدة للنظام الدولي، إلا وتخوض أعتى معاركها الوجودية في هذه اللحظة الفارقة من الزمن!!! ف « المركز» والنظام الإقليمي والعربي والطوائف والأقليات و « إسرائيل» وتركيا وإيران بما فيها الطائفة العلوية .. كلهم يخوضون معركتهم الفاصلة.
وفي المقابل؛ وبدلا من أن تستغل القوى السياسية السورية هذه اللحظة، وتنكفئ إلى الداخل حيث قوى الثورة وأدوات القوة القادرة على تحطيم كل أدوات الهيمنة الدولية وبيادقها؛ نراها تنزلق منذ اللحظة الأولى في أتون النظام الدولي وأروقته ومؤسساته وفلسفاته وسياساته وأطروحاته ومؤتمراته بحثا عن نصرة موهومة أو حل سياسي يتوج « نضالاتها» البائسة. وبهذا الانزلاق تكون بعض القوى، أفرادا وجماعات، قد نزلت عن الجبل مبكرا جدا، وصارت تستثمر في الثورة وتبحث عن المكاسب والثراء والرفاهية كما يبحث غيرها عنها في الخارج، ففتحت الباب على مصراعيه، لكل القوى المنحرفة في الخارج كي يصيب فسادها قوىً عسكرية في الداخل كان لها صولات وجولات. بل أن بعضها ممن برع في السلوك البراغماتي ويعمل تحت سقف النظام الدولي، وطبقا لمواصفاته، فضل، كعادته، الاكتفاء بضخ الأموال في الدعاية والإعلان والتصوير وشراء الولاءات وتخزين الأسلحة عوضا عن تزويد الثوار بها ناهيك عن الامتناع عن خوض المعارك أو تقديم العون والنصرة لمن يخوضها ويقدم دماءه رخيصة في سبيل هذه الأمة وعزتها.
هكذا تشعبت قضايا الثورة، ولم تعد موضوعاتها المركزية واضحة، خاصة بعد أن تخلل الثورة الأذى من كل جانب، وغدت لدى الكثيرين مجرد استثمار رأسمالي مربح، فصارت الثورة تخسر حينا في حين يحاول الخصوم جميعا أن يجنوا ما استطاعوا من المرابح ليس من جيوبهم بل من رصيد الثورة وما توفره من سلع قابلة للتجارة عند ضعاف النفوس .. ومع ذلك فالاستمرار والجدوى لا يتحققان بدون لحظات تمايز قاسية لا بد منها لتنقية المسارات. ومع دخول الثورة عامها الثالث كان لا بد من معاينة إجمالي الحصيلة خاصة في ضوء المتغيرات التي استجدت في الشهور الثلاثة الأخيرة. ففي هذه المدة القصيرة ثمة الكثير من الملفات الشائكة التي تستدعي التوقف عندها، وسنفعل ذلك في جزئي هذه المقالة.
أولا: الفراغ السياسي
كانت اللحظة التي اختيرت فيها الطائفة النصيرية من قوى الانتداب الفرنسي والبريطاني أمينةً على سوريا هي ذات اللحظة التي مُنِعَ بموجبها السوريون من الحرية. فبدون مصادرة حرية السوريين كان من شبه المستحيل تأمين النظام الدولي الذي بنته القوى الاستعمارية العالمية على أنقاض العالم الإسلامي. لذا فإن سوريا الطائفية لم تكن مصادفة بقدر ما كانت صاحبة وظيفة محددة تضطلع بمهمة احتواء كل حركات التحرر والتمرد والاحتجاج التي من الطبيعي أن تظهر ردا على تفكيك العالم الإسلامي وهدم نظام الخلافة. وحتى اليوم لم تتبدل هذه الوظيفة أو تتغير حتى يمكن القول أن الطائفة استُهلكت أو استنفذت أسباب تَصدُّرها الحكم في سوريا. وحتى اللحظة ما زالت الطائفة تحظى بامتياز دولي يجعل من سوريا مربطا دوليا آمنا للنظام القائم منذ مائة سنة مضت. لذا فإنْ قلنا أنه ثمة حل سياسي فهذا يعني أنه ثمة بديل، ولأنه لا بديل عن الطائفة فإنه ما من حل إلا بها. ولأنها عاجزة عن الانفراد في حكم سوريا، بسبب إرثها الدموي وما يجري اليوم، فهي إذن لا تزال موضع امتياز، لكنها بحاجة إلى إعادة تأهيل أو إسناد طائفي من الطوائف والأقليات الأخرى. وعليه فقد سبق وقلنا أن الحل المقترح لدى « المركز» هو إقامة سلطة طوائف على شاكلة لبنان. وهذا ليس تحليلا بقدر ما هو منطوق « المركز» نفسه!!!
وهنا لا بد من ملاحظة أن الحديث عن تقسيم سوريا أو توصيف المنطقة الممتدة على طول الساحل السوري بكونها مشروع تقسيم أو نواة لإقامة دولة علوية متصلة مع إيران والعراق ولبنان هو أمر بعيد عن الواقع. والأرجح أنها « قاعدة آمنة للنظام». نقول هذا لأن الطائفة تعمل بموجب الامتياز الوظيفي في حكم سوريا وليست متسلقة أو متسلطة على الحكم، في غفلة من الزمن، كما يرى البعض. أما إقامة دولة علوية فيعني، بالمحصلة، انتهاء للدور الوظيفي الذي تضطلع به منذ استدعائها من الجبل ( = المطاردة والنبذ) إلى السهل ( = المدينة حيث الامتيازات والنفوذ)، وهذا غير وارد إلا في حالة وجود بديل ليس موجودا حتى الآن، فضلا عن أن الظروف الديمغرافية المختلطة لا تُمكِّن هذه الدويلة من الحياة، لا حاضرا ولا مستقبلا. ومن جهة أخرى فإن تحول إيران إلى مربط دولي وظيفي بديلا عن المربط الطائفي في سوريا يظل احتمالا مغريا وقائما لل « المركز»، لولا أن إيران تخوض، كغيرها، آخر حروبها الوجودية، وتخسر أوراقها تباعا، فضلا عن كونها في وضع هجومي ضد الإسلام والمسلمين بفعل الطوابير الخامسة للشيعة في البلدان العربية.
هكذا يكون المتاح الأرجح دوليا هو « الحل السياسي» الذي يضمن « تأمين انتقال سلمي للسلطة»، وتصر عليه كل الأطراف، وهو الذي كشفت عنه صحيفة « لوفيغارو الفرنسية في 23/12/2012 حين أشارت إلى أن المبعوث الدولي المشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي سيسلم الأسد « خطة أمريكية – روسية» تنص على: « تشكيل حكومة انتقالية مؤلفة من وزراء مقبولين من طرفي الصراع في سوريا، على أن يحتفظ الأسد بالسلطة حتى عام 2014 لاستكمال فترة ولايته ولكن بدون أن يكون له حق إعادة الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة». وهو ما أكده الإبراهيمي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي (30/12/2012) بالقول: « أن أسس الحل السياسي موجودة، وتم التوافق عليها من القوى الكبرى ومعظم دول المنطقة، وتتمحور حول وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، ثم خطوات أخرى تؤدي إلى انتخابات: إما بانتخاب رئيس أو الأرجح انتخاب برلمان».
ولكي يتم تمرير الحل الدولي فعلى السوريين أن يفهموا، والكلام للإبراهيمي، أن: (1) « الوضع في سوريا سيئ جدا ويتفاقم بوتيرة متسارعة» .. وأنه (2) « إذا كان لا بد من الاختيار بين الجحيم والحل السياسي، فيتعين علينا جميعا أن نعمل بلا كلل من أجل حل سياسي» .. وأنه (3) « إذا كان عدد القتلى الذين سقطوا في سوريا فيما يقرب من عامين منذ اندلاع الثورة وصل إلى خمسين ألف قتيل، فإن الأمر لو استمر لعام آخر قد يؤدي لسقوط أكثر من مائة ألف آخرين» ..
