أفرزت نتائج المفاوضات الدائرة بين دول حوض النيل, برغم تعثرها وعدم قدرتها علي التوصل إلي اتفاق نهائي لتنظيم التعاون المائي, مجموعة من النتائج المرتبطة بتعزيز فرص التعاون والحرص علي اتخاذ خطوات تعاونية يكون من شأنها تعزيز أواصر الثقة بين دول الحوض. فقد ساهمت تعقيدات العملية التفاوضية, في تزايد الحرص المصري علي دعمها وتوفير المناخ الدائم لاستمرارها, من خلال تنويع مسارات التعاون, لاسيما مع الدول الفاعلة في منطقة حوض النيل. هذا المنهاج التعاوني المصري سعي لفض الارتباط بين مسار المفاوضات الدائرة بين دول الحوض من جانب, ومسار العلاقات البينية من جانب آخر, وهو ما يتوافق مع رؤي وإرادة غالبية دول حوض النيل. ويتميز هذا المنهاج إذا ما تحول إلي محدد رئيسي ودائم للسياسة المصرية تجاه دول الحوض, أنه يربط المصالح المائية المصرية بجملة من المصالح الدائمة والمشتركة, ويتجاوز عنصر ضغط الوقت الذي يلقي بظلاله علي المفاوضات منذ تفجر أزمة التوقيع التي تعرف بأزمة كينشاسا في23 مايو2009 عندما رفضت مصر والسودان التوقيع علي الاتفاقية الإطارية كما يشكل هذا المنهاج أيضا مخرجا لمأزق الجولة القادمة من التفاوض والتي ستعقد الشهر القادم في شرم الشيخ ويفترض ان تشهد التوصل لاتفاق نهائي والتوقيع عليه. كما يمثل منهاج المصالح الدائمة فرصة لتأكيد جدية التحركات المصرية واستعداد دول الحوض لتقبل هذه التحركات, والتأكيد أيضا علي أن الحقوق التاريخية والقانونية لمصر في مياه النيل لا تقبل التنازل. هذه النتيجة بدورها سوف تلقي بظلالها علي الكثير من التحليلات والكتابات في مصر وغالبية دول الحوض, كما يحدث دائما. فقد شهدت الفترة السابقة الكثير من التغطيات غير الدقيقة التي استندت إلي أن دعوي تسارع وتيرة المفاوضات وتحديدها بجدول زمني من شأنه أن ينقذ المفاوضات ومبادرة دول حوض النيل نفسها كإطار للتعاون الجماعي. وقد صاحب هذه النتيجة موجة من التشكيك في جدية التحركات المصرية, والهدف منها والاستناد لما صاحبه من محفزات أو مبادرات لتأكيد المنهاج الأحادي النظرة لمصر, وهدفها الساعي للحصول علي المياه دون إعطاء الجدية المطلوبة لتعميق التعاون المشترك والجماعي. وفي هذا السياق, يمكن رصد اتجاهين في التناول أحدهما وصفي يتناول التفاعلات ويتحدث عما يفترض أن يكون, والثاني استند إلي حالة الترقب وربما التشكيك في جدية التحركات المصرية والهدف منها. فقد استند الاتجاه الأول إلي رؤية أساسية وإيجابية تقوم علي أن هناك تطورا حقيقيا في منهاج التفاوض المصري يستند إلي توفير أطر للتعاون أكثر ديمومة وثباتا وفي مجالات تراعي المصالح واحتياجات دول الحوض, وان الهدف ليس التوصل لاتفاق للتعاون المائي فقط, ولكن هناك هدفا أعمق يتمثل في إيجاد قنوات وتفاعلات من شأنها أن توفر قاعدة لبناء تعاون حقيقي وبناء ثقة, يساعد علي تجاوز الخلافات والحساسيات القديمة. أما الاتجاه الثاني, فقد استند إلي معتقدات سياسية وإيديولوجية قديمة لتفسير وتحليل التحركات المصرية التي أعقبت أزمة التوقيع حيث انطلقت من منظور أحادي الرؤية, يقصر هدف التحركات المصرية علي شكل من المقايضة بين