كنت أود الكتابة عن المعايير التي يتم بناء عليها تقويم أراضي وممتلكات الشركات المطروحة للخصخصة والتي تجعل سوء التقويم أو فساده عملية منهجية, لا يسأل عنها رئيس هذه الشركة القابضة أو تلك. بل الوزارة التي مررت تلك المعايير, والجهات الرقابية التي لم تعترض عليها, والسلطة التشريعية التي لم توقفها, لكن أزمة عمال شركة أمونسيتو ومن قبلهم عمال طنطا للكتان وغزل شبين الكوم وغيرهم من العمال المعتصمين حاليا أو الذين اعتصموا في السابق في الشارع في ظروف قاسية ويواصلون نضالهم بطرق أخري للمطالبة بأبسط الحقوق, أعطت الأولوية لهذه القضية التي تجمعت فيها الكثير من الخطايا للحكومة وجهازها المصرفي واتحاد العمال والقطاع الخاص غير المسئول, ليكون الضحية هو عمال مصر الذين لا يطلبون أكثر من كسب عيشهم بكرامة من خلال عملهم وكدهم, والضحية أيضا هو الجهاز الإنتاجي الذي تسقط بعض وحداته في براثن التعطل والتقادم والتهالك تحت أعين الجميع. واذا كان رجل الأعمال الذي يحمل جنسيات سورية ومصرية وأمريكية والمالك لشركة أمونسيتو, قد هرب من مصر برغم وجوده علي قوائم الممنوعين من السفر, فإن ذلك يثير علامات استفهام عدة حول من يساعدهم علي الهروب ولا يلقي أي عقاب. وكان رجل الأعمال الهارب قد تلقي قروضا وصلت بفوائدها الي نحو1,5 مليار جنيه في الوقت الراهن, وغالبيتها الساحقة مستحقة لبنك القاهرة, والحقيقة أن حصوله علي كل هذه القروض لتمويل مشروعاته دون أن ينفق من ماله الخاص عشر ما اقترضه, يضع علامة استفهام أخري حول السياسة المصرفية, فالأصل أن يكون لدي الرأسمالي خبرة وتاريخ في العمل في المجال الذي يريد تمويل وانشاء مشروع فيه, وأن يكون لديه القدرة علي تمويل الجانب الأكبر من تكلفة المشروع من التراكم الرأسمالي الخاص به الذي حققه من قبل, حتي يبذل أقصي ما يملك من جهد للحفاظ علي ماله وادارته بأفضل الصور, وأن يخضع مشروعه لمتابعة دقيقة ودائمة من إدارة الائتمان بالبنك الذي منحه القرض, لضمان نجاح المشروع وسلامته كأفضل ضمانة لاستعادة القرض وفوائده, دون الاكتفاء بالضمانات الورقية التي يثبت في كل مرة أنها لا تغني ولا تسمن من جوع لو تعثر المشروع, لكن هذه الاشتراطات لم تتم مراعاتها كما ينبغي بصورة تحمي المال العام الذي اقرضته البنوك العامة لرجل الأعمال الهارب, والنتيجة أن كل ما تركه وراءه بعد هروبه لا يغطي قروضه, وبرغم أن البنوك أوقفت تعاملها معه منذ عام2000, إلا أن الشركة استمرت في العمل في البداية لحساب نفسها, ثم بدأت في العمل لحساب الغير في ظل عدم وجود تمويل لشراء الخامات, ثم توقفت تماما في منتصف عام2008 باستثناء المصبغة, حيث تم قطع الكهرباء بعد وصول ديون الشركة للكهرباء الي14 مليون جنيه, وتم إعطاء العاملين فيها أجازة مفتوحة منذ20 شهرا مع منح كل منهم إعانة200 جنيه شهريا من صندوق الطواريء بوزارة القوي العاملة, وهي منحة هزيلة بصورة مروعة ألقت بهؤلاء العاملين الي هوة الفقر المدقع بكل تأثيراته المدمرة علي تماسك أسرهم في ظل عجز رب كل أسرة عن الوفاء بالاحتياجات الأساسية لأسرته, بل إن وزيرة القوي العاملة وهي نقابية سابقة, قالت في النهاية, إن هناك سقفا لن تتجاوزه, أما اتحاد العمال الرسمي الذي لا يمل من الحديث عن أنه الممثل الشرعي للعمال في مواجهة صعود نزعات العاملين لتشكيل اتحادات مستقلة تحمي مصالحهم بعد تشكيل النقابة المستقلة للعاملين بالضرائب العقارية, فإنه لم يقدم في هذه القضية ما يبرهن به علي أنه الممثل الشرعي للعمال والحامي لمصالحهم وحقوقهم, واذا أراد أن يلحق ما فاته, فعليه أن يفعل الكثير للتفاوض والضغط علي بنك القاهرة ووزارة الاستثمار لتشغيل الشركة, خاصة أن رجل الأعمال الهارب قد حكم عليه بالسجن15 عاما ولا أمل في عودته لادارتها وتسديد ديونها, وبرغم أن بنك القاهرة قام بعد ذلك بدراسة لتشغيل الشركة المقامة علي مساحة50 فدانا بمدينة العاشر من رمضان والتي تضم ثمانية مصانع, إلا أنه امتنع عن ضخ الأموال الضرورية للتشغيل والتي قدرتها اللجنة التي شكلها بنحو30 مليون جنيه عبارة عن تكاليف شراء الخامات وصيانة الآلات. كذلك فإن اتحاد العمال ينبغي عليه أن يقوم بالتفاوض وحتي الضغط علي وزارة القوي العاملة لمضاعفة المنح التي تقدمها للعاملين بالشركة الذين أصبحوا في حالة تعطل بعد توقفها حتي توفي بالحد الأدني من متطلباتهم الأساسية لحين حل مشكلاتهم التي ينبغي علي ممثلي الاتحاد أن يكونوا مع العمال في حلها خطوة بخطوة اذا كانوا جادين في دفاعهم عن مصالح العمال. ولأن هناك رجل أعمال هاربا ومثقلا بديون لن يسددها ولن يعود علي الأرجح, وهناك أصل انتاجي معطل ومثقل بحقوق مستحقة للعمال وللبنوك, فإن منطق الحفاظ علي عمال مصر وهم ثروتها العظمي, وعلي أصولها الإنتاجية القائمة فعليا, يقتضي أن يتم تشكيل لجنة من خبراء يختارهم بنك القاهرة وممثلو العاملين بالشركة لتشغيل وإدارة الشركة بصورة اقتصادية كفء ونزيهة, لأن هذا التشغيل والأرباح الناتجة عنه, هو وحده الذي سيضمن للبنك استعادة حقوقه من أرباح الشركة وإعطاء العمال حقوقهم, وتمكينهم من كسب عيشهم بكرامة من خلال استمرارهم في تشغيل شركتهم التي يمثل تعطيلها خسارة فادحة لاقتصاد مصر وعمالها علي غرار ما جري في شركة طنطا للكتان التي تعد عملية خصخصتها وسوء تقويمها وتعطيلها حلقة في سلسلة إهدار شركات القطاع العام, تؤكد أن استعادة مثل تلك الشركة للقطاع العام وادارتها بصورة كفء ونزيهة وخاضعة للرقابة هو الحل الأفضل لمصلحة اقتصاد مصر وحقوق عمالها.