تعلقت بها منذ اللحظة الأولي التي رأتها فيها.. كانت تتهادي بدلال وتيه علي شاطئ الترعة في القرية الريفية حيث كنا في ضيافة أقارب لنا هناك, كانت نوران ابنتي ذات السنوات السبع مندهشة وسعيدة بهذا الاتساع الهائل من الخضرة بعيدا عن علب الإسمنت التي تحتوينا في المدينة ومن التعايش الحي مع الأبقار والحمير والبط.. إلا ان هذه البطة بالذات لفتت نظرها بشدة فاقتربت منها بخوف في البداية ثم أخذت بعد ذلك تلاعبها وتجري خلفها.. ولم يكذب أخونا الأيم عبدالمنعم خبرا فأقسم بالله ثلاثة أن نأخذها معنا في السيارة.. وكانت سعادة نوران طاغية بهذه الهدية وتألمت كثيرا وهي تراه يربط البطة من رجليها وينزع ريشها الطويل حتي يمكننا من التحكم فيها. وضعنا البطة في حقيبة السيارة الخلفية وكانت نوران طوال طريق العودة قلقة ومنشغلة بحالها ناظرة من الزجاج الخلفي للسيارة وكأنها تشاركها وجدانيا في وحدتها. وعندما وصلنا الي الشقة وأطلقناها ظلت تجري هنا وهناك وتختبئ منها فتفاجئها في مخبئها وهكذا وجدت نوران من يلاعبها وأعلنت بصرامة: من النهاردة البطة دي بقت صاحبتي خلاص وماحدش له دعوة بيها! وعندما كانت تخرج مع أمها كانا يشتريان لها في طريق العودة الخس والكرات والذرة الشامية والفول حتي تأكل.. وكانت نوران عندما نقوم بتزغيطها تتعجب من الطريقة التي نؤكلها بها, وتقول ماتسبوها تاكل لوحدها بدل كده ولكننا عندما أقنعناها أن هذا لتغذيتها.. بعد ذلك كانت تصمم أن تقوم هي بتزغيطها! وكانت أحيانا تجلس وتضعها علي رجليها وكأنها تحمل رضيعا تريد أن ينام وقمت بتصويرها بالموبايل. وهكذا ظلت العلاقة تتوثق يوما بعد يوم بين الصديقتين وكانت الأم تعامل البطة بحنان ورفق وكأنها طفلة صغيرة, أما محمود( الابن) فقد قام بعمل تعريشة لها في البلكونة, حتي ضقت ذرعا بما تسببه البطة من تلوث في الشقة والبلكونة وأشفقت عليها من برودة الجو حيث لا يوجد لدينا مكان مهييء لمعيشتها.. فكان قراري الأخير هو ذبحها.. وكان ذلك هو الطامة الكبري لنوران التي رفضت بشدة: ازاي تدبحوها.. دي صاحبتي بالعب معاها.. حرام عليكم. ولكن بعد أن شرحت لها الموقف وأكدت لها صعوبة استمرار هذا الوضع وافقت علي مضض, لكنها صممت أن تذهب معي في رحلة الذبح الأخيرة عند بائع الدجاج.. وقفت نوران علي باب المحل تنظر بأسي إلي البطة وعيناها تذرفان الدموع.. كانت تحاول أن تشيح ببصرها بعيدا حتي لا تري هذا المنظر المؤلم بعينيها.. وتنظر اليه باستعطاف وكأنها تأمل أن يغير رأيه ولا يقوم بذبحها إلا أنه قام بذلك فعلا بعملية روتينية يقوم بها يوميا عشرات المرات ولا يهتز له جفن غير عابئ بأن هناك قلبا يتمزق من أجل هذه البطة الصديقة الأنتيم لها. اندفعت الدماء غزيرة من رقبتها وقام بعد ذلك بقطع منقارها ورجليها وقذفها الي برميل به ماء ساخن واخرجها بعد ذلك وقام بنزع ريشها وتفريغ أحشائها ووضعها في كيس بلاستيك وأعطاها لي. وعندما عادت أخذت تقص ما حدث وهي تبكي بحسرة.. وظلت هكذا طوال النهار مابين حزن وبكاء رافضة تناول أي طعام.. وفي اليوم التالي جاءتني تقول بجدية يالا يابابا نقرا الفاتحة علي روح البطة وفعلا قرأناها جميعا معها.. وعندما خرجنا معا قلت لها مازحا: ماتيجي نشتري خس للبطة قالت ماخلاص بقي يابابا الله يرحمها.. ما هي اتقتلت. وطلبت من شقيقتها ضحي أن تعلمها كيف ترسم بطة وقامت فعلا برسمها أكثر من مرة في كراستها. وضعنا البطة في ال ديب فريزر لحين طبخها, فكانت نوران بين الحين والآخر تفتح الدرج الموجودة فيه وتختلس النظر اليها بحزن وأسي.. وعندما كنت أسألها( وأنا اعلم مدي حبها للحم والدجاج) هل ستأكلين منها عندما نطهها أم لا؟.. كانت تقول حاخد الحتة بتاعتي ومش حاكلها ابدا.. حاشيلها كده ذكري للبطة. .. وحتي كتابة هذه السطور لم أتمكن من كتابة نهاية هذه القصة لأننا لم نعد البطة للشي بعد لتأثرنا بعواطف نوران تجاهها وعفت نفوسنا أن نأكل صديقتها!!