مجموعة من المحفزات تتمثل في تقديم بعض المساعدات الفنية والاقتصادية وخطاب إعلامي إيجابي, وبين قبول دول الحوض بالرؤية المصرية لحقوقها التاريخية. وما بين الاتجاهين, ومحاولة قراءة وتفسير أهداف ومسارات التحرك المصري, تبدو هناك مجموعة من الملاحظات الرئيسية: القراءة المبسطة لمسار التفاعلات بين دول الحوض, تتجاهل الركائز القوية التي يستند إليها الموقف التفاوضي المصري, ولا تأخذ في الحسبان الدوافع المصرية الهادفة لتوفير الاستقرار في هذه المنطقة كمدخل لتحقيق التنمية وتوفير الأمن الغذائي وزيادة حصتها من المياه, وهي جميعا أهداف لا تتحقق إلا من خلال التعاون الجماعي وبناء الثقة وتوافر الإرادة السياسية. قبول مصر مبادرة دول الحوض ودفعها كإطار حاكم للتعاون, استند إلي رؤية مصرية داعمة لتكامل مقومات الموارد بين دول النهر, وهو ما انعكس بالتبعية علي المشروعات المقترحة التي تبنتها المبادرة استنادا لمتطلبات تعزيز قاعدة عدم الإضرار والتوازن المصلحي وبناء الثقة. ركائز الموقف التفاوضي المصري, هي ركائز تستند الي قواعد ثابتة حددتها المعاهدات والقانون الدولي وتلك الاتفاقيات الموقعة مع دول الحوض, وما ذهبت إليه مبادرة دول حوض النيل من التأكيد علي قاعدة عدم الإضرار. عدم الثقة في استمرار التحركات المصرية بنفس درجة الاهتمام والكثافة والتنوع الحالية, لا يجب طرحها كمطلب للدخول لساحة التنافس مع قوي دولية في منطقة حوض النيل والقرن الافريقي, بقدر ما يجب طرحها في إطار رؤية متكاملة للمصالح المصرية في هذه المنطقة. - زيادة حصة مصر من مياه النهر, وليس مجرد الحفاظ علي الحصة الحالية, تقتضي إيجاد بيئة مواتية, وتوفير إدارة سياسية, وبناء دعائم للعلاقات تجعل من مطلب زيادة نصيب مصر من مياه النيل متوافقا مع مطالب دول الحوض وطموحاتها المشروعة في التنمية والتقدم. إشكالية التوقيع علي اتفاق نهائي لتنظيم التعاون المائي بين دول الحوض, بدت مرتهنة بالقدرة علي ربط دول الحوض ومجتمعاتها بأنساق من المصالح القادرة علي تقليص قدرة القيادة السياسية ورغباتها في هذه الدول في انتهاج سياسات متعارضة مع المصالح المصرية, ومرتهنة أيضا بتجاوز مجموعة من المحددات السلبية, والتي يأتي في مقدمتها: تحجيم تأثير السياق السياسي علي معادلة التفاوض من جانب التيارات الرافضة أو المتحفظة داخل بعض دول الحوض من قضايا التعاون المائي مع مصر. إدراك حدود تكلفة الفرص الضائعة التي استندت إلي تغليب مظاهر الصراع والتنافس علي حساب التعاون في مشروعات تكاملية, خاصة في ظل نقص الموارد المالية وخطط التنمية لدي غالبية دول الحوض. إدراك أهمية استمرار مبادرة دول حوض النيل كصيغة عامة تتوافق حولها أطروحات التعاون الإقليمي, واعتبارها فرصة للتعرف علي إمكانية إيجاد تنظيم متعدد الوظائف, ويحقق التنمية الشاملة لكافة دول الحوض. تشير اللحظة الراهنة بما تحمله من صعوبات, إلي أهمية استناد السياسة المصرية لمنهاج المصالح الدائمة تجاه دول حوض النيل, بغض النظر عما ستسفر عنه نتائج جولة شرم الشيخ القادمة, والتي يمكن ان تمثل محطة مهمة للتعاون او فرصة أخري ضائعة. [email protected]