لم يكن حادث تسمم أبنائنا الطلاب في المدينة الجامعية بالأزهر منذ أيام هو السبب الوحيد لفتح هذا الملف, ف'سموم' الأغذية أصبحت كارثة تهدد حياة المصريين. راجع صفحات الجرائد علي مدي السنوات الماضية لتدرك كم عاني وشكا المصريون من أغذيتهم الفاسدة ولم يتحرك أحد..فتش في أسرة المستشفيات, وعيادات الأطباء عن أنواع المرض, لتدرك حجم الكارثة التي أصبحنا نعيش فيها وتعيش فينا..تجول في شوارع المحروسة ومحافظاتها, لتري بعينيك كيف تباع السموم علي الأرصفة, دون رقيب أو رادع! بعدها اسأل نفسك: متي تنتفض الحكومة, ومتي يتحرك المصريون تجاه هذا الوحش الذي ينهش أجسادهم, ويزيدها مرضا علي وهن..يا الله, حتي الأغذية فاسدة..مسمومة, والله لقد صبر المصريون كثيرا, ولكن صبرهم نفد. في هذا الملف ندق أجراس الخطر للمرة المليون, لعل هناك من تستيقظ ضمائرهم. رائحة قوية غريبة تنتشر في المكان, تشعرك بأنك تجلس بالقرب من قدر زيت يغلي, وتلمح عينيك الدخان المتصاعد في كل اتجاه, تلك الرائحة غطت علي عوادم السيارات, حتي إن الإنسان أصبح يحدد مصدرها علي بعد عشرات الأمتار, هذا المشهد بات واضحا في شوارع القاهرة, حيث تنتشر المطاعم التي تستخدم زيت القلي عدة مرات لقلي الطعمية والبطاطس, دون معرفة الأخطار الناتجة عن ذلك, والتي تعود بالضرر علي الإنسان والبيئة, وبالعين المجردة يمكن أن تكتشف مدي خطورة هذا الزيت من لونه الذي تحول من الأصفر الشفاف إلي البني المحترق الأقرب إلي السواد, هذه بعض المشاهد البسيطة من ظواهر كثيرة أصبحت سمة سائدة في' تسميم' حياة المصريين, قبل أن تسمم طعامهم. طرحنا سؤالا حول هذه المشاهد علي أحد أصحاب مطاعم الفول والطعمية, رفض ذكر اسمه, فجاءت إجاباته صادمة: هناك فئة دخيلة علي المهنة انعدم ضميرهم ويبحثون عن الثراء السريع, وأصبح متداولا هذه الأيام إعادة استخدام زيوت مصانع البطاطس المحمرة في قلي الطعمية أو في الفول, وهذه الزيوت من المفروض أن تعدم حيث يتم شراؤها بأسعار زهيدة لا يتجاوز سعر الكيلو منها ثلاثة جنيهات, ناهيك عن الاستخدام المتكرر للزبوت لعدة مرات أخري, مما يتسبب في احتراقها, وهذا هو مكمن الخطورة, أما أنا فأتعامل مع تاجر واحد للزيوت ولا استلم منه الزيت إلا من خلال فاتورة معتمدة, لأن مفتش الصحة يطلبها مني عند أخذ العينة, فأنا لدي شهادة صحية وأدفع تأمينات وضرائب, وملتزم بالشروط الصحية لأنني أضع نفسي مكان الزبون, وأنظر دائما إلي أبنائي أو عائلتي ماذا لو أنهم أكلوا وجبة مصنوعة من الطعام الفاسد, الضرر قد لا يأتيني مباشرة ويمكن أن يأتي لقريب أو عزيز لدي,' أنا أراعي ربنا في شغلي' وأقوم بتغيير الزيت يوميا أو عند احتراقه. كما تري. للمستهلك رأي حسنة محمد, ربة منزل, ان: الغلاء هو سبب عدم اهتمام الناس بتاريخ الإنتاج أو الصلاحية, فالناس تبحث عن الأرخص بسبب الأعباء المعيشية.. أنا علي سبيل المثال لا أعمل وأعيش علي معاش بسيط لا يتجاوز300 جنيه شهريا, وألجأ إلي شراء اللحوم المجمدة, إن استطعت مرتين كل شهر ولا اهتم بتاريخ الإنتاج أو غيره, و'بعدين ربك الستار يا أستاذ'. فايزة حسين إبراهيم, ربة منزل: نحن نفتقد الرقابة علي الأسواق في ظل انعدام الضمير وانتشار ظاهرة مصانع' بير السلم', فنحن نسمع عن حالات لبعض التجار الذين غاب ضميرهم