بعد أسبوع (6/1/2013) من تصريحات الإبراهيمي عن وجود حل سياسي خرج الرئيس السوري بخطاب ناري، تمت مناقشة تفاصيله في طهران مع فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السوري، بحسب نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، وتحدث فيه عن الحوار مع « الأسياد وليس العبيد»، واصفا الحرب بأنها بين « الشعب والمجرمين» وبين « الوطن وأعدائه». أما الثوار فهم إما « تكفيريين» أو « إرهابيين». ولعل أغلب المراقبين، لاسيما العسكريين منهم، قد لاحظوا الاندفاعة القوية للثورة السورية في دمشق وريفها على وجه التحديد. كما لاحظوا عشية الخطاب وبعده حملة عسكرية شاملة وشرسة للنظام على مدن حلب وإدلب وحمص والرقة وأريافهما. بل أن الأسد نفسه عاد في 29/1/2013 ليقول: « أن قواته تستعيد زمام المبادرة على الأرض في مواجهة المعارضة المسلحة»، فضلا عن أن بعض قادته العسكريين هدد باستعادة حلب برمتها من أيدي الثوار!
تُرى!! ما الذي جعل الأسد منتشيا بخطابه فيما القواعد الجوية والعسكرية تتساقط بيد الثوار، الواحدة تلو الأخرى، وتنهال القذائف والصواريخ على قصره؟ وفي الوقت الذي كان يشتري فيه ذمم البعض ويدفع خمسين ألف ليرة لقاء الانضمام لجيشه، فضلا عن إعلانه في 23/1/2013 عن تشكيلات طائفية باسم « اللجان الشعبية» التي أطلق عليها « جيش الدفاع الوطني»؟ لنرى.
من الثابت أن « الحل السياسي» الذي « لا بديل عنه» يعني وجوب الأخذ بعين الاعتبار أن « المركز» سيعمل كل ما بوسعه ل « منع وقوع أي فراغ سياسي» قد يؤدي إلى انهيار جزئي أو كلي للسلطة، بما يحول دون القدرة على التحكم والسيطرة بوقائع الثورة السورية أو الحل السياسي الذي يقوم على مبدأ « تأمين الانتقال السلمي للسلطة»، وهو المبدأ الذي يعني استحالة قبول « المركز» بأي حسم عسكري للموقف من قبل الثورة. والثابت أيضا أن « المركز» يعزف عن التدخل العسكري قبل الوصول إلى الحل السياسي إلا في حالتين: (1) احتمال وقوع أسلحة نوعية أو كيماوية بيد الثوار في ظروف مجهولة، أو (2) انهيار مفاجئ في السلطة يؤدي إلى فراغ سياسي؛ إلا أن « المركز» يبدو أنه فزع من اندفاعة الثورة في دمشق فقرر التدخل احترازا، لكن ليس بشكل مباشر بل عبر استخدام القوى الموجودة على الساحة، ولأنه لا سلطان للقوى السياسية المعارضة على قوى الثورة فقد لجأ بكل وقاحة إلى الاستعانة بقوات النظام نفسها لوقف اندفاع الثورة!!! إذ أن حدوث فراغ سياسي ولو جزئي قد يتضخم ويخرج عن السيطرة.
لذا؛ فمن الطريف، في السياق، التأمل مليا بالشق الآخر من تصريحات الإبراهيمي الآنفة الذكر، (30/12/2012) ، رفقة نبيل العربي، لاسيما أنها حملت تحذيرا أمنيا إقليميا صريحا، لما فد يترتب عليه الوضع لو استمرت اندفاعة الثورة في دمشق خاصة. لنقرأ ما قاله الإبراهيمي في حينه:
« إن تطور واستمرار القتال الدائر حاليا حول دمشق، قد يؤدي إلى فرار ملايين من المقيمين في العاصمة، موضحا بأن: أمامهم في هذه الحالة وجهتين فقط، إما لبنان أو الأردن. وكلا البلدين لا يستطيعان دعم واستيعاب هذا العدد من الأشخاص الذي يقدر بخمسة ملايين»!!!!!
إذن لا بد من التدخل لوقف الاندفاع العسكري باتجاه العاصمة وحصون النظام. لماذا؟ لأن نقطة الضعف القاتلة بالنسبة لل « المركز» هي « الفراغ السياسي»، جزئيا أو كليا. وهي النقطة التي تفسر الحصار المطبق على الثورة السورية الممنوعة من التسلح النوعي. وتبعا لذلك سيكون مثيرا للانتباه إذا علمنا أن الثوار ممنوعون من التسلح النوعي ليس من الخارج فقط؛ بل وحتى من الداخل أيضا. وقد يكون من الطريف ملاحظة أن الثوار السوريين لم يقعوا، حتى اللحظة، على أية أسلحة نوعية في كافة الثكنات والقواعد العسكرية ومراكز الأمن التي اقتحموها!!! وسيكون طريفا أكثر القول بأن دخول الثوار في مواجهة مع « المركز» لا تستدعي بالضرورة مهاجمته بشكل مباشر. إذا يكفي مباغتته عبر المسارعة إلى تحطيم أدوات القوة لديه في سوريا أو إحداق اختراق عسكري يؤدي إلى نوع من الفراغ يفقد « المركز» أدواته وامتيازات وبالتالي القدرة على السيطرة والتحكم في مآلات النظام، وينسف الحل السياسي الذي يريد. لكن هل جرت الرياح أو تجري بما تشتهي السفن؟
ثانيا: كمين النشار!!!
مشكلة الخطاب السياسي للمعارضة السورية، كأي خطاب سياسي وطني في كونه محكوم بالسقف الدولي بكل آلياته ومفرداته من الألف إلى الياء. وتبعا لذلك لا يمكن لأية معارضة وطنية أن تفكر أو تشتغل بالسياسة إلا بموجب ما تسمح به المنظومات التشريعية والسياسية والحقوقية الدولية من معطيات. وبالتالي مؤهلة للترويض والاحتواء إنْ لم تكن مروضة من الأصل، وقابلة للاستنزاف السياسي إنْ لم تكن قد استنزفت، خاصة بعد تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، في 12/3/2013 والذي طالبها بالجلوس إلى طاولة الحوار مع بشار الأسد. أما أن تظن نفسها قادرة على المكر في النظام الدولي وجره إلى مطالبها وطموحاتها وأهوائها فهذا ضرب من الجنون والعبث. والحقيقة أنها أقرب من أية معارضة أخرى إلى تلقي الخديعة تلو الأخرى.
أما مشكلة المعارضة السورية ففي كونها مفككة حتى العظم، ومتصارعة كالديكة، وتشكيلاتها السياسية تم إسقاطها تعسفيا من علية « المركز»، أما تشكيلاتها العسكرية فهي لا تتعدى مكتب في غرفة لا يصلها الهواء ولا الشمس، ولا تمتلك أداة قوة واحدة على الأرض، وهي في المبدأ والمنتهى في واد والثورة في واد آخر.
