«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبوالعلاء المعري..
صاحب الرأس الذي طار!!
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 05 - 2013

قطعوا رقبته يا نقاوة عيني كما فعلوها من قبل برقبة طه حسين.. طيروا رأس تمثال أبي العلاء المعري في سوريا
مثلما أسقطوا رأس تمثال طه معري القرن العشرين بقنا مصر ليثبت المعول الهمجي بطول العالم العربي وثورات خريفه التي شردت شهداءها وفقأت عيون أبطالها وسجنت ثوارها وأخرجت من باطن الأرض ثعابينها وحياتها انتصارا لجحافل الظلام علي النور, ولعناكب الهمجية علي التحرر, ولزحف الإرهاب علي العقل!.. وفي الإسكندرية بالأمس لم يستطع كهنوت التخلف الوصول إلي رقبة تمثال عروس النيل بمنطقة السلسلة المواجهة لإشعاعات نور العلم بمكتبة الإسكندرية فلجأ إلي إنجاز مهمته القبيحة بتلويث ثوب العروس بطلاء النيلة الأزرق... وقبلها أسدل الستار عنوة علي رأس أم كلثوم التي تشدو للبر والبحر والسماء والنجوم والنيل والحب والهرم والكعبة العصماء والأشهر الحرم.. كان تمثال أبي العلاء المعري جالسا علي كرسي حجري في مدخل مدينة معرة النعمان مسقط رأسه, الواقعة علي الطريق ما بين دمشق وحلب, حيث المعارك دائرة مدمرة بالقصف الممنهج بالطائرات والصواريخ لنظام فقد آدميته وأخلاقه وشرعيته وصوابه ليقضي علي كل ما هو حضاري ومدني وتاريخي.. جامعة ومستشفي ومخبزا ومسجدا وسوقا ومنزلا ومدرسة وأثرا, وقلعة كتب عنها طه حسين في رسالته الرائدة لنيل الدكتوراه عن المعري في عام 1914 بالجامعة المصرية من أنها قلعة قد بناها الملك المظفر صاحب حماة عام631 ه وشحنها بالرجال والسلاح فهدمها التتار عام 658 ه, والمدينة معرة النعمان يختلف المؤرخون حول بدايتها, فهناك من يقول إنها آرا القديمة, والصليبيون أطلقوا عليها اسم مار وقد دعيت معرة النعمان نسبة إلي النعمان بن بشير الوالي من قبل معاوية, وقد احتلها العرب عام637 ه واستولي عليها البيزنطيون عام968 ه, ثم الصليبيون في عام1098 ه ليسترجعها نور الدين زنكي في عام1137, وفي المعرة مسجدا اسمه مسجد عطا يقال إن فيه مغارة تضم قبر عطاالله بن أبي رباح حامل لواء النبي.. ولأن بيت أبي العلاء المعري قد شاخ ولم يعد بإمكانه أن يحمل الأيام فحملته الأيام لتذويه بعيدا ليقام مكانه المركز الثقافي بمكتبة كانت تضم 8700 كتاب قبل هوجة سوريا التي أتت علي الأخضر واليابس, وكان من الأخضر قبر أبي العلاء الذي أرهقته الضغائن فركع برفات صاحبه ترابا هامدا علي الأرض, تبكي علي أطلاله الذكري بعدما لم تعد هناك ذكري, فتمثال صاحب الذكري قد غدا بلا رأس!
أبو العلاء الأعمي.. الذي أملي من خيال قريحته في مؤلفه الشعري اللزوميات وحده10751 بيتا من الشعر, إلي جانب ديوان سقط الزند والدرعيات, وفي النثر جوهرة الأدب العربي رسالة الغفران المترجمة للغات الأرض.. الأعمي وقع في غرامه الأعمي طه حسين ليكتب مؤكدا في رسالته عنه أنه ثمرة من ثمرات عصره, ولعل أكثر ما دفعه إليه تشابهنا في تلك الآفة المحتومة التي لحقت كلينا في أول صباه فأثرت في حياته تأثيرا غير قليل..