فيقومون بتغيير تاريخ الإنتاج وتعديله ليكون مناسبا للاستهلاك.. نحن نطالب بأن يكون تاريخ الصلاحية والانتاج في مكان واضح, وبطريقة لا يمكن إزالتها لكي لا يتم التلاعب في تاريخ الإنتاج وانتهاء الصلاحية. ' لم أسمع يوما بأن هناك مواطنا قد دخل المستشفي أو مات من أكل الطعمية', بهذه العبارة الممزوجة بالاستغراب والتشكيك بدأ عبد الفتاح مصطفي' تاجر' كلامه عندما التقته الأهرام وأخبرته عن الضرر الناجم عن تسخين الزيت, ثم قال يا أستاذ' مفيش حد بيموت ناقص عمر' أنا شخصيا لا أضع هذا الكلام في بالي لأنه لو حدث ذلك لن أكل أو أشرب شيئا, وعموما يا أستاذ' المصريين معدتهم تهضم الزلط'! محرمة دوليا ومحليا د. حسين خالد,عميد معهد الأورام ووزير الصحة' سابقا', طرحنا عليه المخاوف من تأثير هذه الظاهرة علي صحة المواطن, فأجاب قائلا: للأسف الشديد هناك بعض الظواهر السلبية, ومن ضمنها الرغبة الشديدة في المكسب السريع, كما أن هناك أنواعا من التسيب في تطبيق القواعد والمعايير الفنية المطلوبة لاي شيء, هذه الأمور يمكن أن تكون مقبولة ويمكن التغاضي عنها إلي حد ما إلا في الصحة العامة للمواطن, والتغذية الأساسية للناس, فيجب أن يكون لدينا انضباط في عملية التغذية. ويؤكد أن استخدام زيت الطعام المغلي أكثر من مرة وبشكل عام بعيدا عن هذه الظاهرة هو من الأمور المحرمة دوليا, ومحليا, وإقليميا, لماذا؟ لأن المواد الكيماوية الموجودة في الزيت تكتسب بعض الخواص التي تضر بالصحة لو تم استخدامها أكثر من مرة وفي حالة حدوثه يشكل ضررا علي صحة الإنسان, ويؤثر علي أجهزة الجسم المختلفة وبمستويات مختلفة آخرها حدوث مرض السرطان, ويعني هذا أن المداومة لمدد طويلة علي استخدام الزيت المغلي تؤدي إلي السرطان, فهي تؤدي إلي خلل في الجينات الموجودة في الخلايا وبالتالي تتسبب المواد الكيماوية الناتجة عن احتراق الزيت إلي التأثير في الجهاز الهضمي والمثانة البولية, الكبد, والكلي, وهناك أيضا ظواهر أخري في التغذية ممكن أن يكون لها علاقة بحدوث السرطان, تشمل نوع الغذاء نفسه وطرق زراعته, طرق تخزينه, طرق تصنيعه, طرق الطهي, مكسبات الطعم التي يحتوي عليها الطعام, الملونات الموجودة فيه, كل هذا وأثناء الطريق الطويل من بداية الإثمار إلي أن تصبح منتجا. هذه الأشياء تشمل خلال الزراعة المبيدات, الأسمدة المحرمة, التخزين في أماكن غير صحية وتعرضها لتلوث الهواء والفطريات التي تتجمع علي القمح تؤدي إلي حدوث سرطان الكبد, والمنظومة السالف ذكرها كلها تؤدي إلي حدوث السرطان. وعن إحصائيات مرض السرطان يقول: لم نكن نمتلك إلي وقت قريب أرقام مرضي السرطان في مصر, كنا نشعر بأن هناك زيادة في أعداد مرضي السرطان في مصر, ولكن لم يكن لدينا دليل علي ذلك, في عام2008 تم الاتفاق بين ثلاث وزارات, التعليم العالي والصحة والاتصالات, وتم إنشاء السجل القومي للسرطان في مصر, وحاليا هناك5 محافظات تمثل الجمهورية ككل, أسوان, المنيا, الغربية, دمياط, البحيرة, وفي دول العالم لا يتم حصر حالات الإصابة واحدة تلو أخري ولكن يكون هناك متوسط مستنبط لعدد الحالات من خلال التوزيع الجغرافي, فتم اتباع نفس النمط العالمي ونستطيع من خلاله تحديد عدد المصابين في مصر, وعدد حالات السرطان في مصر تقدر ب150 حالة جديدة لكل100000 نسمة