لذا كان مثيرا أن تتهم المعارضة الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية ( فرنسا وبريطانيا) بالتنصل من وعودها بتسليح الثوار غداة الإعلان عن تشكيل الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة. وكان مثيرا أيضا تعقيب نائبة رئيس الائتلاف، سهير الأتاسي، على تصريحات وزير الخارجية البريطاني، وليام هيغ، حين قال أن: « بلاده تدرس الاعتراف رسمياً بهذا الائتلاف كممثل شرعي وحيد للشعب السوري، لكنها تسعى لمعرفة خطط هذا الائتلاف للانتقال السياسي في سوريا ومعرفة من الذين يعتزمون تعيينهم وكيفية توزيع المناصب، وهل سيكون الأكراد مشاركين، وما حجم التأييد الذي يتمتع به ائتلاف المعارضة داخل سوريا»؛ فردت الأتاسي بالقول: « وكأننا تحت اختبار» !! ومع ذلك؛ ظلت المعارضة تتصرف وكأنها صاحبة الولاية السياسية!! والعجيب أنها لا تجيد أكثر من الانحدار الممزوج بانتفاش، في معادلة شعرية لا ينفع معها إلى قول الشاعر: ألقاب مملكة في غير موضعها ****** كالهر يحكي انتفاخة صولة الأسد. فلنتابع بعض الانتفاخات.
ففي 15/10/2012 كشفت صحيفة « ديلي تلغراف» البريطانية أن: « الإبراهيمي يعد خطة لإنشاء قوة لحفظ السلام بسوريا، قوامها 3000 جندي، ويمكن أن تضم جنودا أوروبيين لضبط الأمن في إطار هدنة مستقبلية». وأنه: « يبحث مشاركة الدول التي تُسهم حاليا في قوات يونفيل في لبنان»، وأنّ: « من المتوقع أن تقوم إحدى الدول الأوروبية المشارِكة فيها بدور قيادي في حفظ السلام بسوريا». وفي وقت لاحق نفى الإبراهيمي صحة الخبر على خلفية ردود الفعل المناهضة لما اعتبره البعض توطئة لتدخل دولي!!!
وفي 30/11/2012، بعد تشكيل الائتلاف المعارض، جدد الإبراهيمي طلب إرسال قوات حفظ سلام « قوية» إلى سوريا مشيرا إلى أن: « مثل هذه القوات لا يمكن أن توجد بدون قرار من مجلس الأمن الدولي، مما يعني ضرورة موافقة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وكذلك موافقة سوريا (حكومة ومعارضة)، وإلا فسيتم التعامل مع القوات على أنها جيش أجنبي». فسال لعاب المعارضة التي ظنت أنها غدت صاحبة الولاية والسيادة. وردت في اليوم التالي بالسماح لهذه القوة بالانتشار إذا تخلى الأسد وأعوانه عن السلطة. وجاء الرد في 1/12/2012 على لسان المتحدث باسم الائتلاف، وليد البني، خلال مؤتمر صحفي في القاهرة، في ختام أول اجتماع له، قائلا: « إن الائتلاف مستعد للنظر في أي اقتراح إذا رحل الأسد وحلفاؤه بمن فيهم كبار الضباط في الجيش وأجهزة الأمن، وأضاف أنه إذا تحقق هذا الشرط أولا فإن الائتلاف يمكن أن يبدأ في مناقشة أي شيء»، مشيرا إلى أنه: « لن تكون هناك أي عملية سياسية حتى ترحل الأسرة الحاكمة وأولئك الذي يعاونون النظام».
وتحت وطأة المعارك الطاحنة خاصة حول دمشق، تعالت ردود الفعل الدولية المطالبة برحيل الأسد عن السلطة أو المنذرة بسقوطه. وفي 13/12/2012 تحدث الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، أندرس فوغ راسموسن، رفقة رئيس الوزراء الهولندي، مارك روت، في مقر الحلف ببروكسل، قائلا: « أعتقد أن النظام في دمشق يوشك على الانهيار.. أعتقد أنها أصبحت الآن مسألة وقت فحسب». ورغم النفي اللاحق لرسمية تصريحاته في 13/ 12/2012، التي وردت في سياق كلمة ألقاها أمام الغرفة الاجتماعية الروسية، إلا أن قناة « روسيا اليوم» نقلت عن المبعوث الروسي الخاص لشؤون الشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، قوله: « ينبغي أن نواجه الحقائق، النظام والحكومة في سوريا يفقدان السيطرة على المزيد والمزيد من الأراضي». وأضاف: « للأسف لا يمكن استبعاد انتصار المعارضة السورية»، بل أن بوغدانوف يرى أيضا أن: « الأزمة في سوريا أعمق بكثير من موضوع بقاء أو سقوط نظام الأسد». ونقلت الجزيرة عن نائب قائد الجيش السوري الحر، العقيد مالك الكردي، تأكيده على تراجع قوى النظام في دمشق قائلا: « إن النظام أصبح يفقد السيطرة تدريجيا على البلاد .. والجيش الحر أصبح بوضع متقدم عما كان عليه سابقا .. ويكاد يحكم السيطرة بشكل كامل على سوريا وعلى دمشق بشكل خاص».
بمثل هذه التصريحات تهيأت الأجواء السياسية والإعلامية لتصيب المعارضة بنشوة عارمة نفشت ريشها حتى كتمت أنفاسها. وخرج معاذ الخطيب مغردا في 14/12/2012 على غير العادة ليعلن أن المعارضة: « ستدرس أي عرض من الرئيس السوري بشار الأسد لتسليم السلطة ومغادرة البلاد»، لكن: « المعارضة لن تعطي أي ضمانات للأسد إلى أن ترى عرضا جادا لحل الأزمة» .. ( وعليه ) ... « أن يدرك أنه ليس له دور في سوريا أو في حياة الشعب السوري وأن الأفضل له أن يتنحى» ..؛ كما أن: « الشعب السوري لم يعد بحاجة إلى تدخل قوات دولية بسوريا، خاصة مع تقدم مقاتلي المعارضة نحو وسط دمشق»، لكن مع تضخم الانتفاخ لا بد من القول أن: « هناك وعود بتقديم مساعدة عسكرية، ... وتبعا لذلك قدم ثلاثة سيناريوهات لسقوط الأسد، أولها: « أن يختار القتال حتى النهاية»، والثاني: « أن يحدث شيء داخل النظام نفسه، إما انقسام أو تغيير من الداخل»، والثالث: « أن يخرج الأسد من خلال مفاوضات». أما عن القوى العالمية والإقليمية، والكلام للخطيب، فهي المسؤولية عن صعود: « المتشددين الإسلاميين في سوريا»، موضحا إلى أن: « تقاعس العالم عن منع قوات الأسد من قتل محتجين مسالمين منذ مارس / آذار 2011 هو السبب الأساسي». لكن « نشوة» الخطيب، وهو الذي لديه الكثير من الوقت ليكتب عن العادة السرية واعظا، بلغت ذروتها في الموقف من الروس، الذين بدوا بحاجة له كي يمد لهم يد العون: « الروس أفاقوا ويشعرون بأنهم ورطوا أنفسهم مع النظام السوري لكنهم لا يعلمون كيف يخرجون»!!! لذا فقد بدا له سهلا استبعاد أي اقتراح روسي يبقي الأسد في السلطة قائلا: « من المشين لدولة ذبيحة أن تقبل قاتلا ومجرما رئيسا لها».