وإن من الأمور التي تثير في النفس كثيرا من الحزن والغضب أن يتعرض المفكرون والأدباء وأهل الاجتهاد في الرأي إلي الاتهام بأنهم خارجون علي العقيدة وكثيرا ما يؤدي هذا الاتهام إلي ارتكاب جرائم خطيرة مثل محاولة اغتيال أديبنا الكبير نجيب محفوظ في عام1994, والذي قام بارتكاب الجريمة اسمه المكني محمد وكانت لديه بطاقة مزورة باسم محمد ناجي محمد, وهو لم يقرأ شيئا لنجيب لكنه استمع في أحد المقاهي إلي فتوي لواحد من الذين لا حق لهم في الفتوي فما كان منه إلا أن اقتنع بالفتوي الزائفة التي تحلل دم محفوظ فاندفع لارتكاب جريمته, ومهما بذلت من جهود فلا استطاعة لأحد في مقاومة الذين يسارعون إلي تكفير الناس وتحريض الجهلاء علي إلحاق الأذي بهم, فإن كانوا قد من الله عليهم بالوفاة والنأي عن غلظة المكفرين, فلا أقل من ذبح تماثيلهم التي هي في مفهومهم المشوه من ضروب الوثنية مثل عروس البحر التي لم يشفع لها عندهم أن نصفها سمكة أي لا يحل لها ومعها المعاشرة, وأنها قد زفت بزعانفها للموج وليس للبشر!.. وقد أصبح أبوالعلاء رمزا لكل المظلومين الكبار الذين يتعرضون لمثل الاعتداء الشرير باتهامهم في عقيدتهم وإيمانهم بالله ورميهم بذنب ازدراء الأديان, والمعتدون هم أصحاب الفتاوي التي كانوا يطلقونها علي المقاهي دون وعي أو بوعي مقصود لينتقلوا بها الآن إلي منابر التكفير واستوديوهات الترهيب.. إن أبا العلاء مؤمن موحد رغم أنف الحاقدين عليه والمتربصين به والمتسرعين في اتهامه, فهو القائل:
والله أكبر لا يدنو القياس له..
ولا يجوز عليه كان أو صار
أبوالعلاء الذي كان مقيما للصلاة مؤديا فرائض الله القائل: وأدمن الذكر أبكارا بآصال فهو يقرر أنه يصلي الصلوات الخمس دون انقطاع, وأنه يصل أيامه بالقيام والدعاء والذكر والاستغفار, وهو بذلك يعلن أنه يعبد الله حق عبادته.. عبادة لا يبغي بها سوي وجهه غير مرتغب لثواب ولا خائف من عقاب.. وعلي من اتهموه بأنه كان سيئ الرأي في الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج فالرجل أبدا لم ينكره, ولكن الحج في زمنه كان صعبا وشاقا علي الإنسان الطبيعي فما بال الضرير, وكان الحجاج يتعرضون في مسيرة الإحرام علي الدوام لقطاع الطرق, والقرآن الكريم صريح بأن الحج لمن استطاع إليه سبيلا لهذا يقول المعري الذي يري في فريضة الحج الثواب الأكبر ويتمني لو تحققت له مع ما يعرف ما يعترضه بينه وبينها من أهوال ومخاطر:
غفرانك اللهم هل أنا طارح بمكة في وفد يثاب سليب
المعري المؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر الذي يردد في أشعاره وما من إله إلا إله واحد وقوله والله علي كل شيء قدير وقوله إن ربك هو القوي القدير وقوله:
مولاي مولاك الذي ما له ند وخاب الكافر الجاحد
والدعوة الكبري التي تقوم عليها فلسفة الشاعر العظيم هي الدعوة إلي الرحمة التي نبدأ بتأصيلها مع كل سجدة وركعة وقيام وسلام وختام بفاتحة الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم دعوة عامة شاملة للمجتمع الإنساني كله لتترجم الآن بما يسمي حقوق الإنسان بحيث لا يعتدي شخص علي شخص, ولا جماعة علي جماعة, ولا يتسلط قوي علي ضعيف, ولا غني علي فقير, ولا حاكم علي محكوم, ولا شرطي علي مواطن.. حقوق الإنسان التي تنتشر في شعر أبي العلاء انتشار الضوء في ليالي البدر الكامل تحت سماء صيفية صافية.. الرحمة التي تمتد من علاقة الإنسان إلي علاقته بالكائنات الحية الأخري, فتراه يدعو إلي الرحمة حتي بالبرغوث وبالعصافير وسائر الطيور والحيوانات, ويتسع هذا الموقف الرحيم عند أبي العلاء ليمتنع طائعا عن أكل اللحوم ويصبح نباتيا, ولا يأكل إلا ما يسد رمقه.. لقد سيطر الشاعر العربي العالمي علي شهوة الطعام سيطرة كاملة, وبلغ من شدة حرصه علي عدم إيذاء الحيوان دعوته بأن تكون جميع الأحذية من الخشب, فالحذاء الجلدي في القدم معناه أن هناك حيوانا قد قدم روحه قربانا علي مذبح قدميك لتذبحه وتسلخه وتأكله وتسخر جلده لتحمي جلد قدميك.. وتتمدد دعوة أبي العلاء الزاهدة إلي حد القول بأنه ليس من الحكمة أن يسعي الإنسان إلي أن يكون صاحب منصب أو سلطان, ففي ذلك ما قد يغري بظلم الناس والقسوة عليهم.