كل عام. ويؤكد د. حسين خالد أهمية وجود ضمير لدي بعض التجار الذين يتربحون من التجارة في الأطعمة الفاسدة أو غير المطابقة للمواصفات التي تؤثر علي صحة الإنسان, رغبة في الثراء السريع عبر التجارة في شيء غير قانوني. عن دور وزارة التموين والتجارة الداخلية في مكافحة الأغذية الفاسدة وغير المطابقة لمعايير الجودة الصحية, ومن بينها زيوت الطعام, يقول الدكتور أحمد عباس, رئيس قطاع التجارة الداخلية: نحن نأخذ عينات من الزيوت الموجودة في المطاعم, وإذا كانت هذه الزيوت مجهولة المصدر ولا يوجد بيانات يتم ضبط الكميات الموجودة ويتم تحرير محضر بالواقعة, ويتم عرضه علي النيابة المختصة, ويتم مصادرة المضبوطات لحين صدور قرار النيابة بشأنها. فتش عن الباعة الجائلين وعن عدد مفتشي التموين وهل يكفي لتغطية الجمهورية يقول: نحن نتعاون مع الرقابة التجارية في المحافظات, وعدد المفتشين في المحافظات يكفي ويغطي الجمهورية كلها, وعن الأطعمة المنتهية الصلاحية التي تباع علي الأرصفة يقول: من يقوم بذلك هم الباعة الجائلون, وهي سلع مهربة أو مجهولة المصدر أو منتهية الصلاحية وهي من ظواهر عشوائية التجارة الداخلية, فهم يتاجرون في السلع التي قاربت علي الانتهاء, ويتم تخزينها في أماكن غير صالحة للتخزين, ومن ثم تفسد ويتم مصادرتها. ويضيف. أحمد عباس أن ظاهرة الغش التجاري سببها جشع التجار والرغبة في الثراء السريع, فهم لا يكترثون بمصلحة المواطن أو صحته. أما عن دور الإدارة العامة لشرطة مباحث التموين فيقول اللواء أحمد الموافي مدير الإدارة: تقوم الإدارة العامة لشرطة التموين والتجارة الداخلية بتوجيه حملات لضبط السلع الغذائية الفاسدة أو المنتهية الصلاحية وغير الصالحة للاستهلاك الآدمي أو غير المطابقة للمواصفات, يعاونها في هذه الحملات بعض الأجهزة المختصة مثل الطب البيطري وتفتيش الصيادلة والرقابة علي الجودة, أسفرت عن ضبط الكميات التالية من السلع الغذائية الفاسدة خلال الفترة من1 يناير2012 حتي31 ديسمبر2012, عدد القضايا2914 وحجم المضبوطات277,8777 طن, وفي الفترة من1 مارس وحتي17 مارس2013 تم تحرير430 قضية وكانت كمية المضبوطات710,874 طن. وعن إعادة استخدام زيوت الطعام المستهلكة في مصانع البطاطس مرة أخري في بعض المطاعم, يقول الدكتور يسري حسين, وكيل الإدارة المركزية' مراقبة الأغذية ومياه الشرب' بوزارة الصحة: تكمن هذه المشكلة في الباعة الجائلين, فأي مطعم مرخص لدينا علم به, لديه شهادة صحية للعاملين به والنظافة وكافة الاشتراطات الصحية, يجب أن تكون متوافرة, والمفتشون التابعون للوزارة يقومون بدورهم علي أكمل وجه في جميع المحافظات, وأي مطعم في مكان ثابت, يتم متابعته بصفة مستمرة, وتؤخذ منه عينات بطريقة دورية لمطابقة الاشتراطات الصحية, المشكلة التي لدينا في الباعة الذين ليس لديهم مكان ثابت ونجدهم علي نواصي الشوارع, ونجدهم يصنعون' الطعمية' أو سندوتشات' الفول' وخصوصا أن هذه الظاهرة زادت بعد الثورة وارتفاع أرقام البطالة, والحل الأساسي ليس في متابعتهم لأنه لا يمكن أن نتتبع هؤلاء ونطاردهم في الشوارع, ولكن الحل في إيجاد مكان لهم في' السويقات' ليكون لهم مكان ثابت وبالتالي يمكن متابعتهم, فهذه مشكلة الباعة الجائلين في كل المحافظات تقريبا ومن الضروري إيجاد حل لها.