لكن؛ ما هي إلا بضعة أيام حتى كشفت صحيفة « لوفيغارو - 23/12/2012» الفرنسية عن توافق دولي بين أمريكا وروسيا لحل الأزمة في سوريا. وتوجه الإبراهيمي إلى دمشق لعرض الخطة على الرئيس السوري. أما الخطة فتتضمن، بحسب الصحيفة، تشكيل حكومة انتقالية مؤلفة من وزراء يحظون بقبول طرفي الأزمة في سوريا، على أن يحتفظ الأسد بالسلطة حتى استكمال ولايته عام 2014، ولكن دون أن يحق له الترشح في الانتخابات القادمة. وفي أعقاب ذلك وجه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، رفقة الأخضر الإبراهيمي في موسكو (28/12/2012)، الدعوة للخطيب: « للدخول في مفاوضات لتسوية النزاع في سوريا». إلا أن رئيس الائتلاف، الواقع تحت هوس النشوة، رفض، في اليوم التالي، الدعوة بإباء، مطالبا روسيا ب: « إدانة واضحة للنظام السوري وإعلان جدول أعمال واضح له» .. وأن: « على وزير الخارجية الروسي الذي تحدث عن هذا الحوار أن يقدم اعتذارا للشعب السوري على موقف بلاده الذي ساوى بين الضحية والجلاد». أما لافروف الذي « فوجئ»، في حينه، برفض الخطيب لدعوته فقد وصف الموقف بأنه: « ينم عن قلة خبرة سياسية». ومن جهته، ارتفع منسوب النشوة لدى عبد الأحد اسطيفو، عضو الائتلاف، لتصيب دعوة لافروف والإبراهيمي بالقول: « إن مبادرات الرجلين لم تأت بجديد، ولا تعدو أن تكون تكرارا ... نحن في الائتلاف لا ننتظر لا من الأسد ولا الإبراهيمي ولا لافروف؛ مبادرات لنقل السلطة.. ليستمروا في عقد مؤتمراتهم الصحفية ومبادراتهم». أما أنت فما عليك إلا أن تستمر في هذيانك.
وفعلا وصل الإبراهيمي إلى دمشق في 24/12/2012، وأجرى سلسلة من الاجتماعات واللقاءات. وبعد أنهار الدماء وفداحة الخسائر وهول المعاناة حصل الإبراهيمي على ما يلزمه من « التشريف»، وخرج ليقول: « تشرفت بلقاء الرئيس وتكلمنا في الهموم الكثيرة التي تعاني منها سوريا في هذه المرحلة .. أنا تكلمت عما رأيته في الخارج في المقابلات التي أجريتها في المدن المختلفة مع مسؤولين مختلفين في المنطقة وخارج المنطقة، وعن الخطوات التي أرى أنها قد تساعد الشعب السوري .. الوضع في سوريا لا يزال يدعو للقلق، ونأمل من الأطراف كلها أن تتجه نحو الحل الذي يتمناه السوري ويتطلع إليه». ومن جانبها ردت المعارضة على لسان رئيس اللجنة القانونية في الائتلاف، هيثم المالح، بوصف الخطة الدولية ب « الهراء، مشيرا في تصريحات ل « الجزيرة»: أن « الائتلاف يمثل الشعب ولا يمكن له أن يرضى بطرح كهذا، وإلا فسيؤدي ذلك إلى سقوطه أمام الشعب» .. ومتسائلا .. « كيف يمكن أن يكافأ القاتل على جرائمه ببقائه في السلطة؟». إلى هنا سنرى من سيسقط.
أما سمير النشار فاكتشف، على حين غرة، أن « الجديد» فيما يخطط له « المركز»، والذي غفل عنه هذيان اسطيفو، هو « الحوار مع النظام» وليس « تسليح الثورة»، فسارع إلى القول في تصريح ل « الجزيرة - 29/12/2012» بأن: « هناك كمين سياسي هدفه جر المعارضة السورية لتكتفي بتنحي بشار الأسد»، في حين أن الهدف من الثورة هو: « تغيير النظام السوري ككل». والله صح النوم. فأي « كمين سياسي» هذا الذي يجري الحديث عنه؟ هل هو بقاء الأسد من عدمه؟ أم بقاء النظام بكل تشكيلاته؟ ألا تكفي تصريحات « المركز» التي باتت تصم الآذان، ليل نهار، وهي تتحدث بصريح العبارة عن حقوق الطوائف والأقليات وتحتفظ بكل مؤسسات الدولة على حالها؟ وما قيمة أي حل سياسي يرحل فيه الأسد ويبقى النظام في صيغة دولة طوائف وأقليات تحت يافطة الدولة المدنية الديمقراطية المزعومة زورا وبهتانا؟
واقع الأمر ببساطة؛ أن المعارضة كانت تنتظر وعود السلاح لحسم الموقف عسكريا!!! فإذا بها تُدعى من شتى الأطراف الدولية، وليس من موسكو فحسب، إلى الحوار مع النظام!!! وهي الدعوة التي مهدت الطريق أمام رئيس الوزراء السوري، وائل الحلقي، كي يعلن بخبث أمام « مجلس الشعب» السوري، في 31/12/2012 بأن: « حكومته على استعداد للتجاوب مع أي مبادرة إقليمية أو دولية لحل الأزمة في سوريا بالحوار والطرق السلمية»!! ثم تبعها تأكيد السفير الباكستاني، بوصفه رئيس مجلس الأمن الذي أكد في 4/1/2012 أن: « خطة العمل بشأن سوريا موجودة بالفعل، ولكن الإبراهيمي يحاول وضعها موضع التنفيذ». وبالتالي فما على المعارضة إلا أن تقرّ بأنه لا مفر من الحل السياسي بالصيغة التي تحفظ استقرار النظام الدولي وأمنه حتى لو كان عبر الحوار مع النظام أو بقائه سواء رحل الأسد أم لم يرحل. وهو ما يجعل منها شاهد زور على حل ليس للشعب السوري فيه ناقة ولا جمل. فهل يعتقد أبله، أن خطاب الأسد في 6/1/2013 كان خارج السياق الدولي!!!؟
ثالثا: كمين الخطيب
كل العملية السياسية الجارية تستند إلى « اتفاقية جنيف» الموقعة في 30/6/2012، والتي تتحدث عن عملية انتقال سلمي للسلطة وحكومة انتقالية، مع غياب أي وضوح فيما يتعلق بمصير الرئيس السوري بشار الأسد. وهو ما يروق للروس مبدئيا. ولأن المعارضة تشترط القبول بالحل السياسي بدون الأسد فقد حاول الإبراهيمي امتصاص ردود فعل المعارضة كي تشق الاتصالات السياسية مع الأطراف طريقها دون عقبات. وفي السياق نفى في 30/12/2012 أن يكون طرح جانبا موضوع تنحي الأسد عن السلطة، وقال: « إن هذه القضية يجب أن تُبحث». وفي تصريح له لمحطة « BBC – 9/1/2013 وصف الإبراهيمي خطاب الأسد (6/1/2013) ب « الطائفي»، ولأنه: « يريد أن تكون الحكومة السورية من بين المتحاورين» (4/1/2013)، فقد تراجع عن الوصف في تصريح لوكالة « رويترز» للأنباء في اليوم التالي، بعد احتجاج الحكومة السورية، إلى مربع « زلة لسان!!! لكنه أعلن لأول مرة في مقابلة مع « رويترز – 10/1/2013 » أنه لا مكان للأسد بالحكم الانتقالي، قائلا: « بكل تأكيد لن يكون عضوا في هذه الحكومة». وهكذا بقي الاعتذار وذهب الأسد به!! لكن هل حقا ستكون هناك عملية سياسية بدون الأسد!؟
من جهته استبعد وزير الخارجية السعودية، سعود الفيصل، أي تسوية للأزمة السورية من خلال التفاوض. وخلال مؤتمر صحفي في قمة الرياض التنموية (22/1/2013) قال الفيصل: « إن المأساة تكمن في وجود حكومة ترفض أي حل وتتصور أن كل من يقاتلها إرهابي». لكن المدهش في تصريح الفيصل كانت تلك العبارة التي ألحقها بتصريحه حول الزيادة في إجرام النظام السوري، حين قال بأنه: « ازداد بعد تعيين الإبراهيمي»!!! أما نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، فقال: « أعتقد أن النزاع قد يطول. وأن بلاده لا تستبعد تقليص طاقمها الدبلوماسي في سوريا»، مضيفا: « أن الأزمة في سوريا ستطول أكثر على الأرجح». وهكذا لم يتبق لشيخ عشائر الجامعة العربية، نبيل العربي، إلا التسليم التام بالقول: « أجد نفسي مضطرا لِأن أقر بأن جميع الاتصالات التي أجراها الإبراهيمي لم تسفر حتى الآن عن أي بارقة أمل لوضع هذه الأزمة على طريق الانفراج وبدء المرحلة الانتقالية التي تقررت منذ أكثر من ستة أشهر». وفي اليوم التالي 24/1/2013 لحق بهم كل من وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، الذي أكد في الأولى: « أن المعلومات الأخيرة تظهر أن الوضع جامد»، وفي الثانية أن: « المحادثات الدولية لا تتقدم، وفي الثالثة أن: « ضمان سوريا موحدة تحترم كل مجموعاتها أهداف تبقى بعيدة المنال» حاليا. وكذلك السفير الإيراني لدى بغداد، حسن دانائي فار، الذي استعمل نفس عبارة فابيوس الثالثة في توصيفه للحل السياسي بأنه: « بعيد المنال»، معبرا عن اعتقاده أن الصراع في سوريا: « فيه ملامح حرب أهلية».