وتعبر دعوة أبي العلاء إلي الرحمة بالحيوان القرون ليغدو لها أنصار في العصور الحديثة, مما يكاد يجعل عالمنا هو عالم الدعوة إلي حقوق الإنسان وحقوق الحيوان في وقت واحد.. وأبرز مثال علي ذلك الحق الحيواني لمحته في إعصار أوكلاهوما المدمر الذي حمل بالأمس رياحا وصلت سرعتها إلي320 كيلومترا في الساعة مما أدي إلي دك أحياء بكاملها وأودي بحياة ما يقرب من100 شخص إلي جانب ما قد يسفر عنه البحث من ضحايا جدد تحت الأنقاض.. ما أن ظهر الرئيس أوباما علي الشاشة يشرح الحادث ويحفز السلطات ويواسي أهالي الضحايا حتي ظهرت من بعده صورة الكلبة سكرSUGAR التي فقدت في الإعصار ويهيب صاحبها بالبحث الدوري الجاد عنها نظرا لظروفها الخاصة من أنها كلبة بيتي لم تخرج إلي الطريق بعد ولا تتناول الطعام إلا من يد صاحبها!!
و..يظل أبوالعلاء مظلوما في زمانه وما بعد زمانه لنرث من القدماء موقفهم منه حتي جاء طه حسين والعقاد وعبدالرحمن شكري والمازني وأمين الخولي ليقدموا لنا من جديد شاعرا عظيما وفيلسوفا جبارا يقول عنه المازني مازال إلي يومنا هذا في المحل الأول والأرفع بين شعراء العربية, ويضعه كبار المستشرقين في مقام الظاهرة التي تتجاوز هوميروس بكثير, ويعترف شوبنهاور بأنه فتح عينه علي الحقيقة, ويتأثر به دانتي في الكوميديا الإلهية التي كتبها من وحي رسالة الغفران وقد ظل كتاب الغرب يكذبون تلك الحقيقة حتي نشر المستشرق الإنجليزي نيكلسون تعريفا برسالة الغفران وفقرات من نصها في المجلة الأسبوعية الملكية في الأعوام من899 حتي..1902 الرسالة التي كتبها عام423 ه ردا علي رسالة صديقه ابن القارح واستمد فكرتها من معجزة الإسراء والمعراج إلا أنه عمد فيها توظيف فلسفته في قوله هذا جناه أبي علي وما جنيت علي أحد وقد كتبها وهو في الستين بعدما واكب انحلال الدولة العباسية وبلوغها حافة الشيخوخة وهو الذي عاش في صباه زمنا بلغت فيه الثقافة العربية أوج ازدهارها ليجسد بسخرية تشد القارئ وتستحوذ عليه بخفة ظلها رغم النزعة التشاؤمية لدي صاحبها كل ما حرم منه من متاع الدنيا, ويعود السبب في هذا الحرمان إليه هو بذاته.. وكان حرمانه من متع الحياة دافعه لتنصيب نفسه قاضيا ليحاكم الموتي.. يدخل الجنة من يصطفي من أهل الأدب والبلاغة واللغة, ويسوق إلي الجحيم من يراه مستحقا لدخوله, وكي يبرر لقارئه عدالته يصطحب معه في رحلته إلي السماوات العلا صديقه ابن القارح ليطلع علي صورة حياة أهل الآخرة.. بداية الرحلة بالجنة ومشاهدها مشتقة من القرآن الكريم, فأهلها يحيون في حبور وسعادة, مفارشهم من سندس, يأكلون ويشربون في آنية من ذهب وفضة عسلا وفاكهة ولحما وخمرا, تحيط بهم حور عين, وأنهار من عسل مصفي, ويرفه عنهم مشاهير المطربين أمثال معبد ودنانير, وتحلق حولهم أسراب طيور الجنة التي يقابلون فيها الشيخ أبا البشر آدم عليه السلام, ويدور بينهما حوار بالعربية لغة أهل الجنة ويلتقي في رسالة الغفران بأهل الأدب والفكر ومنهم الأعشي, وزهير بن أبي سلمي