كان عمله الروائي الأول قف علي قبري شويا بداية رآها النقاد تجربة جديدة, تمثل خطوة هامة من الخطوات التي يحاول الروائيون الجدد قطعها نحو طريقة في السرد مغايرة لما سبق. بعدها توالت أعماله فكانت السما والعمي2004, فؤاد فؤاد2008, إدراكه الإنساني, وكانت آخر أعماله رواية أمنا الغولة2010, وقد تناولت إشكالية تغول المجتمع. ويأمل الروائي محمد داود أن يعيش ويقدر علي إتمام جدارية روائية تترابط فيها أعماله, رغم انفصال موضوعاتها, ويصل بكل ما يكتب لأقصي ما لديه فنيا. وحول ما يتمني وما يعتقد حول الأدب والكتابة والواقع الذي تغترف منه كان لنا معه هذا الحوار. * بداية, هل أنت كاتب ساخر, كما يصفك بعض الأصدقاء؟ واذا كنت حقا فبأي معني؟. آراء الآخرين- كالكتابة ذاتها- تكشف لي جوانب لا أدركها من نفسي. فوجئت بالآراء التي تحدثت عن الملمح الساخر في أعمالي, وتبين لي أن هذا تسرب إليها دون وعي مني, فلم أضع في اعتباري أن أكون ساخرا كروائي; لكن هناك رواية أكاد أنتهي من كتابتها قاصدا أن تكون ساخرة بعنوان( بار أم الخير), ويظل هدفي الأول أن أصل بكل عمل أكتبه لأقصي ما لدي فنيا, والسخرية مشروعة لكنها ليست من أهدافي المسبقة, ونحن كمصريين لدينا مزاج ساخر عموما, ومعاني السخرية ومستوياتها كثيرة, المعني الأقرب لنفسي هو المواجهة, ولا أقول المقاومة, والواقع الذي أغترف منه مليء بالمفارقات, وعندما تحتشد تلك المفارقات في أعمالي أبدو ساخرا, ولما ظهر الفيسبوك, وجدت في السخرية الحرة سبيلا للتواصل مع الأصدقاء, فشاع أني كاتب ساخر, وهو أمر أشرف به, وأتمني أن يكون صحيحا. * استهللت عملك الروائي الأول قف علي قبري شويا بإهداء إلي الفقيد المجهول, لماذا فضلت التجهيل؟ ومن هو المفقود المقصود؟. لو أهديت أعمالي كلها لكانت لمن لم أستطع تحقيق أمنيتهم لي بأن أكون سعيدا, لكني غير مقتنع بإهداءات الروايات, والإهداء في قف علي قبري شويا فني متفق مع طبيعة الرواية, وموجه لفقيد الشباب الذي لا أعرفه, عقب بضعة أبيات من شعر متداول أخذت العنوان من إحدي شطراته, وتقدم الرواية ستة أبناء لأسرة فقيرة, بمراحل مختلفة من التعليم, ضمن صراعهم للحياة في واقع كأنه قبر كبير, تناولت أشياء كالدروس الخصوصية, وأنبوبة البوتاجاز, والتعيين في كلية الشرطة بالواسطة, وما إلي ذلك من معالم الواقع الأليمة, أردت أن يكون الإهداء مفتتحا للعمل وجزءا منه, ولم أستعمله لغرض اجتماعي. * شخصيات الرواية بدءا من نعيمة وانتهاء بالمدرس الأعور حافظ عاجزون عن ممارسة حياة إنسانية حقيقية, ما السبب؟. عوامل كثيرة تعوقنا عن استكمال إنسانيتنا, ربما تكون أولي رواياتي قف علي قبري شويا محاولة للكشف عن بعض تلك العوامل, ولو استطعت حصرها بطريقة مباشرة في إجابتي عن هذا السؤال, لما كتبت تلك الرواية, وهذا صحيح مع كل عمل أكتبه, فالمباشرة تضعني في منطقة الآراء التي تحتمل الصحة والخطأ, أما الفن فصادق دائما, لهذا أفضل الإحالة إلي قراءة العمل نفسه, وسوف تصدر منه طبعة أخري قريبا. * الرواية مليئة بالقتامة والظلم, فما الهدف من أن تكون تجربتك الأولي