لا أحد في العالم يتمسك بالأسد أو يراهن عليه. فهو في أحسن أحواله لم يعد حتى بيدقا يحمل أية قيمة، لكن الروس يريدون الاحتفاظ به رهينة بأيديهم في مواجهة الغرب الذي يرغب بإزاحته سعيا لنيل ثقة المعارضة التي استنزفتها الوعود الكاذبة والشعور العميق بمرارة التآمر العالمي على الثورة وعلى سوريا التي يجري تدميرها أمام سمع وبصر العالم. لكن الوضع السياسي بدا محبطا حتى للروس، أو مبعثا لتعارضات في موقف الساسة الروس. وفي هذا السياق يأتي تصريح رئيس الحكومة، ديمتري مدفيديف، الذي سبق أن حذر الأسد مما وصفه بمصير محزن ينتظره إذا لم ينفذ الإصلاحات ويصالح المعارضة. ففيما بدا تحميلا للأسد عن مسؤوليته في فشل الاتصالات الدولية، وربما تهديدا له لحسابات سياسية روسية خاصة، أعلن مدفيدف في مقابلة مع قناة « CNN – 27/1/2013 » الأمريكية: « إن أيام الأسد قد تكون معدودة». ومن الطريف أن تثير مثل هذه العبارة شهية البعض في توهمه عن تغير في الموقف الروسي.
لكن ما من حقيقة حالت دون التطلع إلى الحوار مع النظام خاصة من قبل معاذ الخطيب. لا كمين النشار! ولا تصريحات الفيصل أو العربي أو فابيوس ولا بوغدانوف أو مدفيدف. ففي أجواء « الجمود» و« بعد المنال» وغياب أي « بارقة أمل» استفاقت المعارضة برمتها على « ضربة فأس» من العيار الثقيل نجمت عن كمين « شخصي» حبكه رئيس الائتلاف، أحمد الخطيب، وأعلن عنه بنفسه على متن صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي« فيسبوك» يوم 30/1/2013. فقد أبدى الخطيب، الذي لا يثق بالنظام كما يقول ولا يأتمر بأوامر أحد وليس له أجندة ولا يعترف بالضغوط، استعداده « للجلوس مباشرة مع ممثلين للنظام» مقابل الإفراج عن 160 ألف معتقل بمن فيهم المعتقلون في سجون المخابرات الجوية وسجن صيدنايا، وتمديد جوازات سفر كل السوريين في الخارج لمدة عامين!! مشيرا إلى أن تلبية تلك الشروط تعد ثمنا أوليا لأي حوار محتمل مع ممثلين للنظام. واقترح نائب الرئيس السوري، فاروق الشرع، كشخصية مقبولة للحوار. وفي 7/2/2013 أمهل الخطيب الحكومة السورية بالرد على مبادرته إلى نهاية يوم الأحد 9/2/2013. وقال في تصريح لمحطة ال « BBC » البريطانية: « هذه الأمور ليست إلى يوم الدين، إطلاق سراح النساء (يجب أن يتم) حتى يوم الأحد القادم .. يعني إذا تأكدت أن ثمة امرأة واحدة (في السجن) في سوريا (الأحد)، أعتبر أن هذه المبادرة قد رفضها النظام. وهو يقفز ويرقص على جراح شعبنا وآلامه وتعذيب النساء».
أما المعارضة السورية فردت على المبادرة في يوم صدورها عبر المجلس الوطني بالقول أن: « تصريحات رئيس الائتلاف لا تعبر عن موقف الائتلاف الوطني السوري وتتناقض مع النظام الأساسي للائتلاف ووثيقة الدوحة المؤسسة للائتلاف من رفض قاطع للتفاوض مع النظام المجرم، والإصرار على رحيله بكل رموزه». وفي تصريحات فورية له صب عضو الائتلاف، كمال اللبواني، جام غضبه على الخطيب حين قال: « نطالب معاذ الخطيب بالتراجع أو فليقدم استقالته من رئاسة الائتلاف، وليصبح عضوا عاديا يعبر عن رأيه بالشكل الذي يريده .. نحن كائتلاف نرفض ذلك ونعتبره مسيء تماما وندعو لاجتماع لسحب الثقة منه .. معاذ الخطيب يمثل نفسه وسنسأله عن ذلك وسنجبره على الاستقالة، وإذا لم يستقل من الرئاسة سنستقيل نحن من الائتلاف ولن نكون من يبيع دماء الشهداء». أما زميله هيثم المالح فرأى، باعتباره أمين اللجنة القانونية في الائتلاف، أن دعوة الخطيب: « تتعارض كلية مع النظام الأساسي للائتلاف ومع اتفاقيات الأطياف المشاركة في الائتلاف ومع مطالب الشعب السوري الرافضة للالتقاء مع عصابة القتلة والإجرام»، مؤكدا أن الخطيب: « لم يستشر أي عضو من أعضاء الائتلاف خاصة الهيئة السياسية».
واعتبر رئيس التجمع من أجل الثورة، خالد قمر الدين، أن أي شيء يخرج عن ثوابت الثورة السورية ليس مقبولا، وأن ما يطالبون به الآن هو وقف شلال الدم، وما دون تلك الدعوات نابعة من: « ناس يعيشون في فانتازيا سياسية ولا يعيشون على أرض الواقع»، مستحضرا في الوقت نفسه مشهد: « أم تبكي على ابنها وهو مقصوص الرقبة»، ومتسائلا: « هل هذا أغلى من جواز سفر؟ هل جوازات السفر أغلى من روح ودماء السوريين؟».
وفي اليوم التالي للمبادرة (1/2/2013) عقد الائتلاف اجتماعا في القاهرة أعلن فيه أن أي تفاوض بشأن مستقبل سوريا يجب أن يرتكز على رحيل نظام الرئيس بشار الأسد ورموزه. وفي 5/2/2013 حذر مسؤول في الائتلاف بالقول أنه: « ينبغي أن يجتمع الائتلاف لرسم إستراتيجية عاجلة بعد أصداء المبادرة وانتهاز القوة الدافعة التي خلقتها بغض النظر عن تحفظات بعض الأعضاء». ومع ذلك فقد كان للمجلس الوطني موعدا ساخنا مع الخطيب في بيان نشره على صفحته على موقع « فيسبوك - 5/2/2013 » هاجم فيه المبادرة: « إن ما سمى بمبادرة الحوار مع النظام، إنما هي قرار فردي لم يتم اتخاذه ضمن مؤسسات الائتلاف .. ولم يجر التشاور بشأنه، ولا يعبر عن مواقف والتزامات القوى المؤسسة له» .. وأن .. « تلك المبادرة تتناقض مع وثيقة تأسيس الائتلاف التي تنص على أن هدف الائتلاف إسقاط النظام القائم برموزه وحل أجهزته الأمنية والعمل على محاسبة المسؤولين عن سفك دماء الشعب السوري وعدم الدخول في حوار أو مفاوضات مع النظام القائم». وبخلاف مزاعم الخطيب عن شخصية المبادرة قال البيان أن: « قوى إقليمية ودولية تشارك في هذه المبادرة، طالما كانت شريكا فعلياً للنظام على مدى عامين في قتل السوريين وإبادة عشرات الآلاف منهم وتدمير قرى وبلدات وأحياء بكاملها» .. واعتبر البيان لقاء الخطيب بوزير الخارجية الإيراني في مؤتمر ميونخ في 2/2/2013: « طعنة للثورة السورية وشهدائها، ومحاولة بائسة لتحسين صورة طهران وتدخلاتها في الشأن السوري ودعمها النظام بكل أدوات القتل والإرهاب، وهي خطوة يرفضها المجلس الوطني السوري بكافة صورها ما دامت إيران تساند النظام وتقف إلى جانبه».