وغيرهما.. وينتقل المعري فيها إلي النار فيقابل إبليس ويدور بينهما حوار فلسفي يحاول فيه إبليس استدراجه إلي الكفر عبر سؤاله عن سبب منع الخمر في الدنيا بينما هي متاحة في الجنة, فيجيبه مفحما بأن خمر الآخرة غير خمر الدنيا, ويلتقي بالشعراء القدامي أمثال امرئ القيس وعنترة وعلقمة, ويرفض تبريرات أهل النار, ويمضي عائدا إلي الجنة مرة أخري, ويبدي خلال الحوار فلسفته وكراهيته للفساد الخلقي كالكذب والنفاق.
في أشعاره كما يقول طه حسين أدخل المعري الشعر علي الفلسفة والفلسفة علي الشعر, والفلسفة هي أن يبحث الإنسان عن الحق وأبوالعلاء قد اقتنع بعقله أنه حق وقد استوي علي عقل فلسفي يمثل كل ما أنتجه الفكر الإنساني من فلسفات اليونان والشرق, وفلسفة الفكر الإسلامي.. كان معتدا بالعقل في كل شيء ولا إمام لديه سوي العقل الذي يهدي إلي العلم والذي يؤتمن به في معرفة الله والكون ويحث الناس علي استخدام عقولهم ملحا في ذلك إلحاحا شديدا بمثل ترديده للقول القرآني أفلا يعقلون وأفلا يتفكرون, وأن العقل هو تاج الإنسان الذي يتألق فوق رأسه, وقد جاء ذكر العقل في القرآن الكريم أكثر من خمسين مرة ومنها قوله تعالي ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب, ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك, وقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا عبادة كتفكر.. ويشبه المعري الذين لا يستخدمون عقولهم بالأنعام والدواب ودعاهم صما بكما عميا كقوله تعالي: إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون..
ويعمل المعري عقله فيأتي بالجديد فيسقط علي سبيل المثال شرط القافية في الشعر متنبئا بالشعر الحديث أو الحر خلافا لمعاصريه وسابقيه الذين كانوا يرون القافية شرطا أساسيا للشعر, وكان رافضا التكسب بالشعر ورأي أن في ذلك مذلة للشعر والشاعر, إذ أن للشاعر وظيفة بناءة في المجتمع, ومن هنا فنادرا ما مدح المعري غيره بالشعر, ولم يتكسب به علي الإطلاق, ولم يخرج من حضرة الخليفة مرة بصرة الدنانير, وقد دعا الشعراء إلي الصدق في أشعارهم, وكان ناقدا لأشعار غيره يعجبه الصدق والحكمة في كتابة الشعر, والصدق في إلقاء الشاعر لشعره, وكان معجبا بقصيدة الشاعر أبي الحسن التهامي في رثاء ابنه إلي درجة أنه كان يطلبها من زواره يوميا ليلقونها علي مسامعه, وكيف أن التهامي نفسه دخل عليه دون أن يعرفه بنفسه وأنشدها أمامه فصاح المعري: أنت التهامي؟! فقال: نعم, وكيف عرفتني؟ فقال: سمعتها منك ومن غيرك فأدركت من حالك أنك تنشدها من قلب جريح فعلمت أنك قائلها.. وكان الشعراء يلجأون إليه ليحكم في أعمالهم فيذكرهم بخيمة النابغة الذبياني في سوق عكاظ.. وتعد دواوينه معجما لغويا حفظ الكثير من ألفاظ اللغة وتراكيبها من الضياع, وكانت تحديا من المعري للمبصرين فكيف وهو الأعمي قادر علي وصف ما يراه المبصرون ولا يستطيعون إجادة وصفه مثله.. ويعد أبوالعلاء المعري صاحب المدرسة الحديثة في النثر, فقد جاءت