قاسية, ألم تخش من هروب القارئ من أعمالك؟. القارئ لا ينفر من الصدق, وذلك أتوخاه بصرف النظر عن مفردات كالمأساوية والسخرية وغيرهما, الفن يرتفع بتلك المعاني ويحولها إلي متعة جمالية, والذي حدث فيما أري أن القارئ لم يهرب من أعمالي. وفي السؤال الأول من هذا الحوار أشرت للملمح الساخر في كتاباتي, مما قد يفجر الضحك أحيانا. إحدي وظائف السخرية التخفيف من قتامة الصورة, قف علي قبري شويا مكتوبة بأسلوب مشهدي, كنت مجرد مصور, وكما اكتشفت أني أكتب بسخرية, فقد واجهت عبر الكتابة قسوة الحياة وفسادها, إضافة لأزمات الإنسان كموجود عاقل وفان. مفردات الصورة ليست مسئوليتي كمصور, فهذا ما يسمي الواقع, وعادة أتلقي تعليقات مختلفة في كل عمل, هذا يقول ساخر لدرجة مضحكة, وهذا يقول مأساوي بدرجة مبكية, ولا تناقض, الرواية قطعة من الحياة والرؤي تختلف. * تشابهت رواية فؤاد فؤاد مع قف علي قبري شويا في قراءة واقع المجتمع, وحالة الحزن التي تصل إلي حد الرثاء, لماذا هذا الإصرار علي الحزن؟ لكل كاتب روح خاصة تجدها في كل أعماله, ذلك لا ينفي أن الحالة والشخوص والموضوع, واللغة والسرد والبناء, كل ذلك مختلف في العملين المذكورين, وأحد مبادئي الفنية أن أجتهد في صنع حالة خاصة بكل عمل; فالكاتب الجيد لا يكرر نفسه, ولدي أمل أن أعيش وأقوي علي إتمام جدارية روائية ترتبط فيها الأعمال رغم الانفصال. تجدني أستعمل شخوصا ثانوية في أعمال سابقة, وأمنحها الفرصة للاكتمال في أعمال أخري, علي أن يبقي لكل عمل حالته وطبيعته المستقلة, بل وشكله الفني الخاص. * كانت ثورة فؤاد علي نفسه وواقعه بسبب مناداته بكلمة زس أحلامه أصلا؟ أدرك فؤاد بعد فوات الأوان أن السنوات مرت به دون إنجاز, لم تكن له أحلام حتي يتخلي عنها, خطؤه أنه لم تكن له أهداف واضحة يسعي لتحقيقها, ويضحي بالجهد والوقت وصولا إليها, لهذا ثورته ليست ثورة, إنها أنات احتضار, أو قل صرخات ألم علي ما انفرط من العمر بلا معني, هذا كل ما هنالك. * ما تفسيرك لرغبات فؤاد الجنسية, التي تفجرت فجأة بعد ثورته علي نفسه, ألا تحمل قدرا كبيرا من المبالغة؟. هذا القول يقيس الفن بمازورة الواقع, وللفن مقاييس خاصة تنبثق من داخله ولا تفرض عليه من الخارج, المسألة في فؤاد فؤاد مجرد تكثيف للحالة, ومن هذه الوجهة يمكنك إطلاق كلمة مبالغة علي كل فن, فؤاد أعزب في أواخر الأربعينيات من عمره, موظف تافه, بلا إنجاز مهني ولا اجتماعي, ويحاول إدراك ما فات, يحاول اقتناص أعوام طويلة من إقصاء وإهمال إنسانيته في وقت قصير, وفي ظروف غير مواتية, طبيعي أن تكون له رغبات غير مشبعة, إذ لم يعش حياة طبيعية وحرة يتصالح فيها مع نفسه برغباتها المختلفة. *في نفس الرواية شكري دائم البحث عن شبيه لابنه زس, منزله, ما دلالة ذلك؟. يحاول شكري أن يكتشف في وجوه الآخرين ملامح ابنه المفقود في الحرب, ورأي في ملامح فؤاد ما اعتقد أنها مثل ابنه, فأخذه لرسام غريب الأطوار ليرسمه, وفعل هذا مع آخرين غير فؤاد, يريد أن تكون معه صورة لابنه( الشهيد). يصعب القبض علي الدلالة بقدر ما يسهل الشعور بها, لا يمكنني الشرح