لم أعرف شخصا اقتربت منه رئاسة الوزارة وإبتعدت أكثر من مرة كما حدث مع الدكتور كمال الجنزوري الذي عهد إليه أخيرا بتولي رئاسة وزارة الإنقاذ واثار جدلا بين الذين عارضوا اختياره واعتبروه من رجال نظام مبارك المطرود, وبين الذين أيدوه واعتبروه من ضحايا مبارك الذين غضب عليهم وأساء معاملته. وقد شهد حكم حسني مبارك الذي بدأ في أكتوبر1891 وامتد نحو ثلاثين سنة ثمانية رؤساء للوزراء أولهم فؤاد محيي الدين الذي توفي فجأة وهو في الرئاسة يوم5 يونيو5891 عن عمر85 عاما ليفاجأ حسني مبارك بأن عليه أن يختار رئيسا جديدا للوزارة يحل مكان الذي توفاه الله. ولم يكن الأمر سهلا بالنسبة لمبارك الذي لم يكن حتي ذلك الوقت يعرف لعبة الاختيار ولذلك ظلت الوزارة التي رأسها فؤاد محيي الدين تتولي تسيير الأمور بعد وفاته حتي مضي أربعون يوما دون تكليف رئيس جديد. وعندما قيل لمبارك إن أربعين يوما مضت علي وفاة محيي الدين ويجب تعيين رئيس وزراء جديد سأل الدكتور أسامة الباز: هو مين أقدم في الوزراء الموجودين؟ وعندما أجابه الباز: الفريق كمال حسن علي, قال مبارك:ماهو كويس أهو. وهكذا رأس كمال علي الوزارة بحكم الأقدمية التي كانت مقياسا مهما لحسني مبارك الرجل العسكري. إلا أن مبارك سرعان ما بدأ يشكو من كمال علي ويتطلع إلي إبعاده في الوقت الذي كان كمال علي نفسه قد زاد عليه مرض الروماتويد الذي كان يشكو منه ويتحمل آلاما شديدة بسببه. وبحسب السيناريو الذي خططه حسني مبارك مع الدكتور مصطفي الفقي سكرتير الرئيس لشئون المعلومات لإنهاء وزارة كمال علي تم إبلاغ الفريق كمال علي بموعد للقاء الرئيس في الوقت الذي أعد الدكتور مصطفي الفقي خطاب استقالة الوزارة. وحسب الاتفاق فإنه بعد وصول كمال علي وخلال لقائه مع مبارك يدق مبارك الجرس للفقي فيدخل عليهما بخطاب الاستقالة. وبالفعل دق الجرس ودخل الفقي حاملا الاستقالة التي سبق واعدها ليوقعها الفريق كمال علي وهو يشكر الرئيس لأنه أراحه وأزال عنه الحرج بعد أن زاد عليه المرض. في هذا اليوم الرابع من سبتمبر5891 كان تفكير مبارك متجها إلي اختيار كمال الجنزوري رئيسا للوزراء. أبو غزالة يعترض علي الجنزوري كان أول منصب مرموق تولاه الدكتور كمال الجنزوري في فترة الرئيس السادات محافظا للوادي الجديد ثم لبني سويف ثم في عهد مبارك أصبح وزيرا لأول مرة للتخطيط في يناير2891 في الوزارة التي رأسها فؤاد محيي الدين. وكان الجنزوري هو الذي قدم لمبارك بعد شهور قليلة فكرة عقد المؤتمر الاقتصادي الذي دعا إليه حسني مبارك عددا كبيرا من خبراء الاقتصاد والمهتمين بمستقبل مصر وهو المؤتمر الذي انتهي إلي وضع خطة عشرينية( من28 إلي2002) وفي إطارها بدأ تنفيذ الخطتين الأولي والثانية. ومنذ ذلك الوقت وضع مبارك الجنزوريفي دماغه وبدأ يفكر فيه ليس حبا في الجنزوري كما قال لي الجنزوري نفسه وإنما لما لمسه منه في شرحه البسيط للأمور التي يعرضها الآخرون في شكل معقد. كان علي حد وصف الجنزوري يريده مبارك بلية الذي يقوم بالعمل الصعب والمتعب, بينما يجلس مبارك في كرسي المعلم. ولكن المشير عبدالحليم أبو غزالة اعترض علي الجنزوري عندما بلغه