مطالبة مصر والسودان بتأسيس مفوضية عليا تهدف إلي تنسيق المنح الدولية وتدير الاستثمارات والمشروعات وتطرح أفكار التعاون في حوض النيل وإعلان دول المنبع فتح التوقيع علي الاتفاقية الإطارية في14 مايو القادم ولمدة عام هما ابرز نتائج جولة التفاوض التي عقدت في شرم الشيخ في الفترة من13 14 ابريل الجاري. وما بين مطلب المفوضية ومحاولة إنهاء التفاوض لصالح رؤية دول المنبع يبدو عدم نجاح جولة شرم الشيخ وقد ساهم في إثارة المزيد من التباعد بين رؤيتين متعارضتين لمنظور المصالح الواجب الاحتكام إليه كقاعدة لتنظيم التعاون المائي المستقبلي. فمطلب المفوضية يكتسب مجموعة من المعاني والدلالات الايجابية المرتبطة بالحرص المصري علي استمرار المسار التفاوضي وإيجاد آليات مؤسسية تساعد علي تعميق فرص التعاون الجماعي وأيضا يرتبط بالرغبة في المحافظة علي المكتسبات التي تحققت من خلال مبادرة دول حوض النيل والتطلع كذلك لمرحلة قادمة من التعاون لا تستند علي المنظور الأحادي للمصالح بقدر ما يجب أن تبني علي قدر اكبر من الثقة والمصلحة والرؤية المشتركة. ولكن مكتسبات المفوضية في حالة تأسيسها فإنها تظل مكتسبات محدودة ترتبط بالأبعاد الفنية للتعاون وترتبط أيضا بالحرص علي استمرار الدعم الدولي والجهات المانحة لمشروعات المبادرة. وبالتالي تبقي هذه المكتسبات محكومة بعدم القدرة علي حسم القضايا الخلافية الثلاث( الأمن المائي الإخطار المسبق, قاعدة التصويت) ومحكومة أيضا بما أفرزته' أزمة كنشاسا' وتجدد في جولة شرم الشيخ من ضغوط لإنهاء التفاوض وتحديد جدول زمني لها وفرض سياسة ورؤية الأغلبية وتجاوز التوقيع المصري والسوداني علي الاتفاق. ومن ثم يكون إعلان دول المنبع فتح التوقيع علي الاتفاقية الإطارية هو إعلان بالتصعيد والرغبة في ممارسة المزيد من الضغوط علي مصر والسودان للقبول بصياغتها للقضايا الخلافية. هذا التعارض بين الرؤيتين يرتبط بمجموعة من الاسانيد والرؤي المتداخلة ما بين السياسي والثقافي والتاريخي. ولذا فسوف تظل الفجوة بين الرؤيتين قائمة رغم استمرار التفاوض واستمرار الحوار واستمرار النوايا الحسنة والدافع للتواصل الي اتفاق متوازن يقوم علي فوز الجميع(win-win) وتحقيق مصالح أطراف الدول العشر. فالتفاوض الدائر يستند إلي رؤية مصرية وسودانية مشتركة تهدف إلي الاهتمام المتزايدة بالسياسات المائية ومحاولة بلورة موقف تجاه قضايا المياه والتنمية في منطقة حوض نهر النيل مع المحافظة علي الحقوق المكتسبة والاستناد إلي قاعدة الإجماع في التصويت أو الأغلبية المشروطة( موافقة مصر والسودان) وحق الاعتراض المصري علي أي مشروعات تضر وتؤثر علي حصتها وفقا للاتفاقيات والمعاهدات الموقعة وهو ما تجلي بوضوح في الموقف من مبادرة دول حوض النيل والمفاوضات والمحادثات التي امتدت لعشر سنوات. أما الرؤية الثانية التي تستند لمطالب دول المنبع فترتكز في تناولها للقضايا الخلافية علي دافع واحد يحركها وهو الرغبة في تجاوز المكتسبات التاريخية لمصر والسودان سواء فيما يتعلق بمسالة الحصص أو الإخطار المسبق وتأسيس قواعد جديدة للتعاون لا تستند بالضرورة علي قاعدة عدم الإضرار ولكنها تستند بكل