ربما كانت هذه من المرات القلائل التي أري المرارة ترتسم علي وجه د. شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق, حاولت تبين سر تلك المرارة, ولم أجد صعوبة في ذلك. . فهو إنسان مرهف بحكم تكوينه النفسي والأدبي والعلمي, ويصعب عليه أن يري بلده الذي يذوب فيه حبا علي ما هو عليه من فرقة وصراع وتمزق. برغم الصورة القاتمة, فإنه لا يزال يراهن علي أشياء في هذه الوطن, أولهاعليالطبيعة الحقيقية الخيرة المبدعة المرحة والمتسامحة للشعب المصري. ما بين الثقافة والسياسة وعلم النفس, كان هذا الحوار مع د. شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق وأستاذ علم نفس الإبداع بأكاديمية الفنون, الذي أجاب عن كل أسئلتنا بأريحية, ولم يضق بها ذرعا. ما بين وزارة يراها البعض من علامات النظم التسلطية, وبين ملفات فساد منتفعين بها يستميتون في الدفاع عن مصالحهم, هل تري جدوي لوزارة الثقافة؟ أنا ضد فكرة إلغاء وزارة الثقافة, ولكنني مع فكرة إعادة النظر في الأنشطة الخاصة بها,هناك أنشطة يجب أن توظف بشكل أفضل,مثل منح التفرغ, وغيرها,وهنا لابد أن نتذكر أن وزارة الثقافة من أفقر الوزارات, وميزانيتها تعادل ميزانية شركة صغيرة,برغم أنها مسئولة عن الآداب والفنون, والجوائز.. إلخ. وزارة الثقافة يجب إعادة هيكلتها وتوظيفها وبرمجتها, كيف يتم كل هذا؟ عبر النقاش بين المثقفين والمسئولين في وزارة الثقافة, ولا تترك لفرد كائنا من كان. وزارة الثقافة يعيد صياغتها كل المثقفين, ما المانع أن يعقد مؤتمر عام للثقافة في مصر, وكما نطلب من رئيس الجمهورية أن يعقد مؤتمرا عاما للحوار الوطني يدعو اليه جميع الطوائف والفئات والأطياف السياسية, وأن يكون حوارا حقيقيا مبنيا علي أساس الاحترام والمكاشفة والصدق والرغبة الصادقة في إنقاذ هذا الوطن,فنفس الشيء يجب أن يتم في وزارة الثقافة. وما منعك أن تفعل ذلك وقد كنت المسئول الأول في الوزارة؟ لم تتح لي الفرصة لفعل كل ما أردت, وقمت بأشياء, وأخفقت في أخري, توليت الوزارة5 أشهر, كانت كلها مظاهرات ومطالبات ومؤامرات, ومعظمها انقضي في تعامل مع بشر مدعين للثقافة, وليست لهم علاقة بها, كانت كل مهمتهم أن ينغصوا علينا حياتنا. ليس معني هذا أنني أعفي نفسي من المسئولية, لا, أخطأت وأصبت, كعادة البشر, وهناك قضايا كان يمكن أن أتعامل معها بشكل أفضل مثل مشكلة أكاديمية الفنون, وتشيكيل لجان المجلس الأعلي للثقافة وغيرها, وليست لدي مشكلة علي الاطلاق في أن أعترف بأخطائي, و أطلب ممن أخطأت في حقهم أن يتسامحوا معي. كان علي أن أنتبه لوجود بعض الموظفين الذين يصفون حساباتهم مع بعضهم بعضا, كان علي أن أتذكر مقولة ماركس' الشيطان يكمن في التفاصيل' كنت أظن أن البشر ملائكة, وأننا نحيا عالما ملائكيا' مش مثقفين بقه' ولكن للأسف الشديد, واضح أننا بعد الثورة مثلما زاد عدد الصادقين والمخلصين والنبلاء, زاد أيضا عدد الأشرار, والمدعين والأفاقين,والمتثاقفين, والمتآمرين. للأسف الشديد تعاملت مع البشر بحسن نية وصدق,لكنني وجدت عند الكثيرين منهم أجندات خفية, لم أنتبه لها إلا بعد فوات الأوان. وأنت أستاذ علم نفس الابداع, كيف نرتقي بسلوك ووعي أي شعب؟ أول شيء أن نلتزم بالصدق في التعامل مع أنفسنا والآخرين, وألا نبدي للآخرين عكس ما نخفيه. نحن الآن نعيش في هذه الحالة من الانفصام والانقسام والازدواج, واذا استمرت هذه الحالة البائسة, فستستمر الهزائم والكوارث. وإذا تكلمنا عن الدين, فلابد أن يكون الدين الحقيقي وليس الدين المظهري, والدين سلوك, ويرتقي بالسلوك, ويرتقي بالأفراد والجماعات. الولاء للوطن يجب أن يكون أولا, ببنائه وجعله متقدما, وقويا, ولا يعيش علي القروض والمنح, وبعد ذلك أفكر في المشروع العالمي, لا أن أضع العربة أمام الحصان؟ هل الولاء للدين يناقض الولاء للوطن؟ لا يوجد تناقض, لكن الولاء للدين له معان, وليس معني واحدا, والولاء يكون للدين الإسلامي السمح المعتدل, البعيد عن العنف والتجهم, وإقصاء الآخر. الدين يعطينا مرتبة أعلي, ويحثنا علي التواضع والسماحة, ورحابة الأفق والوجدان. الدين ضيافة, وكرم, والكرم ليس فقط القري وإكرام الضيف, وإنما الكرم الوجداني والسيكولوجي, وأن يصبح الآخر المختلف معك جزءا منك, في قلبك وتحنو عليه, ليس من باب الشفقة, وإنما من باب المودة والمحبة والإنسانية. الدين الحقيقي يرتفع بالناس, ويرتقي بالبشرية, لكننا الآن نعيش الدين في مظاهره السلبية. هل تخشي علي العقل المصري الآن؟ أخشي عليه تماما,لأن العقل المصري يتعرض الآن لهجمة تتم علي عدة محاور: في التربية والتعليم, الكتب الدراسية, البرامج الحوارية والصحافة والإعلام, في السياسة. وللأسف الشديد كل يعتقد أنه علي صواب. لابد أن نتفق علي الحد الأدني من الاتفاق, وهو مصلحة الوطن, وليس مصلحتنا الخاصة, للأسف الشديد كل من علي الساحة الآن يسعي من أجل مصلحته الخاصة. إصلاح وزارة الثقافة وتفعيلها ممكن أم مستحيل ؟ ممكن بالحوار, وبالمصارحات, وتدعيم الوزارة ماديا,لأن هذه الوزارة فقيرة جدا. كيف تصفها بالفقر وقد وصلت دخول بعض العاملين فيها إلي مئات الآلاف من الجنيهات؟ هناك محك موضوعي ومحك ذاتي, المحك الموضوعي أن الدولة تضع ميزانية ضعيفة لوزارة الثقافة, لذلك فهي فقيرة بهذا المعني, وهذا المستوي من الفقر يزداد ضراوة وقسوة بسبب هذا الذي تقول, ولكن ما ذكرته أنت عن هذه الدخول الخيالية لم يعد موجودا الآن. ولا أدري كيف تجرأ هؤلاء علي نهب المال العام بمثل هذا النهم, ولا أدري لم لم تقترب الدولة منهم حتي الآن؟ اجتثاث الفساد من وزارة الثقافة يحتاج إلي ماذا؟ اجتثاث الفساد من وزارة الثقافة ومن أي وزارة ممكن, لأن الفساد مرض, والاجتثاث يحتاج إلي أربعة أمور لازمة: اعتراف بوجود الفساد, وأن يتم تحويل كل ملفات الفساد إلي الجهات الرقابية, وأن تؤدي الجهات الرقابية عملها بصدق, وأن تتم إعادة هيكلة الوزارة بشكل حاسم. فكرة هوية مصر يحيط بها كثير من الالتباس والصراع, حيث يشدد البعض علي هويتها الإسلامية, بينما يغالي الآخر في تأكيد هويتها الفرعونية القبطية.. كيف تري الأمر؟ فكرة الهوية أعتقد أنه هو الموضوع الأساسي الذي ينبغي أن نركز عليه, لأن البعض تصور أن الهوية شيء ثابت عبر الزمان والمكان, وهذا غير صحيح, لأن الهوية بها جوانب ثابتة, وجوانب متغيرة, لأننا لا نستطيع أن نعيد التاريخ, ولا أن نعيد الماضي, ولكننا نستوعب ونشتق ونستمد من الماضي ما يعيننا علي الحاضر والمستقبل. هل يليق بنا كعرب ومسلمين أننا منذ الحسن بن الهيثم' منذ عام1100 ميلادية أي منذ القرن الثاني عشر الميلادي, عندما كان يجري تجاربه الرائده في مجال البصريات والتي طورها الغرب, حتي وصلوا الي اختراع كاميرا تصوير في فرنسا عام1839, لم نقدم اختراعا واحدا للبشرية, لا يصح أن تكون هويتنا بها مثل هذا الثبات. غير لائق بالإسلام ولا المصريين أن نظل مجرد أداة لإنتاج الكلام والعنف. والهوية ليست فقط الدين, الهوية أيضا لغة, تقاليد, أفكار, الشعور المشترك والانتماء الواحد. كيف يمكن أن نصل لهذا الانتماء الواحد لا الانتماءات المتعددة؟ أن تكون هناك مصارحة, وصدق واعتراف بالخطأ, واعتراف بالروابط المشتركة, التي تجمع بين المسلمين والمسيحيين في بوتقة واحدة, والتي تجمع كذلك بين الطبقات المترابطة من التاريخ الفرعوني والقبطي والاسلامي والمعاصر, إضافة الي ضرورة التخلي عن التذاكي علي المصريين من خلال أجندات خفية أيا كانت. دعني أسألك وأنت أستاذ علم نفس.. ماذا حدث للمصريين؟ الذي حدث هو انفجار بركان الرغبات والأحلام والتوقعات المحبطة, وكأن الناس لا يصدقون أن ثورة قد قامت, وكأنهم يخشون من الماضي أن يعود, وكأنهم يعيشون خارج الزمان والمكان. وكذلك ما نجده من انفصال حاد بين واقعين: واقع الفضائيات المسائي الذي تناقش فيه كل القضايا بكل جدية وحماس, ثم الواقع الحياتي النهاري المتدهور المخيف الذي يتناقض مع ما يقال مساء. هل هذه حالة صحية أم مرضية؟ نحن الآن في حالة ما بين الصحة والمرض, نحن الآن نعيش ما نسميه في علم النفس:' الوجود شبه الفصامي' خاصة لدي بعض ممثلي السلطة, ويتسم بعدة سمات: الشعور بالقدرة الكلية علي تغيير العالم والسيطرة عليه, القدرة علي تحقيق المستحيلات, القدرة علي الإتيان بالعجائب, واجتراح المستحيل, وكل هذا ليس منطقيا ولا واقعيا, لأن الواقع منهار ومتدهور, ومع ذلك فلديك كل هذه الأوهام عن العالم, إذن علينا أن نتحرر من كل هذه الأوهام. ثانيا الشعور بالعداء تجاه الآخرين والشعور بالاضطهاد, وكأن كل من يختلف معك عدو. ثالثا العيش في حالة من الغموض والسرية, التناقض, وإظهار عكس ما بداخلك. وهل للوجود شبه الفصامي علاج؟ علاج هذه الحالة شيئان: أولهما الصدق مع النفس,ومع الآخر, من خلال الحوار والمكاشفة والاعتراف بالأخطاء, ونقصان البصيرة والمعلومات.. إلخ. فسيكولوجية الإنكار لا يمكن أن تستمر. الأمر الثاني الإبداع, وتنشيط ثقافة الإبداع, وهي ليست مسئولية وزارة الثقافة وحدها, لأن ثقافة الإبداع معناها الوعي بأن الحلول التقليدية غير مجدية, لابد أن تكون هناك حلول واقعية غير تقليدية. ما الذي يمنع من إطلاق مشروع قومي لتنمية الإبداع في مصر؟! وتبني ومكافأة كل من يبدي فكرة جديدة. ولم لا تنشأ جامعة للإبداع في مصر في كل المجالات' العلم والفن والأدب ؟ وليس فقط معهدا. ألا تتفق معي أن ضعف الخيال السياسي لدي الوزراء سبب من أسباب التردي والتخلف الذي نصلي ناره الآن؟ أتفق تماما, لأن الإبداع يقوم علي أساس الخيال,لا يوجد إبداع من دون خيال,ولكن الإبداع لا يكتفي بالخيال, وإنما يحتاج إلي الذاكرة,وإلي التفكير المنطقي, والواقعي,والإبداع يحتاج إلي الحوار, لأنه لا أحد يبدع من أجل نفسه. للأسف الشديد هناك ضعف خيال في مصر سياسيا واقتصاديا وتربويا وأدبيا وفنيا, ودعني أتساءل: هل هذا مستوي فن أو مستوي سينما ؟ كتبت عن الغرابة والفن مؤلفا ضخما.. تري ما هي صور الغرابة في مصر الآن ؟ كتبت مؤلفين عن الغرابة, أحدهما عن الفن, والآخر عن الأدب, وأعمل الآن في الجزء الثالث عن الغرابة في مصر الآن, ومن أهم مظاهر الغرابة في مصر الآن هيمنة الماضي علي الحاضر,ليس في السلوك والأقوال فقط, وإنما في التفكير.ني الافتقار للابداع والجمود والنمطية الشيء الثاني التكرار, فمن علامات الغرابة التكرار فالآليات الآن كأنها هي نفس آليات النظام السابق. الشيء الثالث ذلكم الحضور الغريب للموت في الحياة كما يتجلي في الحضور المخيف للجرائم والخطف والسرقة والاغتصاب, رابعا الغرابة الموحشة, ذلك الشعور الغريب بالوحشة والخوف الذي يعم معظم المصريين, حتي إنهم يشعرون أن البيت( الوطن مصر)لم يعد بيتهم الأليف والمألوف, نحن الآن نعيش هذه اللحظة من الشك والحيرة والالتباس وفقدان اليقين. ما النصيحة التي تسديها إلي جماعة الإخوان المسلمين؟ أقول لهم: إذا خرجتم من الجماعة بمعناها الضيق إلي الوطن بمعناه الرحب, ستنقذون الوطن وستنقذون الجماعة,أما إذا انغلقتم علي أنفسكم داخل الجماعة, فسيترتب علي ذلك أن تضيع الجماعة, ويضيع الوطن. علي أي شيء تراهن الآن ؟ أراهن علي الطبيعة الحقيقية الخيرة المبدعة المتسامحة للشعب المصري,وأراهن علي البسطاء,الذين أسهموا في الثورة بشكل مباشر وغير مباشر, والذين تمت إزاحتهم عن الساحة بعد الثورة. أراهن علي من يضحون بأموالهم القليلة, ودخولهم المحدودة من أجل تعليم أبنائهم, ويحافظون علي الرغم من هذا الفقر علي كرامتهم واعتزازهم بأنفسهم ووطنهم, وأراهن أيضا علي حس التفاؤل- الفكاهة- المصري الجميل القديم والمستمر والذي يواجه هذه الكآبة التي تحيط بكل شيء, ولكنها أبدا لن تستمر.