هل من المتصور أن نتحدث الآن عن بناء تصورات ورؤي مصرية لمواجهة تهديد إثيوبيا لأمننا المائي ؟ تساؤل تبدو اجابته حاضرة وهي لا. فهذه الاجابة هي ما استندت اليها إثيوبيا في إقدامها علي الخطوة التصعيدية بتحويل النيل الأزرق. وهي اجابة عبر عنها بوضوح جرم اذاعة جلسة النقاش السياسي لقضية تتعلق بالأمن القومي في الاتحادية علي الهواء, وهي اجابة أوضحتها معظم التحليلات والآراء التي طرحت من قبل غير المتخصصين او المتخصصين المتحمسين, فالحديث في الاعلام ذهب الي حلول غير منطقية وغير عملية, فيما يعني غياب الرؤية والمعلومات وادراك أبعاد الموقف الاثيوبي, وهي إجابة ارتبطت كذلك بضعف الاداء الحكومي وعدم القدرة علي تحديد الاتجاهات والتحرك السريع القادر علي تحديد الرسالة المصرية بكل وضوح وواقعية. هذه الإجابة الحاسمة والتي قد تبدو منطقية تتوافق مع ملامح الضعف الذي تبدو عليه بعض مقومات الدولة المصرية, هي نفسها المحدد الذي يمكن ان يقدم اجابة مختلفة للسؤال, فاهتزاز صورة الدولة وعواصف المشهد السياسي لاتعني ان مقومات الدولة المصرية في خطر, كما ان مؤسسات الدولة السيادية لاتزال تحتفظ بكل مقوماتها وقوتها ورؤيتها لمصادر تهديد الأمن القومي وليس الأمن المائي فقط, من هنا وانطلاقا من ايماني ان غياب أولويات التحرك المصري لدي القيادة السياسية, يمكن ان تبطيء تحرك تلك المؤسسات او لاتوفر الدعم الكافي لها او تحد من قدراتها علي المناورة والمرونة, إلا أن الانتصار لأمن مصر القومي يظل عقيدة خالصة لتلك المؤسسات. وبالتالي فإن مقالي في هذا التوقيت يهدف إلي البعد عن حالة الصخب التي صاحبت التهديد الاثيوبي, وينطلق من رؤية خاصة تتعلق بضرورة العمل علي تعديل المعادلة التي حكمت عملية التفاوض منذ بدايتها, وادخال عناصر وعوامل تأثير جديدة في هذه المعادلة من شأنها أن تجعل العديد من الأطراف المرتبطة بشكل مباشر او غير مباشر بملف التعاون المائي في حوض النيل تعيد حساباتها. وهو ما ينقلنا لضرورة تفهم دوافع إثيوبيا وتحليل البيئة المحيطة بمنطقة القرن الافريقي والبحيرات العظمي وتحديد الأوزان الفعلية للأطراف الفاعلة في معادلة التنمية والامن والصراع علي الموارد الطبيعية في المنطقة, قبل الحديث عن اي رؤية أو تحرك مصري, فالسياسية الإثيوبية ومنذ تولي رئيس الوزراء الراحل مليس زيناوي السلطة في اثيوبيا وهي تحمل الكثير من الرسائل الطموحة الخاصة بدور إثيوبيا في منطقة القرن الافريقي كقوة إقليمية فعالة تستطيع ان تحقق المصالح الغربية في المنطقة, وكقوة اقتصادية قادرة علي اجتذاب الاستثمارات الأجنبية والشركات الدولية المتنافسة حول استغلال الموارد. وبالتالي فقد هدفت القيادة الإثيوبية إلي إخراج مصر من معادلة الأمن والاستقرار في هذه المنطقة بدعم من الولاياتالمتحدةالأمريكية فضلا عن الكثير من الظروف والقيود الإقليمية التي لم تستطع مصر التعامل معها. ومن ثم يبقي الحل مرتهن بالقدرة المصرية علي تغيير معادلة القوة التي يستند اليها الموقف الاثيوبي, وذلك من خلال الانتقال من سياسة رد الفعل الي المبادرة والفعل المباشر, عبر مجموعة من الاجراءات