وإذا أخذنا بعين الاعتبار ردود الفعل الدولية وحدها؛ فمن شبه المستحيل الاعتقاد بأن مبادرة الخطيب فردية الطابع. فمن جهتها سارعت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند على المبادرة (2/2/2013) دون تردد، ففي العادة يتأنى الأمريكيون وحلفاؤهم في مثل هذه المسائل بالقول أننا، مثلا، سندرس الأمر، لكن هذه المرة سارعوا إلى الإعلان عن موقفهم: « إننا نؤيد بقوة زعامة السيد الخطيب، وأعتقد أن بايدن نائب الرئيس مهتم بأن يسمع منه حول رؤيته في تقدم عملية الانتقال السياسي، ولكني لا أريد استباق الاجتماع قبل حدوثه». وكذا وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، الذي اعتبر المبادرة بأنها: « اقتراح جدير بالتقدير الكبير»، ورأى في الخطيب: « رجل صاحب عزيمة». أما الإبراهيمي فقد رحب بالمبادرة في مقابلة على صفحات « لاكروا - 7/2/2013 » الفرنسية بالقول: « إنها مبادرة شخصية مواتية للشيخ أحمد معاذ الخطيب رغم ردود الفعل المختلفة لأعضاء آخرين في الائتلاف». وعقب اجتماعه بالقاهرة مع وزير الخارجية المصري محمد كامل عمرو، رحب بمبادرة الخطيب وقال: « نحن في الأمم المتحدة والجامعة العربية نقول باستمرار إن الحل للملف السوري يجب أن يكون سياسيا، وهذا الموقف لم يتغير ولا يزال مستمرا». وفي12/2/2013 وصف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مبادرة الخطيب بأنها: « مناسبة يجب عدم تفويتها وفرصة للانتقال من منطق عسكري هدام إلى مقاربة سياسية واعدة .. و .. عرض شجاع .. أطلب بإلحاح من الحكومة السورية ومن مجلس الأمن التجاوب معها»، وقبله الأمين العام المساعد للشؤون السياسية، جيفري فيلتمان، الذي علق في 9/2/2013 على العرض الذي قدمه الخطيب بالقول: « هو أكبر الأمور المبشرة التي سمعناها بشأن سوريا في الآونة الأخيرة». أما إيران فأبدت ارتياحها للمبادرة عبر تصريحات وزير الخارجية، علي أكبر صالحي، الذي قال في 6/2/2013 أنه: « يتصور أن حكومة سوريا مستعدة للتفاوض مع المعارضة، وأنه سيكون على الجانبين أن يجلسا معا لإجراء محادثات».
ومن جانبها اتجهت القمة الإسلامية إلى تأييد المبادرة. ففي 7/2/2013 جاء في مشروع قرار أعده وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي بشأن سوريا دعوة إلى: « حوار جاد بين الائتلاف الوطني للثورة السورية وقوى المعارضة وممثلي الحكومة السورية الملتزمين بالتحول السياسي في سوريا والذين لم يتورطوا بشكل مباشر في أي شكل من أشكال القمع من أجل فتح المجال لعملية انتقالية تمكن الشعب السوري من تحقيق تطلعاته في الإصلاح الديمقراطي والتغيير». وفي 9/2/2013 أعرب المبعوث الروسي لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، عن: « استعداد بلاده لإجراء اتصالات مع مكتبي الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» اللذان افتتحا مؤخرا في الولايات المتحدة. ومن جهتها طالبت الصين في 7/2/2013 سوريا ب: « خطوات واقعية لبلوغ مرحلة انتقال سلمي». وفي 4/3/2013 لحق البيان الختامي لدول مجلس التعاون الخليجي في اجتماعها الدوري في العاصمة السعودية – الرياض بالقاطرة، حين طالب: « الأطراف في سوريا بالتعاطي مع مبادرة رئيس ائتلاف المعارضة أحمد معاذ الخطيب الهادفة إلى الاتفاق مع أطراف النظام الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء على خطوات لنقل سريع للسلطة».
أما فيما يتعلق بالموقف الرسمي للحكومة السورية فقد تحفظت في البداية صحيفة الوطن شبه الرسمية على المبادرة حين اعتبرت في 5/1/2013 أن: « الخطيب غير مقبول كمفاوض». لكن اللغة تغيرت مع تدخل أوساط في الحكومة السورية رفضت شروط الخطيب لكنها أبدت تجاوبا ملحوظا مع المبادرة. وجاء أول رد رسمي في 7/2/2013 على لسان نائب وزير الخارجية، فيصل المقداد، مشيرا إلى أن: « هناك مبادرة من طرف واحد من أطراف المعارضة .. كل من يلقي السلاح ويأتي للحوار فأهلا وسهلا به». أما وزير الإعلام، عمران الزعبي، فقال في 9/2/2013 خلال حديث للتلفزيون الرسمي: « الباب مفتوح والطاولة موجودة، وأهلا وسهلا وبقلب مفتوح لأي سوري يريد أن يأتي إلينا ويناقشنا ويحاورنا .. أما أن يقول لي أحدهم أريد أن أحاورك في الموضوع الفلاني فقط أو أطلق النار عليك، فهذا ليس حوارا».
لكن أقوى الردود جاءت في أعقاب اقتراح الخطيب لإجراء محادثات مع ممثلين عن الأسد في المناطق التي تهيمن عليها المعارضة شمال سوريا.عقاب دعوة الوأعلن ففي حديث له مع صحيفة « الغارديان - 11/2/2013» البريطانية قال وزير الدولة لشؤون المصالحة الوطنية، علي حيدر،: « إنني مستعد للقاء السيد الخطيب في أي مدينة أجنبية يمكنني الذهاب إليها لبحث الاستعدادات لإجراء حوار وطني .. الحوار وسيلة لتقديم آلية للتوصل إلى انتخابات برلمانية ورئاسية حرة.. هذا أحد الموضوعات التي ستتم مناقشتها على الطاولة .. هذا أمر يمكن أن يأتي نتيجة للمفاوضات وليس شرطا مسبقا .. نرفض إجراء حوار لمجرد تسليم السلطة من طرف إلى آخر». وتبعا لتداعيات الاتصالات الدولية فقد قدم وزير الخارجية، وليد المعلم، في 25/2/2013 أقوى عرض للمعارضة خلال مؤتمر صحفي في موسكو أكد فيه أنهم ( في سوريا): « مستعدون للحوار مع كل من يريده، حتى من يمسك السلاح في يديه، لأننا نثق بأن الإصلاحات لن تسير عبر إراقة الدماء وإنما عبر الحوار».