رسالته الفصول والغايات ثورة علي النثر التقليدي, وإن حاول فيها إيجاد جنس جديد في اللغة يزاوج ما بين الشعر والنثر.. وكانت رسالته الصاهل والشاحج ريادية فقد وظف فيها الحيوان لنقد عصره وبيان رؤيته النقدية تجاه بعض الشعراء, وقد طغت في تلك الرسالة ظاهرة الحوار فكانت مزيجا من المسرحية والرواية, وفي القراءة النقدية لأعمال المعري يقول الدارسون إنه دائب فيها علي طرح الأسئلة ومناقشة الإجابات, وهو الشاعر القلق المتأجج الذي يحرك الأسطح الراكدة ويثير الحيرة والاضطراب في نفوس آثرت الموات والركون إلي الدعة والراحة التي اشترتهما بالصمت أو بالوهم والغفلة..
أبو العلاء.. أحمد بن عبدالله بن مهر بن داوود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحرث بن أرقم بن عدي بن غطفان بن تيم الله بن أسد بن حمير بن سبأ بن قحطان من قبائل اليمن والمولود عام973 م, الراحل عام1057م الذي يقول عنه الدكتور محمد كامل حسين صاحب رواية( قرية ظالمة) ودراسات أخري منها( الشعر العربي والذوق المعاصر): أبا العلاء كان بطبيعته متدينا غاية التدين, فالتدين عنده طبيعة كامنة في النفس وصفة ملازمة لها, ودليل التدين أمران: الأول أن يعمل الإنسان أعمالا صالحة ليس مضطرا إلي عملها إلا بدافع من نفسه, والثاني أن يمتنع عن أمور سيئة لا يمنعه منها إلا وازع من نفسه, وأبوالعلاء علي ذلك هو من أكثر الناس تدينا, وأعمقهم إيمانا وإخلاصا لأن طبيعته تأبي عليه غير ذلك.
ويقول في رثائه الشاعر حافظ إبراهيم:
أيقنت أن الدين لله وحده..
وأن قبور الزاهدين قصور
وكم قيل عن كف المساكين باطل..
وكم قيل عن شيخ المعرة زور
ابن معرة النعمان.. سجون ثلاثة أحاط بها نفسه وأحاطت هي بأبي العلاء, فبصره في حجاب, بعد أن أصيب وهو في الرابعة بالجدري فنال من وجهه وعينيه, وكانت عينه اليسري غائرة بينما اليمني بارزة وكان يقول: لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني ألبست في مرضي ثوبا معصفرا.. وهو في بيته سجين, ونفسه سجينة في جسمه, وسجن رابع هو زهده الذي أمسك وراء قضبانه الغلاظ بحياته اليومية في مطعمه وملبسه, فهو يلبس خشن الثياب, ولا يطعم سوي العدس والتين, ولا يملك سوي دخل محدود من وقف موروث يبلغ ثلاثين دينارا سنويا يقسمها مناصفة بينه وبين من يملي عليه كلامه, وقد رأي مرة أن يزور بغداد عاصمة العلم العربي والحضارة العباسية التي طالما رحل إليها العلماء والأدباء من جميع أقطار العالم الإسلامي, ليظل بها نحو عام ونصف ينهل من مكتباتها, وحدث بينه وبين بعض أعلامها في مجلس الشريف المرتضي ما كدر إقامته بها فارتحل عائدا إلي بلده وفي الطريق بلغه نعي أمه فأثر ذلك في نفسه تأثيرا بالغا, وما أن حط رحاله حتي عاد بكامل إرادته إلي داخل أسوار سجونه الأربعة ليظل خمسين عاما قابعا فيها لا يفارقها إلا للصلاة في مسجده ليغدو بيته أشبه بالجامعة, فطلاب العلم يقصدونه من جميع الأقطار, حتي قد بلغوا أحيانا أكثر من مائتين في وقت واحد..