بمثل ما لا يمكنك شرح قصيدة, قد يمكن القول هذه صورة أخري من محاولات عبثية لإدراك ما لا يمكن إدراكه. * في رواية أمنا الغولةس, بهذا المعني قصدت التغول؟. تبدو المسافة بعيدة حتي يكتمل نضج الضمير الإنساني, رأي جيمس بريستيد أن مهد الضمير كان في مصر الفرعونية, وهناك شبه اتفاق علي أن المرحلة الحالية هي طفولة الضمير الإنساني, نتمني أن يتواصل نضجه بوتيرة أسرع, ويؤسفنا أن العمر القصير لا يكفي لنري بأعيننا تحسنا ملحوظا; لكن من نواحي النبل عند الإنسان أنه يحتفظ بالأمل, ويحلم, ويواصل الحياة رغم كل شيء, وفي رواية أمنا الغولة تتجسد الصفات الجشعة في شخصية الغولة, الكائن الأشد فتكا في ثقافتنا الشعبية, يفترس البشر ويسخطهم, ويتنكر هو نفسه في أشكال مختلفة. * ألا تري أن استخدام الغول ككائن فولكلوري, بهدف وصف تغول المجتمع قد أفقد النص الواقعية المطلوبة؟. الواقعية ليست مطلوبة لذاتها, وعلي كل حال الرواية عن قرية, بها أسرة من رجل طاعن في السن وبنات ابنه الراحل, وأمهم الأرملة, وجدة البنات, وهناك باعة بطاطين يجولون بالقري, ويبيعون الأسرة بطانية رديئة بسعر مبالغ فيه, هذا هو الخط العام للرواية, إنه عين الواقع, وفي الوقت نفسه هناك جزء خيالي متفاعل ومتداخل مع ذلك الواقع, وهو ما يراه القارئ, إلا أن جميع أفراد النصف الواقعي في الرواية لا يرونه, وإن كانوا يكتوون بآثاره الغاشمة, هذا الأسلوب في البناء الروائي لا يمكن نعته بالخيالي ولا بالواقعي وكفي, كما أنه ليس مما يوصف بالواقعية السحرية, حيث يكون هناك حدث أو شيء خيالي مرئي من الجميع ويتم البناء عليه في الواقع نفسه, لم أفكر في إطلاق اسم علي هذه الطريقة في السرد والبناء, لكنها في تقديري إنجاز الرواية الأول. * أشرت إلي الأثر الذي تركته رواية فساد الأمكنة في قلبك.. وأعمالك الروائية حملت الكثير من ملامح هذا الفساد, فإلي أي مدي كان تأثرك بالرواية؟. أفكر في السؤال فلا أعرف كيف أصف تأثري بأي عمل أو أي كاتب أساسا; وهو شيء يحدث دائما, وعلي الكاتب أن يجلس مجلس المتعلم من كل عمل يقرؤه, فالكتابة عالم خاص, تنفتح فيه الحدود بين الثقافات والأزمنة. لا أتصور كاتبا لا يطلع علي عيون الكتابة العالمية, إذ لا فضل لكاتب علي آخر إلا بالإبداع, ويتجاور في نفسي كتاب متباعدو المشارب. في فساد الأمكنة تجد المكان بمعالمه وأساطيره, كما تجد المعلمة في تولستوي, والغور المتوحش في النفس عند ديستوفيسكي, والفهلوة في كونديرا, ومتعة الألوان الصارخة عند ماركيز, والريادة والتطور عند نجيب محفوظ, والعنفوان والجموح عند يوسف إدريس, وسلاسة اللغة عند يحيي الطاهر عبد الله, والتدفق والصياعة عند خيري شلبي, ورهافة الحس, ونمنمة المشاعر عند جمال الغيطاني, وإن شئت إدوار الخراط تجد لديه الإصرار وغزارة الإنتاج, ستجد ما يؤخذ من كل كاتب, وعلي المرء ألا ينسي نصيبه من أقرانه, وأن تمتزج كل العطور بذاته وتجربته الخاصة, فيكون له عطره الخاص, الأسماء التي ذكرتها أمثلة, لو طوفت طول العمر بين العطور لما فرغت منها, وعلي الكاتب أن يطور عطره دائما بإضافات جديدة.