الطريف أن المبادرة « الكمين» كانت فردية المنشأ والمحتوى!! لكنها في التحليل تستهدف الحصول على شرعية اجتماعية في الداخل والخارج، عبر اللعب على وتر أهالي المعتقلين الذي سيرون في المبادرة بارقة أمل لحال طال انتظاره وطالت معاناته، أو عبر معاناة المغتربين في الخارج. وبهذه الصيغة تكون بعض ردود الفعل للمعارضة قد صدقت في اعتبار المبادرة عامل انقسام اجتماعي و « إضعاف للثورة» فضلا عن الانقسام السياسي الذي سيضرب المعارضة التي ثارت ثائرتها ولم تقعد احتجاجا على تجاوز الخطيب لكل الأطر السياسية ومواثيقها سواء فيما يتعلق بميثاق تأسيس الائتلاف أو بموقف المجلس الوطني الانتقالي.
في المحصلة فالخطيب يدفع من رصيد الثورة لملاقاة النظام دون أن يحصل على أي ثمن يذكر. فهل قامت الثورة وقدمت مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمغتصبين والمختطفين والمنتهكة حرياتهم وأعراضهم وملايين المهجرين والمنازل المدمرة والبنى التحتية من أجل من اعتقلوا خلالها؟ أو من أجل جوازات السفر التي لم تكن في يوم ما مشكلة لكافة المعارضين للنظام في الخارج؟
الأطرف أن الخطيب ذهب أبعد من ذلك حين اجتمع، في المؤتمر الدولي للأمن الذي عقد في ميونخ الألمانية (2/2/2013) مع وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي دون أي مبرر يذكر أو أية مقدمات على أي مستوى. حتى بدا أن اجتماعه به كان أوقْع أثرا من وقعْ المبادرة نفسها. والأدهى من ذلك أنه بعد 45 دقيقة من الاجتماع خرج الخطيب ليدلي بتصريح ل « رويترز قال فيه ما يذهل الحيران: « اتفقنا على ضرورة إيجاد حل لإنهاء معاناة الشعب السوري»!!! فأي حل يمكن أن يشارك به الإيرانيون في حين أن فتاوى حاخاماتهم ورعونة قياداتهم ومستشاريهم وأسلحتهم ومقاتليهم وخبرائهم وميليشياتهم لم تفارق الدماء السورية منذ ثلاثة عقود؟ وهل يكفي تعليق أحد أعضاء الائتلاف (4/2/2013) بالقول أن الاجتماعات التي أجراها الخطيب في ميونيخ: « غير ضرورية على الإطلاق وبلا فائدة»!!!؟
وكذا الأمر فيما يتعلق باجتماعه بوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بعد أن كان قد رفض دعوته لزيارة موسكو وطالب بلاده بالاعتذار للشعب السوري وإدانة النظام الطائفي في سوريا. فما الذي دفع مسؤولا في المجلس الوطني للتراجع في 6/2/2013، عن هجوم المجلس على الخطيب والمطالبة بعزله، إلى الحد الذي يعلن فيه أن المجلس: « رفض الدعوة إلى تنحية الخطيب بدعوى أن مبادرته تحظى بتأييد في الشارع»!؟ ما الذي تغير بالضبط؟ وكيف ابتلع المجلس عنترياته فجأة والتهديد بإقالة الخطيب ما أن اجتمع به؟
لم يتغير شيء في واقع الأمر. ف « كمين» الخطيب لم يكن مبادرة من الأساس بقدر ما كان توجها مدروسا لقلب نمط التفكير السياسي في صلب المعارضة نفسها رأسا على عقب، تماما مثلما كان الإعلان عن تشكيل الائتلاف نفسه اختراقا استهدف احتواء القوى السياسية على بؤسها، تمهيدا للدخول في العملية السياسية الجارية. وكما سبق أن أُجبر المجلس الوطني على الانضواء تحت التشكيل السياسي الجديد فقد أُجبر الائتلاف على الانجرار خلف منطق الخطيب السياسي الذي لا يرى غضاضة حتى في التصالح مع النظام.
فبعد اجتماع القاهرة ليلة 15/2/2013 لأعضاء المكتب السياسي للائتلاف المكون من 12 عضواً بهدف النظر في مبادرة الخطيب خرج المتحدث باسم الائتلاف، وليد البني، ليؤكد أن المكتب وافق على مبادرة الخطيب: « نرغب في التفاوض مع أي مسؤول مدني بشأن إزاحة بشار وإنهاء الاستبداد»، أما: « بشار وزمرته فلن يكونوا طرفاً في أي محادثات، ولن نعتبر الموجودين من جانب الحكومة ممثلين عنه»، وأن أعضاء « حزب البعث الذي يتزعمه الأسد الذي يحكم سوريا منذ انقلاب 1963، يمكن أن يشاركوا في المحادثات المقترحة إذا كانت: « أيديهم نظيفة من الدماء». أما بعض المصادر في المعارضة فصدقت نفسها وهي تقول: « إن من شأن تأييد الائتلاف رسمياً لمبادرة الخطيب أن يمنحها ثقلاً أكبر على الساحة الدولية ويقوض حجة أنصار الأسد بأن المعارضة منقسمة بصورة لا يمكن معها النظر إليها كطرف جاد». ما شاء الله!!! وكأن المشكلة مع أنصار الأسد وحججهم!!!
العجيب في مواقف المعارضة أن أقوى ما تملكه من سياسات بعد الرفض هو التسليم بالأمر الواقع. هكذا فعلت مع نفسها حين تشكيل المجلس الوطني ثم الائتلاف ودعوة لافروف للحوار ثم مع مبادرة الخطيب ومقاطعة الائتلاف لاجتماعات موسكو وواشنطن وتعليق مشاركته في مؤتمر « أصدقاء الشعب السوري» في روما، ولا ريب أن القائمة تطول.
المهم أنه بعد مبادرة الخطيب ولقاءيه المفاجئين مع لافروف وصالحي في ميونخ بات واضحا حتى للأعمى أن المعارضة السورية سيقت إلى الحوار مع النظام، وأن ما تبقى من ملاقاة الأسد والمصالحة معه لم يعد إلا مسألة إجرائية. ولأول مرة يصرح لافروف في 20/2/2013 بالقول أن: « هناك إشارات إيجابية للتحرك لبدء حوار بين النظام السوري والمعارضة» .. وكل ما تبقى أن .. « تترجم دمشق استعدادها للحوار مع المعارضة ليس فقط بالأقوال وإنما بالأفعال». لكن ما الذي تعنيه بالضبط عبارة « بدء حوار»؟
تعني أنه لا توجد عملية سياسية، وأنه لا حاجة للإعلان عنها حاليا حتى وإنْ وجدت، لكن ثمة حاجة ماسة للبدء بها!!! أما لماذا؟ فلأن المطلوب هو تحقيق اختراق سياسي يمكن من خلاله تمرير حل سياسي يلائم النظام الدولي، لكنه بحاجة إلى ما يكفي من الوقت حتى يتم فرضه على السوريين. وفي هذا السياق تبدو الطريقة اليمنية، منهجيا وليس موضوعيا، هي الأكثر ملائمة. وفي السياسة يبقى المنهج السياسي سابقا على أي فعل سياسي. فعلى فرض أن العملية السياسية الهادفة فعليا إلى إقامة سلطة طوائف محمية بدستور تحت غطاء الدولة المدنية فإن منهج العمل هنا يتعلق بالوقت. فالحاجة إلى الوقت تبدو ماسة كي تنطلق العملية السياسية بما يتحقق مصالح جميع الأطراف. فإذا احتاج « المركز» إلى سنة لإطلاق عملية سياسية فقد يحتاج إلى سنة أخرى أو أكثر للتوصل إلى مبادرة للحل، ثم إلى سنة لتطبيقها، وسنة أخرى لحمايتها، وربما سنة أخرى لاستقرارها، وطوال هذه السنوات سينشغل السوريون بالمرحلة الانتقالية وبتفقد أحوالهم وبالفوضى والمليشيات والدمار والمعتقلين والمآسي والمهاجرين والمغتربين واللاجئين، إلى أن ترتخي القبضات على الزناد وتتغير الاهتمامام والأولوات وتبرز المشاكل والاحتياجات اليومية. في هذه الحال سيكون من الصعب على الجميع مواجهة الضغوط وعمليات الاحتواء والاستنزاف والقهر بحيث يأتي الدستور، في غفلة الانشغالات، مفصلا على مقاس « المركز» .. دولة أقليات!!! فمن سيفكر حينها بعد كل هذه الكوارث بامتشاق السلاح مجددا لانتزاع حقوقه أو للدفاع عن مصيره وقد صارت البلاد مرتعا لكل الفاسدين والمفسدين ممن سيتبوؤون صدارة المشهد السياسي؟