السياسية والدبلوماسية الضاغطة ذات السمة التصعيدية والتي تحمل في القلب منها مبادرة متكاملة( او صفقة متكاملة) المصالح. فبالنسبة للمبادرة, يمكن طرح تصور متكامل للمشروعات القابلة للتنفيذ خلال خمس سنوات, وتجميد اي مشروعات لاتحقق منافع تستفيد منها اكثر من دولتين, وان تستند هذه المبادرة علي مشروعات المياه والكهرباء, واستغلال الفواقد, وان تطرح هذه المبادرة علي الدول المانحة والراعية لمبادرة دول الحوض, لتحويل الأفكار ودراسات الجدوي التي تمت الي واقع. وترجع أهمية هذه المبادرة, في قدرتها علي تجاوز العديد من السلبيات التي حرصت اثيوبيا والعديد من دول المنابع علي إلصاقها بالموقف المصري, وهي التعنت وعدم مراعاة مصالح دول المنابع, فضلا عن تقديمها بدائل يمكن البناء عليها للعودة لمائدة التفاوض. ولكن يجب الأخذ في الاعتبار ان نجاح هذه المبادرة او غيرها من المبادرات مرتهن بالقدرة المصرية علي حشد وتأييد الدول الراعية والمانحة لمبادرة دول حوض النيل, وتلك الساعية للاستثمار في هذه المنطقة حول الأفكار المصرية. وهو ما يعني الحاجة الي توفير مجموعة من الحوافز او الدوافع التي من شأنها دعم الموقف المصري وإضعاف الموقف الإثيوبي وإظهار مخاطر استمرار التصعيد في تلك المنطقة الاستراتيجية, الأمر الذي من شأنه ان يدفع بالأطراف الدولية للعمل علي تجميد الوضع الراهن( وقف عملية بناء سد النهضة) والدفع نحو مشروعات متكاملة لتنظيم وإدارة المياه بين دول الحوض وعدم تمويل المشروعات الفردية. فالصفقة الكاملة لاتزال مكوناتها حاضرة مع دول الحوض, ولكن يجب تفكيك الصياغات التي يستند اليها الموقف الاثيوبي علي المستويين الاقليمي والدولي, وهو ما ينقلنا للاجراءات الضاغطة التي يجب ان تحملها رسائل التحرك المصري, وهنا يمكن الاشارة الي اجراءين سريعين, الإجراء الاول مرتهن بالقدرة علي تصحيح منهاج التفاوض المصري والسياسة المصرية تجاه ملف مياه النيل عبر ربط ملف النيل بباقي ملفات معادلات الأمن والاستقرار في منطقة القرن الافريقي والبحيرات العظمي ذات الأبعاد الاستراتيجية للعديد من القوي الدولية. أما الاجراء الثاني, فيرتبط بتفعيل هذا الملف علي الصعيد الافريقي وداخل مؤسسات الاتحاد الافريقي وفي مقدمتها مجلس السلم والأمن الافريقي, فربط ثلاثية الأمن المائي بالأمن الانساني بالأمن الغذائي تبقي من متطلبات تجنب مخاطر عدم الاستقرار وغياب السلم والامن في القارة الافريقية ككل. فالنتيجة الأساسية التي يجب ان يستند اليها الموقف المصري, أن اثيوبيا لن تتوقف عن بني سد النهضة, وأنها لاتزال مستمرة في سياستها القائمة علي تجاوز الحقوق المائية التاريخية لمصر واضعاف موقفها التفاوضي بايجاد تكتل مضاد لمصر من دول الحوض, ومحاولة اظهار الموقف المصري كطرف متعنت لدي الرأي العام العالمي, واكتساب المزيد من الوقت حتي يكون سد النهضة قد أصبح واقعها يجب قبوله من جانب مصر. وهو ما يعني ان الموقف المصري اصبح أمام خيار وحيد وهو الدفع نحو تغيير البيئة المحيطة بالموقف الاثيوبي وقواعده الحاكمة لملف التعاون المائي بأسرع وقت. لمزيد من مقالات أيمن السيد عبد الوهاب