تأكيد علي اعتبارات سياسية مرتبطة بمفهوم السيادة الوطنية وعلاقاتها بالاتفاقيات القائمة التي تعترض عليها دول المنبع والحساسيات السياسية المرتبطة بنظرة العديد من القوي السياسية والحزبية في غالبية دول الحوض في توقيع اتفاق جديد تجني من ورائه مكاسب وثمارا مباشرة. المقابلة بين اعتبارات سياسية تفرض قيودا أمام التوصل لاتفاق جماعي وبين متطلبات فنية وتنموية تقتضي التعاون تبدو غير متكافئة ومفسرة في نفس الوقت لعدم توافر الإرادة السياسية للتوقيع علي أي اتفاق في ظل استمرار الفجوة الكبيرة بين الرؤيتين. فبالنسبة لركائز المطلب المصري ورؤيته الحقوقية والتنموية وربما الحياتية فالمحافظة علي الحقوق التاريخية وما تتضمنة من حصة في مياه النيل لم تعد كافية وتدخلنا حد الفقر المائي تمثل خطا أحمر في التفاوض لا يمكن تجاوزه أو تحمل تكلفته السياسية والاقتصادية والتنموية فأي تهديد لهذا الحق هو تهديد للأمن القومي المصري. في المقابل تبدو هذه الممانعة من جانب غالبية دول الحوض غير مرتبطة بمتطلبات تنموية فمصادر المياه لديها متعددة وخيارات التنمية لا ترتبط بشريان نهر النيل وتحدياتها لا تقف علي توفير المياه من نهر النيل ولكن تحديات التنمية ترتبط بأسباب أخري تتعلق بالاستقرار ونمط الزراعة القائم ومحدودية الإمكانيات والموارد والخبرات المتوافرة. وتجدر الإشارة هنا إلي أن اعتماد مصر علي مياه النهر95% بينما اكبر الدول اعتمادا علي النهر بعد السودان وهي تنزانيا لا تعتمد عليه سوي بنسبة3%. إذن سبب الممانعة الحقيقي الذي يمكن رصده بوضوح من خلال الخطاب الرسمي ومواقف قوي المعارضة للتعاون مع مصر الموجودة في برلمانات دول الحوض يتجلي في التكلفة السياسية التي تبدو في نظر العديد من الحكومات في دول الحوض اكبر من ان تتحملها سياسيا أمام تلك القوي فالمزايدة السياسية والميراث التاريخي وضعف الوجود المصري في هذه الدول وغياب جماعات مصالح يمكن ان تدافع او تضغط للمحافظه علي المصالح مع مصر تمثل جميعها أسبابا وقيودا تحول دون التوقيع علي اي اتفاقية تتضمن النص علي معاهدات واتفاقيات تري فيها انتقاصا من سيادتها. فمنذ استقلال هذه الدول وهي تعلن عن عدم اعترافها بتلك المعاهدات التي وقعت اثناء الحقبة الاستعمارية. المقابلة المتعارضة في منهاج التفاوض وأهدافه تشير إلي كبر حجم التعقيدات والقيود المحجمة لمسار التفاوض. وهو ما يتطلب إلي جانب الاستمرار في المفاوضات طرح منهاج تفاوضي مشترك يأخذ أبعادا أعمق من مجرد طرح الأمن المائي وإشكالياته المرتبطة بعملية التنمية في دول الحوض إلي البحث في سبل وتوفير فرص' الأمن الغذائي' والعمل علي توفير المناخ والسبل لتحقيقه. والانطلاق نحو صياغة متطلبات تحقيق' الأمن الإنساني' وهو طرح يتجاوز البعد المائي الي ابعاد ترتبط بالمحافظة علي حياة الانسان وتحقيق حياة كريمة له من خلال تنمية قدراته وتمكينه وتعزيز الاستقرار وهي متطلبات لن تتحقق بالتوصل لاتفاق مائي ولكن يمكن ان تتحقق بتوسيع مجال التعاون فيما بين دول الحوض. وهو ما يفترض توسيع نطاق التعاون والتكامل في مجالات من شأنها ان تراعي توازن المصالح والاحتياجات المتبادلة. فمعاناة