تفكير مبارك في إسناد الوزارة له رغم العلاقة القوية التي كانت تربط الجنزوري بأبوغزالة وذلك لأن ابوغزالة راعي في رفضه للأقدميات, فقد كان الجنزوري في ذلك الوقت وزيرا حديثا تولي الوزارة منذ ثلاث سنوات فقط. وقد أيد الدكتور مصطفي خليل رئيس الوزراء الأسيق في عهد أنور السادات والذي كان يتولي نائب رئيس الحزب الوطني رأي أبو غزالة واقترح علي مبارك شخصية سبقت أقدمية الوزراء الموجودين في الوزارة وهو الدكتور علي لطفي الذي كان وزيرا للمالية عام87 لفترة ثمانية أشهر ثم بعد خروجه من الوزارة تولي رئاسة البنك التجاري وبدا أنه ابتعد عن الأضواء. وكان رأي مصطفي خليل الذي أدرك أهمية عنصر الأقدمية في تفكير العسكريين إن تعيين علي لطفي ينهي حساسية الأقدمية. وقد تصادف أن كان علي لطفي في زيارة لأمريكا وجري استدعاؤه منها علي عجل وجاء لايدري ماذا حدث حتي يقطع زيارة كان مستمتعا بها ولكنها الأوامر التي لايستطيع مخالفتها. وكانت مفاجأة له ولكل المصريين تكليفه رئاسة الوزارة. لكن الظروف بصورة قدرية كانت ضد علي لطفي فقد صادفت وزارته التي استمرت13 شهرا أحداثا خطيرة شكل كل منها أزمة واجهتها مصر كان أولها واقعة سليمان خاطر يوم5 أكتوبر58 بعد شهر واحد من رئاسة علي لطفي الوزارة. وسليمان خاطر أحد جنود الأمن المركزي الذي كان يؤدي فترة تجنيده علي الحدود المصرية الإسرائيلية وقد فوجيء أثناء نوبة حراسته في منطقة رأس برقة بجنوب سيناء بمجموعة من السياح الإسرائيليين يحاولون تسلق الهضبة فاطلق عليهم النيران بطريقة عشوائية قتلت سبعة. وقد قدم سليمان للمحاكمة في الوقت الذي اعتبره البعض بطلا قوميا كتبوا الأشعار والأساطير عنه وانتهت قصته بدراما حزينة إذ تم العثور عليه منتحرا في زنزانته. وبعد يومين من واقعة سليمان خاطر جاءت أزمة الباخرة السياحية أكيلي لاورو التي اختطفها أربعة من جبهة التحرير الفلسطينية يوم7 أكتوبر5891 وقتلوا راكبا أمريكيا وتدخلت مصر ونجحت في ترتيب نقل الخاطفين إلي تونس ولكن المقاتلات الأمريكية اعترضت الطائرة المصرية التي تقلهم وارغمتها علي الهبوط في صقلية في إيطاليا, وكانت واحدة من كبري الأزمات السياسية بين مصر وأمريكا. وبعد نحو شهرين في يناير68 جاءت أزمة تنظيم ثورة مصر الذي كان يقوده ضابط مخابرات سابق اسمه محمود نور الدين وقد دبر التنظيم هجوما علي سيارة إسرائيلية تضم المشاركين في جناح إسرائيل بمعرض الكتاب واصيب في الحادث بعض الاسرائيليين. وكانت أزمة جديدة بين مصر وإسرائيل ومعها أمريكا باعتبارها الراعي الرسمي لها. ثم وبعد نحو شهر وعلي وجه التحديد في مساء يوم الثلاثاء52 فبراير68 جاءت أحداث الأمن المركزي التي استدعت نزول القوات المسلحة في أزمة هزت البلاد. وكان طبيعيا أن يجري التفكير في إنهاء وزارة علي لطفي والاتجاه إلي كمال الجنزوري لولا رفعت المحجوب, وإلي الأسبوع القادم. (ملاحظة: ما سبق مأخوذ من الفصل السادس من كتابي الجديد( سنوات الصعود والسقوط. من المنصة إلي المحكمة. الفصل السادس:8 رؤساء وزارة في حكم مبارك توزيع مؤسسة الاهرام في المكتبات). ge.gro.marha@tnomhalas المزيد من أعمدة صلاح منتصر