الروس مثلا لا يعنيهم بقاء الأسد، وقد صرحوا بهذا عديد المرات، ففي 20/12/2012 تساءل بوتين في تصريح صفحي عن مصير الأسد فقال: « ما هو موقفنا؟» ( سؤال يطرحه الجميع) ... « نحن لا نسعى لإبقاء نظام الأسد في السلطة بأي ثمن» ( هذه الحقيقة تعني أن المشكلة مع الغرب وليس مع المعارضة) ... « ولكن يتعين على السوريين التوافق فيما بينهم بشأن مستقبلهم» ( هذه لإعادة إنتاج النظام) ... « حتى نبدأ حينها بالبحث عن سبل تغيير النظام القائم» ( بدء العملية السياسية هو مطلب « المركز» ) ... ولأن الروس لن يتحملوا خداعا غربيا كما حصل في ليبيا. لذا فهم معنيون هذه المرة بالاحتفاظ بالأسد رهينة بأيديهم في مواجه الغرب، كي يأمنوا على مصالحهم ويحققوا أكبر مكاسب في قيادة النظام الدولي على ظهر الثورة السورية، ويبررون ذلك بعشرات التصريحات التي لا يلقي لها بالا أحدا غيرهم!!! وبما أن الأسد بأيديهم فسيكون باستطاعتهم تخريب أية عملية سياسية قد يشعرون أنها تمس من طموحاتهم وأهدافهم لاحقا. لذا تجدهم يرفضون أي اتهام بالدفاع عن الأسد أو النظام السوري لكنهم يصرون على أن أي عملية سياسية ينبغي أن تنطلق دون شروط وخاصة فيما يتعلق بتنحية الأسد، لأن هذا الأخير هو ضمانتهم أو ورقتهم الرابحة في مواجهة الشق الغربي من « المركز».
لكن لضمان البدء بالعملية السياسية دون عقبات؛ ولأن المرحلة الحالية تشهد عض أصابع بين قوى « المركز»، فقد يضطر الروس إلى تقديم تنازلات قد تؤدي إلى ابتعاد الأسد عن الواجهة السياسية بدون أن يستقيل حتى من منصبه وبدون أي ضمانة بعدم ترشحه لفترة رئاسية قادمة على الأقل. وفي السياق نقلت وكالة آكي – 9/3/2013 الإيطالية للأنباء عن مصادر دبلوماسية أوروبية وصفتها ب « الرفيعة المستوى قولها أن: أفكاراً طُرحت مؤخراً على الولايات المتحدة وروسيا والصين بانتظار التفاوض والنقاش تقضي بخروج الأسد مع عدد كبير من رموز نظامه»، وأن: « الخطة التي طُرحت على الدول الكبرى تستند إلى مغادرة الأسد ومعه المئات من كبار رموز نظامه إلى بلد آخر، دون إعلان عن استقالته أو تنحيه، لتبدأ فوراً بعدها المرحلة الانتقالية برعاية وإشراف دولي». لكن: « المهم بالأمر أن هذه الأفكار مطروحة على طاولة الدول الكبرى، وربما تحصل على موافقة روسيا مع بعض التعديل». وبحسب المصادر إياها فإن: « الأسد سيمكث في الجزائر من سنتين إلى ثلاثة سنوات دون أن يُعلن عن استقالته رسمياً».
من الكارثة أن يفكر البعض أو الأغلبية، في المعارضة السياسية، ويصر على أن الروس يغردون وحدهم خارج سرب « المركز» وهم عضو أصيل فيه وفي النظام الدولي. فمنذ رحل الرئيس الفرنسي هولاند إلى موسكو أملا بتغيير موقفها من بقاء الأسد نقلت عنه قناة « France 24 - 8/3/2013 » القول أنه عرض على الروس: « إمكانية اختيار شخصية أو أكثر لتولي المباحثات، التي يمكن أن تتيح انتقالا سياسيا، تكون مقبولة من النظام ومن المعارضة». وبعد بضعة أيام أعلن وزير خارجيته، لوران فابيوس، أمام لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية يوم 12/3/2013 أن: « الفرنسيين والأميركيين يعملون مع الروس لوضع قائمة بأسماء مسؤولين سوريين يكونون مقبولين للتفاوض مع المعارضة السورية» ... وأن ... « العمل على هذا الاقتراح الذي لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأنه بدأ قبل أسابيع». أما فيما يتعلق بمصير الأسد فقال: « ناقشنا هذا الأمر مع الروس والأميركيين ... ، وهناك اتصالات تجري حاليا للتوصل إلى حل سياسي في إطار اتفاق جنيف»!!!! فهل توصل الفرنسيون وزملائهم إلى هذا الحل؟ بالتأكيد نعم.
ففي 12/3/2013 انقلب الموقف الأمريكي رأسا على عقب من المطالبة برحيل الرئيس السوري منذ بداية الثورة إلى الطلب من المعارضة للجلوس معه على طاولة واحدة!!! فخلال مؤتمر صحفي مع نظيره النرويجي، اسبين بارت إيدا؛ قال وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، بصريح النص: « نريد أن يجلس الأسد والمعارضة السورية إلى طاولة المفاوضات بغية تشكيل حكومة انتقالية ضمن الإطار التوافقي الذي تم التوصل إليه في جنيف، ... هذا ما نسعى إليه .. والتوصل إلى هذا الأمر يتطلب أن يغير الرئيس الأسد الحسابات لكي لا يظن أنه يستطيع إطلاق النار إلى ما لا نهاية .. كما يجب أيضا أن تجلس إلى طاولة المفاوضات معارضة سورية مستعدة للتعاون .. نحن نعمل على هذا وسنستمر في العمل».
إذن ليس هناك تراجع أمريكي كما يقال. لكن هناك سياسة دولية ومصالح عالمية مقدمة على أي اعتبار آخر حتى لو نزفت دماء السوريين سنوات، وأُحرقت سوريا بمن فيها، وهناك أيضا صراع دولي على النفوذ بين الكبار. وسواء جلست المعارضة طوعا مع الأسد أو كرها فستكون ملزمة أيضا بالتفاوض مع النظام وفق شروط « المركز» واحتياجات النظام الدولي وليس وفق شروطها ولا احتياجاتها ولا تكريما لشجاعة الشعب السوري وتضحياته الهائلة. وإذا كان النظام الدولي هو من يحدد مَنْ يفاوض مَنْ؟ وهو من يحدد متى يجري التفاوض؟ فهو الذي يحدد أيضا موضوعات التفاوض ونتائجه!!! وما يثير العجب هو ردود المعارضة على دعوة كيري، في حين صرح أحد كبار أعضاء الائتلاف ل « رويترز – 2/2/2013 » على خلفية مبادرة الخطيب أن: « الائتلاف تبنى موقفا يتسم بالغموض البناء بشأن ما إذا كان يجب أن يتنحى الأسد أو لا كي يبدأ التحول السياسي، مما أدى إلى تحريك الأمور»!!! فما الذي كان يقصده هذا العضو في تصريحه، بغض الطرف عن تنحي الأسد، قبل الفرنسيين والأمريكيين؟ وهل تحركت الأمور؟ أم أن هناك من لا يرى بعد أبعد أنفه؟
يتبع ....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.