غالبية دول الحوض في بعض مناطقها من الجفاف والعطش تطرح في مستوياتها الأولي متطلبات تعزيز' الأمن الإنساني' المستند إلي توفير الغذاء والرعاية الصحية والسلامة الجسدية والنفسية وتطرح في مستوياتها التالية توفير السلام والامن والتنمية المستدامة هذه المتطلبات التي تتجاوز نطاق الحدود الوطنية وربما قدرات وامكانيات بعض هذه الدول تفرض الاعتماد المتبادل بين دول الحوض لتوفير مكونات هذا المفهوم وربما سيشكل هذا المدخل طرحا جديدا وأكثر فائدة من مجرد البحث عن حلول فردية تتعلق بكل دولة علي حدة. هذه الأطر والمداخل التفاوضية المختلفة يمكن اللجوء إليها لتجاوز فجوة ازمة الثقة والإدراك السلبي لحقيقة الاحتياجات المصرية لمياه النيل ومتطلبات تحقيق السيادة علي حساب حق مصر في التنمية. وهو ما يقودنا للتساؤل علي مدي ملاءمة المنهاج التفاوضي المصري في ضوء التطورات والمستجدات الضاغطة علي المسار التفاوضي وثماره لاسيما وان هذا المنهاج يعتمد سياسة النفس الطويل وعدم التصعيد والاستمرار في المفاوضات وتفعيل بعض اطر التعاون لاسيما في المجال الاقتصادي والاستثماري إلي جانب التعاون الفني في مجال الري. والإجابة عن هذا التساؤل فرضتها التطورات الأخيرة التي لا تسير في صالح الموقف المصري وهو ما يعني بالتبعية أهمية إدخال بعض عناصر التغيير علي المنهاج التفاوضي وهنا يمكن الإشارة إلي مستويات أو مدخلات ثلاثة: الأول يتعلق بتحرك نشط تجاه الدول والجهات المانحة الراعية لمبادرة دول الحوض للتأكيد علي موقفها الداعم لإدارة موارد الحوض بشكل جماعي كما عبرت عنه عقب أزمة التوقيع في كنشاسا. أما المستوي الثاني فيتعلق بالدفاع عن حقوق مصر التاريخية من خلال التأكيد علي سلامة الوضع القانوني للمعاهدات والاتفاقيات القائمة ومطالبة المؤسسات والمنظمات التمويلية الدولية الالتزام بها وتحذير مجموعة الدول صاحبة المصالح في دول الحوض من مخاطر التأثير علي المصالح المائية المصرية الصين وأمريكا وإسرائيل وفرنسا واليابان وغيرها وتفعيل أو علي الأقل التلويح بمجموعة الأوراق التي تمتلكها مصر للتأثير علي مصالح هذه الدول في تلك المنطقة. أما المستوي الثالث والأخير فيستند بالإضافة لاستمرار منهاج تعميق التعاون الاقتصادي تفعيل اطر قوة مصر الناعمة. ونقصد هنا أدوات مصر الثقافية والاعلامية والدينية والشعبية( منظمات المجتمع المدني) فهذه الأدوات ذات التأثير العميق يجب إعادة تفعيلها بشكل محكم ومرتبط باستراتيجية مصرية واضحة الملامح والادوات والاهداف ويأتي في مقدمة هذه الاهداف التأكيد علي الهوية الافريقية لمصر ومخاطبة شعوب دول الحوض ومراكز التأثير فيها وتفعيل اطر التعاون الثقافي ومد الجسور مع المجتمعات الافريقية ومنظماتها الأهلية. وهكذا تشير هذه المدخلات إلي نتيجة رئيسية مفادها أن استمرار آلية التفاوض ومحاولة التوصل إلي اتفاقية مؤسسية وقانونية تنظم التعاون المائي تمثل أحد الدروس التي تم تعلمها من خبرة التعاون الماضية. ولكن هدف الوصول لمثل هذه الاتفاقية يقتضي أيضا ممارسة قدر من الضغط المباشر علي أطراف بعينها وتحييد العوامل الإقليمية والدولية وتفعيل دور مصر وقوتها وثقلها الدولي.