الحديث عن الحاجة لاعادة بناء مصر وتحسين مكانتها الدولية والبحث عن حلول غير تقليدية, وإعادة رسم السياسة الخارجية وتوجهاتها, موضوعات فرضت نفسها علي ساحة العمل الأكاديمي والساحة السياسية في الآونة الأخيرة. فمع تغير النظام السياسي واعتلاء نخبة سياسية جديدة مقاليد الحكم بدا أن هناك حرصا علي إظهار توجهات جديدة للسياسة الخارجية المصرية, ولكن هذه التوجهات ظلت حبيسة التطورات الداخلية بنسبة كبيرة, الأمر الذي انعكس سلبا علي مكانتها ورؤية العالم لمجريات الاحداث وتطورها. هذا التشابك بين الاوضاع الداخلية وصعوبات ترتيب البيت في الداخل, فرض ايقاعه علي العديد من الملفات ذات الحساسية الكبيرة والمرتبطة بالأمن القومي المصري بشكل مباشر,وهنا يمكن الاشارة الي واحد من هذه الملفات وهو التعاون المائي مع دول حوض النيل وما يشهده هذا الملف من تطورات ومخاطر تتجاوز الحديث عن تعثر المفاوضات أو حتي محاولة تجاهل الحقوق والمكتسبات المصرية في مياه النيل من خلال توقيعها الاتفاق المعروف باتفاق عنتيبي, ولا حتي بشروع إثيوبيا في بناء سد النهضة. ولكن الخطر الحقيقي الآن يرتبط بمدي قدرة مصر في دفع مسار الاحداث وطرح المبادرات وتغيير المعادلات القائمة ومواجهة توزانات القوي الاقليمية في منطقة حوض النيل. فهذه المتطلبات تستوجب بلورة رؤية واستراتيجية واضحة تتسم بالمرونة والقدرة علي المبادرة والتحرك السريع وكذلك امتلاك القدرة علي توظيف وامتلاك اكثر من سيناريو( الصفقة المتكاملة, التصعيد, التعاون), فضلا عن تحييد مجموعة من العوامل السلبية المرتبطة بضعف عملية البناء السياسي واهتزاز الوضع الاقتصادي بشدة. فهذه العوامل تتطلب تنشيطا دبلوماسيا ودعما من جانب الدولة لمواجهة عامل الوقت الذي يبدو أنه في غير مصلحة مصر, واصبح أسلوبا وتكتيكا تلجأ اليه العديد من دول الحوض للضغط علي مصر فاثيوبيا علي سبيل المثال تسعي من خلال عدم الاسراع في التصديق علي اتفاق عنتيبي إلي إعطاء رسالة تضامنية مع الاحداث غير المستقرة في مصر, ولكنها في المقابل تأخذ بخطوات جادة ومتسارعة في بناء سد النهضة, كما أنها حريصة علي فصل مسار العلاقات المشتركة مع مصر عن مسار ملف المياه, فتحسين العلاقات والحصول علي المساعدات الاقتصادية والتنموية لا يتعارض من وجهة نظرها مع إقدامها علي تنفيذ مشاريعها الخاصة حتي وإن كانت تضر بمصر. ولذا يبدو النهج التفاوض الإثيوبي مستندا إلي: تبني خطاب مشجع علي التعاون, وعدم الظهور كطرف متعنت لكسب دعم الدول الراعية والمانحة و كسب الوقت لممارسة المزيد من الضغط علي مصر لقبول الصيغة الجديدة للتعاون مع دول المنابع, كما يعكسها اتفاق عنتيبي, و تقليل هامش المناورة أمام التحركات المصرية لتغيير المعادلة القائمة حاليا. من الواضح أن حالة عدم الاستقرار الراهنة التي تمر بها مصر قد شجعت العديد من الاطراف علي عدم الأخذ في الاعتبار تكلفة اضرارها بالمصالح المصرية, وهو ما يتطلب تحركا مصريا سريعا مستندا الي