المعري كما رسمته بنت الشاطئ بقي إلي آخر عمره لم يتزوج, وأمضي نحو نصف قرن من الزمان, فراشه سجادته من لباد في الشتاء, وحصير البردي في الصيف, وهو علي رغم العروض التي انهالت عليه أبي أن يتراجع عما ألزم به نفسه من الامتناع عن اللحم واللبن والبيض, وإيذاء الحيوان ومع هذا فإن في أشعار اللزوميات ما يفيدنا أنه ما كان راضيا في أعماق نفسه عن ذلك الحرمان الطوعي إذ ظل يلوب حول الماء من ظمأ ويشكو وطأة الحرمان إلي عهد المشيب الذي تأخر.
المعري فاقد البصر ثاقب البصيرة الذي نجا من عقدة النقص لأنه اعترف بعجزه ورد الظلم الذي وقع عليه إلي الظلم الجوهري الواقع علي البشر أجمعين.. المعري.. الرجل العف المترفع الذي لزم بيته وعرف قدر نفسه.. المعري.. من لم يخطب ودا ولم ينافق أحدا, بل أعلن رأيه الصريح في أمراء عصره ومثقفيه, فالأمراء يتخذون المذاهب الدينية أسبابا لجلب الدنيا, والأدباء يعلمون الناس الكذب, والشعراء أكثر الناس شرا, والدنيا امرأة حائض ورغم ذلك يقف علي قبره حين دفن84 شاعرا يرثونه.. المعري.. صوم دائم وطقس ديني عنيف ينخرط فيه انخراطا كليا يندمج فيه الظاهر والباطن وكأن حياته كلها كانت صلاة للحقيقة وتكفيرا عن ذنب مجهول.. المعري.. الناقم علي المرأة لأنها سبب الإنجاب واستمرار الحياة فيقول عنها في لزومياته: بدء السعادة إن لم تخلق امرأة.. المعري.. الذي أعجب به طه لكنه إعجاب لم يخل من النقد هذا الرجل الحر الذي لم يعرف المسلمون من يشبهه فيما أباح لنفسه من حرية عقلية لا يستطيع أن يتمتع بها مسلم في هذا العصر الحديث.. عصر الدستور والحياة النيابية, هذا الرجل الحر في رأيه وتفكيره, وفيما تصور وفيما خيل إلي نفسه وإلي الناس, وفيما انتهي إليه الناس من مذهب, هذا الرجل الذي تجاوز الحرية إلي الثورة قد فرض علي نفسه قيودا محكمة, وأغلالا ثقالا. ولقد حرر نفسه من القيود الاجتماعية والطبيعية أيضا, إلا أنه فرض عليها قيودا فنية, ننظر إليها فنبتسم, والتي أقل ما توصف به أنها ساذجة, لا تلائم جد الفيلسوف ومرارته.. المعري.. الذي يظل دارسا عابدا حتي آخر يوم, ويفقد سمعه إلي جانب بصره, ويعجز عن الحركة, وينصحه الطبيب أن يتناول الدواء فيأبي منشدا:
تعللني لتشقيني فذرني لعلي أستريح وتستريح
يا صاحبي الفيلسوف.. آه لو أنهم تركوا المفكرين يفكرون كما يشاءون ويثرثرون كما يريدون, فكل هذا الضجيج لن يصل خبره إلي القلب الذي لا يفتر لحظة عن التسبيح, فالدين في جوهره علم وفكر, ولا عبادة كتفكر كما قال الرسول صلوات الله عليه.
أبو العلاء.. تبت يد من قطعوا رأسك في مسقط رأسك لتجلس تمثالا بلا رأس معبرا عن وطن ذهب الجنون برأس حاكمه.. أبا العلاء أنت الذي قلت: وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل.. ووالله يا رهين المحبسين لقد جئتنا بما لم يسبقك إليه أحد وستظل ذكراك سارية في البلاد فما لهم بإخفاء شمس ضوؤها متكامل!
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.