سيناريو الصفقة الكاملة, مع مجموعة من الأطراف الفاعلة والدول المانحة الراعية لمبادرة دول حوض النيل جنبا الي جنب مع دول المنابع, هذا السيناريو في حالة نجاحه يمكن أن يطوي ملف الخلافات حول تنظيم عملية ادارة التعاون المائي في حوض النيل نهائيا. كما أن تكلفة هذا السيناريو يمكن تحملها الآن من خلال ادارة مجموعة من الحوارارت الاستراتيجية مع القوي والأطراف الفاعلة في ملف النيل. لكن تبقي تهيئة المناخ المناسب لتفعيل هذا السيناريو وإنجاحه مرتبطة بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية, فبالنسبة للعوامل الداخلية يبقي تعزيز فرص بناء دول حديثة ديمقراطية تستند الي الأطر القانونية والمؤسسية وتحديد التوجهات السياسية والاستراتيجية واولوياتها وتوفير الموارد والقدرات الداعمة لهذه التوجهات مدخلا لامفر منه لدعم السياسة الخارجية المصرية. أما بالنسبة للعوامل الخارجية فيمكن ربطها بأولوية تحديد خريطة التفاعلات والمستجدات المرتبطة بتوازن القوي وزيادة أعداد أطراف القوي المتنافسة علي موارد تلك المنطقة, وهنا يمكن الاشارة الي عدد من المتغيرات ذات التاثير المباشر في تدعيم مواقف دول منابع النيل المتشددة من التفاوض مع مصر, نذكر منها: أولا: فرض انفصال دولة جنوب السودان تحديا جديدا علي معادلة التعاون في حوض النيل( برغم عدم تبلوره حاليا). وسعي غالبية دول الحوض لتبني رؤية تنموية تستند إلي رؤي الشركات الدولية التي قدمت لشراء الاراضي لزراعتها والاستفادة من منتجاتها في إنتاج الطاقة الحيوية. وكذلك تنامي فرص توفير البدائل التمويلية والخبرات والدراسات والأطراف الدولية المشجعة. كما أن الولاياتالمتحدة أصبحت بدرجة ما دولة جوار مقيمة في منطقة الشرق الإفريقي, وهو ما يتجلي في تبنيها عددا من المبادرات والسيناريوهات التي تعيد من خلالها تغيير موازين القوي ونمط التفاعلات في منطقة البحيرات والقرن الإفريقي, من خلال استراتيجياتها ورؤيتها لموقع القارة وبعض دولها في دعم المصالح الأمريكية. ثانيا: تغير نظرة كل من الصين واليابان لدورهما في إفريقيا بما يتجاوز المصالح الاقتصادية إلي اعتبار إفريقيا مفتاحا أو مدخلا أساسيا لدبلوماسيتهما الدولية. ثالثا: تزايد طموح بعض دول الحوض التي كان يمكن وصفها في السابق بالدول الهامشية, مثل: كينيا, وتنزانيا, وبوروندي. والدور الايراني وتشابكه مع الكثير من التفاعلات الدولية ذات الصلة والتأثير في منطقة حوض النيل. وحرص العديد من الأطراف والقوي الدولية وفي مقدمتها إسرائيل علي إثارة قضية الخلاف حول مشكلة توزيع المياه بين مصر ودول المنابع. هذه التفاعلات في مجملها تحدد سيناريو الصفقة الذي يمكن أن يكون الأكثر ملاءمة في هذه اللحظة التي تقل فيها قدرات مصر الاقتصادية, ولكنه أيضا لن يكون سهل التنفيذ, فمن الضروري أن يتوافر العديد من المغريات جنبا الي جنب مع بلورة بعض القدرات التي تسهم في الإضرار بمصالح أي طرف يسعي للإضرار بالمصالح الإستراتيجية المصرية.